تعود أهل نيبال يوميا على تناول طبق واحد متكون من الأرز والخضار المجففة والنضرة. وفي الطرف الآخر من الكوكب، وتحديدا الدول المصنفة ضمن قائمة القوى العالمية، تتجه الولايات المتحدة نحو الدخول في روتين غذائي ممل، بينما يأكل الفرنسيون بصفة عبثية.
في النيبال، يشكل كل من العدس والأرز جزءا من الطبق اليومي للسكان. ففي هذه الدولة الصغيرة الواقعة بين العملاقين الهندي والصيني، يتناول سكانها، البالغ عددهم 30 مليون نسمة، طبقهم الوطني ” دال بهات” خلال كل وجبة. وعلى غرار طبق “التاهيلي” الهندي، يزين سكان النيبال طبقهم بكمية من الأرز الأبيض، وحساء من العدس، أو الفاصوليا، أو من الفول أو البازلاء، حيث تجعل الخضروات والتوابل هذا الطبق الرئيسي لذيذا، مع إمكانية إضافة اللحوم في بعض الأحيان. ويتم تقديم هذا الطبق مرتين على الأقل في اليوم، بحسب ما يريده كل شخص.
بالنسبة إلى السياح الغربيين الوافدين لتسلق جبال الهيمالايا، تتحول هذه العادة المتمثلة في تناول نفس الطبق يوميا إلى مدعاة للسخرية. لذلك، قد يكتفي بعض السياح بارتداء قميص كتب عليه “طبق دال بهات، طاقة لمدة 24 ساعة”، بينما لا يقدر البعض الآخر على مقاومة تناول طبق ثان من دال بهات، فيما يلعق البعض الآخر شفاههم بعد تذوق طبق واحد فقط، على غرار الرحالة الألمانية والصحفية في فن التذوق “كاترين”. وقد ذكرت كاترين، “لقد التقطت صورا لكل أطباق دال بهات التي تناولتها، وأنا لا أمل إطلاقا من تناولها”.
فقراء للغاية
يجب الجزم بأن الأرز حاضر دائما في الأطباق الآسيوية خصوصا لدى الدول التي تعرف بالرياح الموسمية، فعندما تتناول صحنا من الأطباق المقدمة في هذه المناطق، فمن المؤكد أنك تناولت “طبقا من الأرز المغلي”. وبحسب فيليب راميريز، المتخصص في علم الاجتماع في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، فإن “الوجبات الخفيفة لا تعد ضمن الأطباق الرسمية”. كما أفاد راميريز في تاريخ دولة النيبال أنه “حتى عندما نحس بالتخمة، نحتاج إلى أكل الأرز”، تماما مثل الحبوب التي لا تغيب عن أطباق جزء هام من دول أفريقيا.
في النيبال، يعاني طفل واحد من أصل طفلين دون سن الخامسة من سوء التغذية، ولكن ذلك ليس السبب الوحيد، حيث ترتبط مسألة تناول الأطعمة ذاتها كل يوم بالمقدرة الشرائية، أكثر من الأسباب الثقافة، والنفسية
حسب أخصائية الأنثروبولوجيا، سيدني مينتز، يعد كلا النوعان من الحبوب أساسيان في الوجبات، حيث توفر النسبة الأكبر من الطاقة فيما تحافظ على تطابقها. علاوة على ذلك، تختلف النكهات باختلاف الإضافات (مثل التوابل واللحوم والخضروات). من جهته، نوه المختص في تاريخ الأطعمة، مارتن بروغل، بأنه “خلال أوقات الأزمات، غالبا ما يزيد سعر البهارات عن سعر الطبق الرئيسي نفسه، لذلك يجبر الأكلة على تناول وجبات بسيطة ومتواترة”.
من هذا المنطلق، ترتبط رتابة الغذاء ارتباطا وثيقا بحالة الفقر. ففي النيبال مثلا، يعاني طفل واحد من أصل طفلين دون سن الخامسة من سوء التغذية، ولكن ذلك ليس السبب الوحيد، حيث ترتبط مسألة تناول الأطعمة ذاتها كل يوم بالمقدرة الشرائية، أكثر من الأسباب الثقافة، والنفسية.
مستعجلون جدا
تعج الولايات المتحدة بأمثلة من هذا النوع رغم وفرة الأطعمة فيها، حيث يتناول الأمريكي أليكسا فون توبيل، الذي يعد رئيسا تنفيذيا ناجحا لم يتجاوز 29 سنة، قائمة الأطعمة نفسها خلال أوقات الغداء، خصوصا السلطة، والتفاح، والزبادي، واللوز.
في هذا الإطار، أفادت مؤسسة شركة “ليرن فيست”، المختصة في إدارة التخطيط المالي، “يتمثل هدفي الأسمى في إعداد مخطط منظم يساعدني على عدم التفكير في اتخاذ قرارات غبية نخوض فيها كل يوم من قبيل، ماذا وأين سآكل اليوم؟” وقد فسرت سبب ذلك لمجلة “فاست كومباني” حيث قالت، “بما أنه لا نهاية للطاقة الفكرية، يجب استغلالها في التفكير بما يساعد على تقدم الشركة”.
بالنسبة لرئيسة الشركة الطموحة، أضحى تناول الغداء بمثابة مضيعة للوقت. وبما أن الأكل يبقى قبل كل شيء حاجة حياتية، تحافظ الأطعمة على مهمتها الأولية والمتمثلة في التزويد بالطاقة، أو كما نعتتها الممثلة إيفا مينديز “بوقود الجسد”. كما وذكرت هذه الممثلة الأمريكية أنها تتناول كل صباح عدة بيضات. أما خلال وقت الظهيرة والمساء، فتتناول سمك السلمون المرفق بالأرز والسلطة، حيث عبرت لمجلة “شايب” خلال شهر آذار/ مارس سنة 2017، أنه “ليس لديها مشكلة بتاتا مع الأطعمة”.
بناء على نصائح طبيب الأمراض الجلدية، تستهلك فيكتوريا بيكهام السلمون مرة واحدة يوميا. من جهتها، أكدت مقدمة برنامج “ليب سينغ باتل”، كريسي تيجن، أنها تطهو سمك القاروص بالثوم يوميا، دون أن تتوقف عن ذلك.
“أن تأكل أكثر” أو “تأكل جيدا”
من الصعب جدا أن نقتنع بأن هذا العشق لتناول السمك والسلطة مجرد صدفة. ورغم الاختلافات الأربعة في الذوق الروتيني، إلا أنها تعد أغذية صحية. ووفقا للأستاذة في جامعة مونتريال، إيلين ديليز، فإن آخر مرحلة معروفة من التحول الغذائي التي يشتهر بها كل مجتمع على حدة، تأتي نتيجة “الهواجس الصحية”، ولكن هذه الضرورة من شأنها أن تلغي الوظائف الاجتماعية للتغذية. من جهة أخرى، تأتي كلمة “طعام” من وراء المحيط الأطلسي لتعكس مفهوم التغذية ولا تعكس فن الأكل الذي يعهده الفرنسيين.
“بالنسبة لنا كفرنسيين، لا يمكن تصور هذا الحد من النظافة في الأطعمة، فعلينا أن ننسى بسرعة أننا ذواقون يعني أننا الأقرب لحقيقة الأطعمة منذ ثلاثة قرون”
حيال هذا الشأن، أفاد كل من كلود فيتشر وإيتال ماسون بأن “مفهوم التغذية يختلف لدى الفرنسيين، والأوروبيين، والأمريكيين، فهو يندرج ضمن الحرية والمسؤولية الشخصية”. فهل يعد الطعام في حد ذاته اختبارا؟ في الواقع، طرحت هذا السؤال منوعة “صباح الخير أيها الحزن”، الذي كان عنوان أحد المقالات التي نشرت في مجلة “تيلي لوازير” حول عادات الممثلة إيفا مينديز.
بالنسبة لنا كفرنسيين، لا يمكن تصور هذا الحد من النظافة في الأطعمة، فعلينا أن ننسى بسرعة أننا ذواقون يعني أننا الأقرب لحقيقة الأطعمة منذ ثلاثة قرون. فخلال النظام القديم (الملكي)، كان الفرنسيون يتناولون الحساء والخبز في كل يوم، كما تعودنا على غمس الخبز في القهوة. وبعد الثورة الفرنسية، تبنت الطبقة البرجوازية ثقافة الأروقة الملكية، وقد تحولت الفنادق الغابية الصغيرة إلى مطاعم، وطغى شعار “كل جيدا” على شعار “كل كثيرا”.
بعيدا عن المفهوم الفني للتغذية، أعطت النيبال للغذاء بعدا رمزيا. وقد أشار فيليب راميريز إلى أن “الناس يعرفون اجتماعيا بما لا يستطيعون أكله”. بصفة تقليدية، لا يأكل أبناء الطبقات الراقية سوى لحوم الماعز، في حين تستهلك الطبقة الدنيا لحوم الدجاج، ولحم الخنزير، أو لحم الجاموس. في المقابل، ما يشغل بال العديدين هو توازن الأطعمة الساخنة أو الباردة أكثر من القلق من النكهات نفسها. وفي هذا الخصوص، أشار فيليب راميريز إلى أن ” قضية رتابة الأغذية له علاقة بالعرقيات. ولفهم ذلك، يكفي أن نطرح سؤالا حول: لماذا نحن، أو لماذا نجد صعوبة في استهلاك الطعام ذاته مرتين متتاليتين؟”.
حتى جيراننا في منطقة ما وراء بحر المانش لا يستهلكون أطعمة متنوعة. فقد تم نشر إحصائية بتاريخ سنة 2012 في قناة “بيو وول فود” أكدت أن بريطاني واحد من أصل ثلاثة يتناول الغداء نفسه كل ظهيرة. والسبب في ذلك بسيط للغاية. ففي فرنسا، لا يسبب ذلك الشخص الذي يأكل العدس والأرز مرتين يوميا أزمة في الثقة مع بقية العالم.
أن تأكل، يا له من ألم
على الرغم من تكرار استخدام هذين المكونين، أي العدس والأرز، إلا أنه دائما ما يتم إضافة بعض اللمسات إلى طبق دال بهات، على غرار جعل حساء العدس أكثر تركيزا، ووضع السبانخ بدلا من القرنبيط. وعندما نطرح سؤالا على أحد النيباليين حول أكثر ما يضجره من الوجبات، يبدي ردتي فعل، حيث تتلخص الأولى في تغيير الوجبة، فيما تتمثل الثانية في أنه يحس بأن كل طبق دال بهات يختلف عن الآخر.
في الواقع، يعد التنوع الغذائي مجرد فكرة نسبية، كما أنه أمر يندرج ضمن ثوابت الإنسان، نيباليا كان أو فرنسيا، والفرق بين البشر في كيفية الأكل تتلخص في “المفارقة بين أكلة اللحوم”. فالإنسان هو الوحيد الذي يدفع نحو التنويع والابتكار لتلبية جميع احتياجاته الغذائية. وفي الوقت نفسه، يضطر إلى المحافظة على تناول الطعام ذاته خوفا من الخطر الذي قد يشكله التجديد. لذلك، فإن تناول الطبق نفسه في كل وجبة ينقص من نسبة قلقنا من الخطورة التي قد تشكلها الأطعمة على صحتنا.
في شأن ذي صلة، درس كريستوف سيرا- مالول الروابط بين الثقافة والأغذية لدى سكان منطقة بولنيزيا. وقد توصل هذا المتخصص في علم الاجتماع إلى أن تكرار تناول المواد الغذائية الأساسية ذاتها (مثل القلقاس، أو الفاكهة، والخبز، وفقا للأطعمة التي تختص بها هذه الجزر) يعزى إلى أنها “تحتوي على قيمة غذائية مطمئنة” بالنسبة لسكان تاهيتي، والأمر سيان بالنسبة بتناول الأرز في آسيا. ففي حالة فقدان هذا الطعام من الوجبة الأساسية “يحس الأشخاص بنقص ما”.
بناء على ذلك، يعتبر الخوف من استهلاك أطعمة جديدة بمثابة فوبيا شبيهة بالاضطراب الذي ينتاب الأطفال عندما يقولون “لا” بصفة منهجية لأهاتهم اللاتي يحاولن إطعامهم غراتان الكوسا. وخلال فترة النمو، يمكن أن يتسبب خوف الطفل من تجربة أغذية جديدة في إصابته بأمراض خطيرة.
من جانبها، ذكرت خبيرة علم النفس المتخصصة في اضطرابات الأكل، بلاندين ماشيفيرت، أنها “تعاملت مع حالة طفل صغير كان يريد تناول منتجات الألبان من ماركة معينة، أثناء سفره إلى إيطاليا مع والديه، وقد انتهى به المطاف في المستشفى لأنه لم يأكل شيئا”. أما في سن البلوغ، يصبح كل شيء معتمدا أساسا على ما رتبته في لوحة خاصة بك، حيث قالت الأخصائية “كنت أعرف شخصا لا يأكل سوى شرائح اللحم المقلية والكعك، والشوكولاتة، كما كان لديه قائمة تضم ثلاثة مطاعم، لم يقدم على تغييرها أبدا”.
في المقابل، عندما تكون لرتابة الأطعمة عواقب على الصحة، أو تأثر على علاقتك بمحيطك، تصبح أشبه بحالة مرضية. ولكن، أكدت الأخصائية النفسية “على أية حال، أميل إلى الاعتقاد بأننا لسنا بمنأى عن الاكتئاب، على الرغم من أننا نفضل دائما تناول سمك السلمون واللوز”.
المصدر: سلايت الفرنسية