يبدو أن حالة الغليان التي يعاني منها المشهد السعودي لا تزال تفرض نفسها وبقوة على الساحة الإقليمية، إلى الحد الذي بات فيه التقاط الأنفاس دربًا من دروب الخيال، فتسارع وتيرة الأحداث يومًا تلو الآخر واتساع نطاق الصراع أجهض الكثير من التوقعات والسيناريوهات الموضوعة مسبقًا.
ورغم تشعب دائرة الصراع السعودي من اليمن إلى قطر ثم لبنان وبعدها إيران ومن قبلها سوريا، فإن مذبحة الـ4 من نوفمبر التي أطاح فيها محمد بن سلمان بما يزيد على 50 اسمًا من أمراء المملكة وكبار رجال أعمالها كانت الأكثر حضورًا في المشهد لما يترتب عليها من تداعيات – وفق التأويلات السياسية – تقود ولي العهد الشاب إلى خلافة والده في مشهد فاق سقف توقعات الجميع بلا استثناء.
في تقرير نشره موقع “INTERNATIONAL POLICY DIGEST” الأمريكي، كشف النقاب عما وصفه بـ”الاستيطان السعودي” ومخطط ابن سلمان لتعبيد الطريق نحو الكرسي متخلصًا في طريقه من كل العقبات التي تعيقه عن بلوغ هدفه الأساسي، حتى إن استدعى الأمر إعادة تشكيل خريطة المملكة من جديد ضاربًا بمرتكزاتها التاريخية عرض الحائط.
ليلة السكاكين الطويلة
لم تكن حملة الاعتقالات التي شنها محمد بن سلمان ليلة السبت 4 من نوفمبر والتي شملت في مرحلتها الأولى 18 أميرًا وما يقرب من 38 رجل أعمال، بهدف مكافحة الفساد فحسب كما أشارت المصادر الرسمية السعودية، إذ إن البُعد السياسي كان حاضرًا وبقوة خلال هذه الحملة، هكذا أشار التقرير.
الموقع الأمريكي شبه ما حدث في هذه الليلة بـ”ليلة السكاكين الطويلة” أو ما يعرف بالألمانية بـ”روم بوتش”، وهي عملية التطهير التي قادها الزعيم الألماني النازي هتلر بين 30 من يونيو و2 من يوليو 1934 عندما نفذ سلسلة من عمليات الإعدام السياسية ضد خصومه السياسيين، في إشارة منه إلى أوجه الشبه بينهما، حيث تخلص محمد بن سلمان في ليلة واحدة من الجزء الأكبر من الفريق المعارض لوصوله للكرسي والداعم لولي العهد الأسبق محمد بن نايف الذي تمت الإطاحة به فيما عرف بـ”انقلاب القصر” في يوليو الماضي.
الركائز التاريخية للحكومة السعودية تتمثل في 3 محاور: التوافق الأسري والعلاقات مع المؤسسة الدينية “الوهابية” وتوزيع عائدات الطاقة، جميعها باتت في مهب الريح منذ قدوم الملك سلمان ونجله للحكم قبل عامين
كما أشار إلى أن الأسماء التي شملتها حركة الاعتقالات وعلى رأسها الأمير متعب بن عبد الله رئيس الحرس الوطني المقال من منصبه والمرشح السابق لولاية العهد، كذلك الوليد بن طلال أحد المعارضين لوصول ابن سلمان للحكم بهذه الطريقة والداعم لمحمد بن نايف، تشير إلى أن الحملة كان لها أهداف سياسية واضحة حتى وإن لم يتم الإفصاح عن ذلك بشكل رسمي.
فصول المذبحة لم تتوقف عند ليلة السبت فقط، بل تمددت لتشمل دفعة جديدة ممن يُشك في ارتكابهم تجاوزات، بينهم أشخاص تربطهم صلات بأسرة ولي العهد ووزير الدفاع الراحل سلطان بن عبد العزيز الذي توفي في عام 2011، كذلك شملت مديرين ومسؤولين في مناصب أدنى في المؤسسات الحكومية السعودية، ليرتفع معها عدد الحسابات البنكية المجمدة في سياق التحقيق من 1200 حساب في الجولة الأولى إلى 1700 حساب في الوقت الحاليّ، بحسب رويترز.
وخلال اليومين الماضيين انتقلت أيادي حملة الاعتقالات لتمتد إلى بعض قيادات الجيش السابقين، وذلك حسبما نقلت وكالة “بلومبيرج” الأمريكية عن مصدر سعودي قوله إن الحملة التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان لمكافحة الفساد امتدت لتشمل ضباطًا متقاعدين في الجيش السعودي، بلغ عددهم تقريبًا 14 ضابطًا كانوا يعملون في وزارة الدفاع، بالإضافة إلى ضابطين متقاعدين كانا يخدمان في الحرس الوطني.
الإطاحة بالأمير متعب بن عبد الله شكلت مفاجأة للجميع
ركائز المملكة التاريخية
التقرير تطرق إلى مساعي ولي العهد لإعادة تشكيل ركائز السعودية التاريخية التي ارتكنت عليها منذ نشأتها، وهو ما يحمل وفق وصفه “مغامرة” ربما تعيد رسم الخريطة السياسية للمملكة، إما نحو مزيد من التقدم والخروج من العباءة التقليدية التي عاشت في ظلها عقود طويلة، أو التقهقر للخلف والإطاحة بالنظام الحاليّ برمته.
الركائز التاريخية للحكومة السعودية تتمثل في 3 محاور: التوافق الأسري والعلاقات مع المؤسسة الدينية “الوهابية” وتوزيع عائدات الطاقة، جميعها باتت في مهب الريح منذ قدوم الملك سلمان ونجله للحكم قبل عامين، في ظل التحولات الجذرية التي أدخلها عليها خلال العام الأخير على وجه الخصوص.
أولًا: التوافق الأسري.. منذ نشأة المملكة بصورتها الحديثة على يد الملك سعود كان الحكم من شيوخ العائلة المالكة، وكان لدى الملك المؤسس 45 طفلًا من بينهم 36 ذكرًا، هذا بخلاف الكثير من الأحفاد فيما بعد، وهو ما غزى روح المنافسة على العرش بين الأبناء.
هذا النظام التنافسي الذي وصل في بعض مراحله للخصومة دفع الجميع إلى التمسك بروح الأسرة الواحدة حفاظًا على استقرار وتماسك المملكة، ومن ثم خلق حزمة من الضوابط والتوازنات حالت دون تفرد أي فصيل ملكي واحد بالسيطرة على البلاد، ونتيجة لذلك تم تحديد القرارات الاقتصادية والسياسية الرئيسية بتوافق الآراء فيما بين العشائر العائلية، إذ إن نظام السلطة القائم على الإجماع هذا يضمن وحدة الأسرة السعودية، وكان يعمل كدعامة أساسية للاستقرار في المملكة.
ومع قدوم سلمان تغيرت الأوضاع، حيث طمع في العرش لابنه وبات يمهد الطريق لذلك متخلصًا من أشقائه وأبناء عمومته، فكان الضحية الأولى الأمير مقرن بن عبد العزيز الذي أُجبر على التنحي عن ولاية العهد مما فتح الباب أمام محمد بن سلمان للدخول على قائمة الانتظار كولي ولي للعهد، ثم جاءت الضربة القاضية للأمير محمد بن نايف، ليجبر هو الآخر على الاستقالة والتنازل لصالح نجل سلمان.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فقط، بل سعى ولي العهد إلى التخلص من كل الداعمين لفريق ابن نايف، حتى لو كانوا ضمن أفراد الأسرة الحاكمة، وكان له ما كان، فضلًا عن إطاحته بالموالين له من رجال الأعمال وكبار الشخصيات بالمملكة، كما ذُكر سابقًا.
ثانيًا: استقرار العلاقة مع المؤسسة الدينية.. ارتكز النظام السعودي منذ نشأته على القوام الديني كأحد أقوى عناصر تماسكه التي تعطيه الثقل الإقليمي بين المسلمين، إذ كان هناك ما يشبه اتفاق ضمني بأن يسيطر نظام آل سعود على الجانب السياسي بينما يسيطر أبناء وأحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب على الجانب الديني، ولا دخل لأي منهما في عمل الآخر، وهو ما اعتمدت عليه المملكة طيلة العقود الماضية.
بدأ ولي العهد في حشد الشباب لصفه من خلال إجراء العديد من الإصلاحات التي تعزف في المقام الأول على أوتار رضاهم عنه وتأييدهم له
لكن مع قدوم ابن سلمان تغيرت الأوضاع حيث سعى إلى تقليل النفوذ الديني بشتى السبل، عبر اعتقالات للدعاة ورجال الدين من جانب، واستئناس بعضهم لخدمة أهداف النظام من جانب آخر، وتعيين ذوي الحظوة من المقربين في الأماكن الحساسة بعد التخلص من الحرس القديم من جانب ثالث، فضلًا عن الدور الذي تقوم به هيئة الترفيه المشكلة لإجهاض نفوذ هذا التيار بشكل كامل.
ثالثًا: عائدات الطاقة.. وهي الركيزة الثالثة للسعودية، حيث كانت تعتمد على آلية معينة في توزيعها على الأسرة المالكة من جانب والسلطة الدينية من جانب ثانٍ، والشعب عبر الخدمات والمنح والمشاريع من جانب ثالث، إلا أن تراجع أسعار النفط في السنوات الأخيرة ساهم بشكل كبير في إخراج هذا المرتكز عن المعادلة بصورة كبيرة، بحسب التقرير.
نجح ابن سلمان في التخلص من معظم رجال ابن نايف
بين الشعبوية والاستبداد
خلال العام الأخير نجح ابن سلمان في فرض هيمنته شبه الكاملة – بحسب الموقع الأمريكي – على جميع مقدرات الدولة، هذا بخلاف سحب صلاحيات العشائر العائلية من الهيئات والمؤسسات الحكومة، وبالتالي تحول النظام من المركزي العام إلى المركزي الفردي، ليضع ولي العهد الأمور كلها تحت تصرفه، في إطار رؤيته الجديدة 2030 التي يسعى من خلالها إلى إحداث نقلة نوعية في السعودية اقتصاديًا وسياسيًا.
إطاحة ابن سلمان بالركائز التاريخية السعودية في إطار التحركات الديكتاتورية التي يقوم بها لإعادة تشكيل المملكة وفق أهوائه الخاصة وبما يتماشى مع طموحاته، تتطلب البحث عن بدائل وحاضنة شعبية تعوضه عن هذه الركائز، خاصة أنه ليس حاكمًا منتخبًا، ومن ثم كان العزف على وتر الشباب.
لم تكن حملة الاعتقالات التي شنها محمد بن سلمان ليلة السبت 4 من نوفمبر والتي شملت في مرحلتها الأولى 18 أميرًا وما يقرب من 38 رجل أعمال، بهدف مكافحة الفساد فحسب كما أشارت المصادر الرسمية السعودية، إذ إن البعد السياسي كان حاضرًا وبقوة
بدأ ولي العهد في حشد الشباب لصفه من خلال إجراء العديد من الإصلاحات التي تعزف في المقام الأول على أوتار رضاهم عنه وتأييدهم له، فكان التمكين لهم عبر السعودة، ودعم المرأة السعودية من خلال السماح بقيادة السيارة أو دخول الملاعب الرياضية أو الترشح للمناصب القيادية، وتنشيط الجانب الترفيهي في حياتهم، فضلًا عن دعم خطوات لبرلة المجتمع في أكثر من اتجاه.
غير أن التقرير ذهب في زاوية أخرى إلى أن هذه المغامرة ربما تكون محفوفة بالمخاطر، خاصة في ظل التحديات التي تواجهها المملكة سواء من بقايا المعارضين في الداخل أو الأجواء الإقليمية الملبدة، بدءًا بالخسائر التي تتكبدها المملكة في اليمن مرورًا بالتراجع خطوة للوراء في سوريا، في مقابل تمديد نفوذ حزب الله وفرض طهران كلمتها في كثير من الملفات، ثم التصعيد مع لبنان وما قد يفتح الباب أمام مزيد من التوتر في العلاقات مع بعض العواصم الأوروبية كبرلين وباريس وغيرها.
كل هذه التحديات لا شك أنها ستقف حجر عثرة أمام معادلة المواءمة بين شعبوية محمد بن سلمان واستبداديته، غير أن الترجيحات كافة تذهب إلى أن حملة الاعتقالات لن تتوقف في القريب العاجل، وأن القوس سيظل مفتوحًا لفترة ليست بالقليلة وحتى تنصيبه ملكًا إذا ما صحت الأنباء التي تشير إلى تنحي الملك سلمان عن الحكم قريبًا لصالح والده، إلا أن الأمر يتوقف على قدرة ولي العهد على إحداث هذه المؤاءمة حتى تسميته رسميًا ملكًا على السعودية.