قضيت الـ48 ساعة الماضية بعيدًا عن إسطنبول في مدينة تقع في قلب الأناضول على الطريق بين القسطنطينة إلى أنطاليا، وفي خط الوصول من أزمير إلى أنقرة، في مدينة احتدمت فيها السيوف منذ أكثر من 3 آلاف عام على أسوار قلعتها الشاهقة، وتناثر حسنها على سفح الوادي المحتمي برماح السلاجقة الطويلة.
مدينة أفيون قره حصار
مدينة أفيون قره حصار مدينة تاريخية تأسست سنة 1350 قبل الميلاد، أسسها الحيثيون “الأقوام الهندو أوروبيون” كقلعة حصينة على قمة جبل شاهق، ثم توالت عليها الأزمنة فسيطر عليها القبارصة والإيرانيون ثم خضعت لحكم البيزنطة، استمرت الهيمنة البيزنطية حتى هزيمة هذه الدولة أمام الأتراك السلاجقة في معركة ملازكرد في 464 ه/1072م لتدخل في حكم السلاجقة، وقبل ذلك التاريخ سيطر المسلمون أكثر من مرة على أفيون وقلعتها خلال حملات الخلفاء الأمويين والعباسيين التي كانت تستهدف القسطنطينة ثم يتم الانسحاب منها بعد نهاية الحملات العسكرية.
أفيون بعد سقوط الدولة السلجوقية أصبحت ضمن الأراضي التي يحكمها المغول، ثم دانت المدينة للخلافة العثمانية لاحقًا، ووصلت قوات إبراهيم باشا المصري وفرضت سيطرتها عليها خلال حملته على شمال بلاد الشام ثم انسحب منها.
في التاريخ الحديث سقطت المدينة بيد اليونانيين خلال الحرب العالمية الأولى ثم حُررت من الاحتلال اليوناني في محرم 1341/أغسطس 1922 وانضمت إلى أراضي الجمهورية التركية ضمن معارك حرب الاستقلال.
قلعة قره حصار مع مئذنة الجامع الكبير في أفيون
الإرث السلجوقي
في ظل كل هذا الاحتدام التاريخي يبقى أهالي قره حصار متمسكين بالإرث السلجوقي كتاريخ يفتخرون به وينتمون له، فيعتبر علاء الدين كيقباد بن كيخسرو سلطان سلاجقة الروم المجدد لقلعة قره حصار والموسع للمدينة، وخلال وجودك على تلك البقعة من الأرض ستقرأ الفخر بهذا التاريخ في عيون الناس قبل أن تنطق به ألسنتهم.
المدينة اليوم تشعر حين دخولك لها ووجودك فيها أنها مدينة عذراء لم تصل إليها حمى البراغماتية العالمية ولا دعوات الانقلاع من الجذور إلى الهوائية، تجد كرمًا حقيقيًا غير مصطنع وارتباطًا بالأرض والتاريخ.
في المدينة القديمة ستجد مسجدًا جامعًا للمولوية تحول لشبه متحف، يعرض لك طريقة عيش المولوي بداية من الطعام ونهاية بالملابس وطريقة الذكر، ويعتبر المسجد ثاني أكبر مساجد المولوية في تركيا بعد قونيا ويوجد فيه عدد من المصاحف التاريخية، وفي سوق المدينة تجد اعتزازًا وحفاوة بمحلات بيع السجق التركي التي تشتهر المدينة بصناعته وإنتاجه وتصديره على شكل مميز.
محاجر الرخام “المرمر” في مدينة أفيون
فيما يغادر الوادي السكون في بعض الأحيان بأصوات انفجارات بعيدة من محاجر الرخام “المرمر” الذي يعتبر أحد أبرز المصادر الاقتصادية في المدينة، فهناك أكثر من 500 محجر ومعمل لاستخراج وتقطيع وتصنيع الرخام بتفاصيل عديدة ومتنوعة، ويعتبر الرخام الأفيوني من الخامات المميزة في العالم، ويتصدر المواد المصدرة من المدينة.
علب المياه والعصائر الغازية في مدينة أفيون تحمل طابعًا خاصًا، فهي تصنع على شكل دمعة ماء اعتزازًا بعيون المياه الكبريتية في المنطقة التي حولت أفيون إلى عاصمة للسياحة العلاجية في تركيا، فتجد المدينة تضم عددًا غير محدود من المنتجعات الصحية المعتمدة على المياه الكبريتية المتوفرة في المنطقة، البنى التحتية للمدينة عالية الجودة في هذا القطاع فتجد الفنادق الخمس نجوم لاستقبال طالبي العلاج، فيما جهزت المستشفيات في المدينة بأقسام خاصة للعلاج الطبيعي عبر مياه العيون الكبريتية وأجهزة حديثة لعلاج الإصابات الطبية.
كما لاحظت خلال زيارتي تخصيص قسم خاص في المستشفى الرئيسي للمدينة لعلاج السرطان بشكل فيزيائي بعيدًا عن التدخل الجراحي بأجهزة حديثة تم تشغيلها قبل نحو عام واحد، وذكرت الطبيبة المسؤولة عن الأجهزة أن الجهاز قدم العلاج لأكثر من ألف مريض مصاب بالسرطان خلال هذا العام.
العلاج الطبيعي بإستخدام المياه الكبريتية في منتجعات مدينة أفيون الصحية
وجود الفنادق والمنتجعات الصحية إضافة للأجهزة الطبية الحديثة وعيون المياه الكبريتية مع الطبيعة الجميلة للمدينة الجبلية الزراعية جعلها قبلة للسياحة العلاجية وخاصة المتعلقة بالعلاج الطبيعي، فيما تشتهر المدينة أيضًا باستقبال الفرق الرياضية، حيث المعسكرات التدريبية والخدمات الطبية التأهيلية التي جعلت من أفيون قبلة رياضية أيضًا.
ما يلفت النظر في أفيون قره حصار هي قدرة الدولة التركية على استثمار كل المواد التي تتمتع بها الأرض، عبر تسهيلات كبيرة للاستثمار ورفع مستوى البنى التحتية للمرافق الخدمية لتحويل مدينة زراعية تاريخية بسيطة لمدينة استثمارية صناعية سياحية، فمصانع الحلويات والسجق والرخام تجدها على مد البصر فيما تنشط السياحة العامة والعلاجية مستغلة عيون الماء الكبريتية والتاريخ والأرض الخلابة في صورة مشرقة لحسن العمران والتنمية الشاملة.