ترجمة وتحرير: نون بوست
في الواقع، لم يقع تنظيم أي رحلات انطلاقا من محطة القامشلي منذ سنوات. في الأثناء، يستطيع المار عبر المكان رؤية قاطرات الديزل، التي علاها الصدأ، رابضة على السكك الحديدية، التي تؤدي إلى مسارات مهجورة أصبح من غير الممكن الوصول إليها جراء الحرب المستعرة. وفي حين توقفت محطة القطارات عن العمل، عمدت القوات التي تسيطر على معظم أجزاء المدينة إلى استغلال المحطة للاضطلاع بمهمة جديدة. ففي الحقيقة، باتت المحطة تستضيف مكاتب القيادة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية الكردية، التي انتصرت على تنظيم الدولة في الرقة، على بعد 230 كيلومترا عن الحدود التركية. في المقابل، تتقاطع خطوط الجبهة مع السكك الحديدية في شرق سوريا، ما يجعلها عرضة للتغير المستمر.
في أعقاب الهزيمة التي مُنيت بها التنظيمات الجهادية، التي فقدت سيطرتها على عديد المناطق الشاسعة باستثناء بعض الجيوب الصحراوية، سيطر النظام على مدينة دير الزور التي تقع في نهاية السكك الحديدية المهجورة في القامشلي. وبالتزامن مع ذلك، يواصل نظام الأسد تقدمه على الضفة الشرقية من نهر الفرات، حيث شن عملية عسكرية على مواقع في البوكمال، آخر معاقل تنظيم الدولة على الحدود العراقية.
من جهتها، تمكنّت قوات سوريا الديمقراطية، التي تحظى بدعم التحالف الدولي، من استعادة مناطق عدّة على الضفة الغربية من نهر الفرات من قبضة تنظيم الدولة، والسيطرة على حقول الغاز والبترول هناك. وبالنظر إلى أن سقوط تنظيم الدولة أدى إلى انبثاق جغرافيا جديدة، سيقع على عاتق قيادات قوات سوريا الديمقراطية في محطة القامشلي القديمة تحديد ملامح هذه الجغرافيا.
في 7 من تشرين الثاني/ نوفمبر، صرح بشار الأسد أن الحرب ستتواصل بعد انتصار قواته في دير الزور، فضلا عن مواجهة أولئك الذين يهدفون إلى تقسيم الدولة واضعافها
في هذا الصدد، أفاد “الرفيق” بدران، أحد قادة قوات سوريا الديمقراطية في شمال البلاد، أن “هناك قوتان فقط على أرض المعركة في سوريا، النظام ونحن. وفي حال اندلعت مواجهات بين الطرفين، ستعم الفوضى أو ندخل في محادثات من أجل إيجاد حل سياسي، بيد أننا نفضل الحوار”.
رسميا، تطالب القيادة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية، المتشبعة بالفكر الأيديولوجي والعسكري لحزب العمال الكردستاني الناشط في تركيا منذ سنة 1980، بإقامة نظام فيدرالي في سوريا. ويكمن التحدي بالنسبة لهذه القيادة في اعتراف النظام السوري بسيادة قوات سوريا الديمقراطية على الأراضي الشاسعة التي تقع تحت سيطرتها والتي يقطنها إما الأكراد، أو العرب أو الاثنان معا، بعد استرجاعها من قبضة تنظيم الدولة. في الأثناء، يغيب الحديث عن الحصول على استقلال تام.
بيانات عدائية
منذ سقوط الرقة، اتسمت التصريحات الصادرة عن دمشق بطابع عدائي. وبغض النظر عن حرص القيادات الكردية في قوات سوريا الديمقراطية على التزام الحذر، إلا أنها لا تزال متهمة بالجنوح نحو الانفصال. في 7 من تشرين الثاني/ نوفمبر، صرح بشار الأسد أن الحرب ستتواصل بعد انتصار قواته في دير الزور، فضلا عن مواجهة أولئك الذين يهدفون إلى تقسيم الدولة واضعافها. وتجدر الإشارة إلى أن هذه التصريحات نُشرت في أعقاب اللقاء الذي جمع الرئيس السوري بالمستشار الدبلوماسي للمرشد الأعلى الإيراني، علي أكبر ولايتي. وقد أكد ولايتي، من بيروت في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر، أن النظام وحلفائه سيحررون الرقة من قوات سوريا الديمقراطية في “المستقبل القريب”.
في المقابل، برز طرف آخر، الذي يعتبر من أبرز حلفاء بشار الأسد، تراهن عليه القيادات الكردية، حتى تتمكن من دفع النظام إلى القبول بحل ينبثق أساسا نتيجة خوض مجموعة من المفاوضات. وفي هذا الصدد، أفاد “الرفيق” بدران، أن “إيران تتبنى موقفا إيديولوجيا متشددا وذلك بهدف استعادة النظام للسيطرة على كامل الأراضي السورية. ولكن روسيا تعتبر أكثر انفتاحا، حيث ترحب بحل يضمن لها الحفاظ على جميع الأوراق لصالحها على الأراضي السورية”. تعتبر هذه النية في التقارب مع موسكو صادمة من قبل قوات مدعومة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 2015، في إطار حرب القوات الكردية ضد تنظيم الدولة. في الأثناء، لم تنفك القيادات الكردية تسعى لتوطيد علاقاتها مع روسيا، على غرار العسكرية منها، في عفرين شمالي حلب. وقد سمحت الحرب التي شنها الأكراد ضد تنظيم الدولة لمختلف القوات بكسب موطئ قدم على الساحة السياسية.
تم عقد مجموعة من اللقاءات بين مفوضين روسيين قدموا من موسكو في القامشلي
من جهته، أوضح “الرفيق” بدران، أنه “بعد تحرير الرقة وعدت الولايات المتحدة باتخاذ جملة من الخطوات بهدف ضمان الاعتراف بنا، ولكننا توصلنا في الوقت الراهن إلى أن الأمريكيين لا يملكون أي إستراتيجية في سوريا، سوى المنهج العسكري، في حين أن الروس يتبنون مشروعا واضحا”. والجدير بالذكر أن هذا التعاون السياسي مع روسيا سيظل رهينة علاقة موسكو بأنقرة.
في هذا السياق، كان من المرتقب أن تستضيف المدينة الروسية سوتشي، الواقعة على شواطئ البحر الأسود، في 18 من تشرين الثاني/ نوفمبر أول مؤتمر للحوار الوطني السوري، في لقاء يهدف إلى تجاوز محادثات جنيف، برعاية الأمم المتحدة، والوصول إلى حل سياسي في سوريا بفضل قوات لا تكن العداء تجاه روسيا. ويعتبر حضور قوات سوريا الديمقراطية، التي استثنت من محادثات أستانة بسبب المعارضة التركية، في هذا مؤتمر شعوب سوريا فرصة للظهور لأول مرة في إطار رسمي وشرعي.
في حقيقة الأمر، ساهمت التحركات العسكرية العدوانية التي نفذتها تركيا إلى جانب القوات التي تدعمها، في الدفع نحو عقد قمة سوتشي. فمن وجهة نظر أنقرة، لا تعدو قوات سوريا الديمقراطية أن تكون أكثر من امتداد لحزب العمال الكردستاني الذي يقود حرب عصابات في الجنوب الشرقي لتركيا منذ سنة 1984. وفي سياق متصل، وقبل أن يلتقي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره فلاديمير بوتين بسوتشي، سارع بالتراجع عن تهديده بشأن شن عملية عسكرية تركية في المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد في عفرين. ويعزى ذلك إلى أن مثل هذه العملية لا يمكن أن تحدث فعليا من دون موافقة موسكو.
في ظل هذا الجو الدبلوماسي المشحون، الذي لن يساهم إلا في حصد المزيد من الأرواح، تسعى القيادات الكردية للاستفادة من نفوذها في الأراضي التي تسيطر عليها من أجل كسب الدعم الروسي. وفي هذا السياق، تم عقد مجموعة من اللقاءات بين مفوضين روسيين قدموا من موسكو في القامشلي، المدينة التي يمثل مطارها، الذي يقع تحت سيطرة النظام، نقطة الوصل بينها وبين دمشق. من جانبها، أقرت إلهام أحمد، مساعدة رئيس مجلس سوريا الديمقراطية، الواجهة السياسية للقوات سوريا الديمقراطية، بأن “مستقبلا، قد نتوصل إلى إبرام توافق مع روسيا التي بدورها ستؤثر على قرارات النظام”.
ممتلكات قيمة
تعتمد القيادات الكردية في المفاوضات التي ستجريها مع النظام على بعض الممتلكات القيمة. فبفضل تحالفها الاستثنائي على الأرض مع الولايات المتحدة في مواجهة تنظيم الدولة، سيطرت قوات سوريا الديمقراطية على مساحات شاسعة من الأراضي وعلى بنية تحتية إستراتيجية. فضلا عن ذلك، يسيطر الأكراد منذ سنة 2016، على منبج، المدينة التي يقطنها غالبية من العرب، والتي أصبحت نقطة تجارية مهمة تصل بين المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، والجارة تركيا، والمناطق التي يسيطر عليها الحلفاء المعارضين للأسد، والأراضي الواقعة تحت سيطرة النظام. بالإضافة إلى ذلك، يسيطر الأكراد على الرقة، المدينة الصحراوية المدمرة بالكامل، ناهيك على سد تشرين وسد الطبقة، أكبر منشأة للطاقة المائية في البلاد.
علاوة على مختلف غنائم الحرب التي ذكرت آنفا، وضع الأكراد يدهم على الآبار البترولية في محافظة دير الزور، حيث يقع حقل العمر النفطي بالقرب من الحدود العراقية، وذلك بتاريخ تشرين الأول/ أكتوبر. وفي هذا السياق، أفاد مستشار سياسي رائد في قوات سوريا الديمقراطية، قائلا: “لقد شاركنا في معارك بعيدة عن مواقعنا، على غرار الرقة، من أجل الظفر بشيء من القوة في مواجهة النظام بعد سقوط تنظيم الدولة. أما اليوم، فقد عززت هذه المكاسب نفوذنا ومجال سيطرتنا وسمحت لنا بالحفاظ على السيادة في قلب أراضينا الواقعة على كامل الحدود التركية”.
المصدر: لوموند