رغم تفاعل كرة القدم مع عديد من القضايا الإنسانية الكبرى في شتى بقاع العالم، تظل الاتحادات الكبرى المسيرة لشؤون اللعبة رافضة للسياسة واعتبارها خطًا أحمر، غرامات تُوقع وعقوبات قاسية تُفرض على من اجتاز هذا الخط، لكن أحيانًا، يطغى الجانب الإنساني على اللاعبين والجماهير، رافضين الصمت تُجاه ضيم ألمَّ بالعالم، بدعوى فصل السياسة عن الرياضة.
وحينما يتعلق الأمر بفلسطين والعدوان الصادر من الجيش الصهيوني الغاشم تجاه شعب رافض التخلي عن بلده، لا يمكن لجماهير كرة القدم ولاعبيها إلا التعبير عن رفضهم للظلم والتفاعل مع كل مجزرة راح ضحيتها عشرات أو مئات الأبرياء، حينما تراق الدماء ظلمًا وعدوانًا، فلا أحد يأبه لقوانين الفيفا أو اليويفا، ينتصر الجانب الإنساني وترفع الأعلام الفلسطينية أمام شاشات التلفاز التي يشاهدها مئات الملايين، تعريفًا بقضية طالها النسيان أمام واقع مزر تمر به البشرية.
ومن جميل ما نراه في باب التضامن مع شعب فلسطين الحر، أن شعارات “عاشت فلسطين” و”الموت لإسرائيل” لا تقتصر على اللاعبين العرب أو المسلمين، فقد امتد الأمر لرفعها في الملاعب الأوروبية وبوجود كبار الفرق العالمية، إنها سليقة الإنسان التي ترفض الظلم وتتعاطف مع المظلوم بغض النظر عن الهوية والعرق والمذهب، فقد سجل التاريخ ما بين سنة 2000 وسنة 2015، وقوع أكثر من 650 حادثة تعاطف مع فلسطين ضد “إسرائيل” في الملاعب العالمية، هذا غير الحديث عن أندية جعلت من القضية الفلسطينية هوية لها، والحديث هنا عن نادي “بالاستينو” أو “فلسطينو” التشيلي، الذي جعل ألوان العلم الفلسطيني حاضرة في قمصانه، وحارسهم المعروف بارتداء الكوفية الفلسطينية.
أبو تريكة وكانوتيه ينتصران للقضية
النجم المصري محمد أبو تريكة واحتفاليته الشهيرة بقميص يحمل عبارة “تعاطفًا مع غزة”
سنة 2008، شهد العالم قصفًا وحشيًا للعدوان الصهيوني على غزة، مئات الأبرياء راحوا ضحية الهجوم الدموي، والعالم لم يحرك ساكنًا لإيقاف محطة أخرى من محطات العار على الإنسانية، بالموازاة مع هذه الأحداث، كانت بطولة كأس أمم إفريقيا (غانا 2008) قد بدأت، والتعليمات من الاتحاد الإفريقي صدرت بمنع رفع أي شعار سياسي بملاعب البطولة، وكأن المقصود بهذا الأمر شخص واحد عُرف عنه الانتصار لمثل هذه القضايا: محمد أبو تريكة.
نجم المنتخب المصري السابق، ما كان ليظل صامتًا وأخوته في قطاع غزة يبادون، فكانت الفرصة خلال لقاء منتخب الفراعنة مع نظيره السوداني في دور المجموعات، حيث أحرز نجم خط الوسط هدفه الأول بالمباراة، وأشهر قميصًا كان يرتديه تحت قميص الفريق كتبت عليه عبارة: “تعاطفًا مع غزة” باللغتين العربية والإنجليزية، حكم اللقاء أشهر في وجه أبو تريكة البطاقة الصفراء، لعلها الأجمل في مسيرة الماجيكو.
ليس الشعب العربي وحده من ينتصر لفلسطين، مواقف الجماهير الأوروبية خير دليل على أن القضية الفلسطينية قضية إنسان
“لقد كتبت في وصيتي وضع ذلك القميص في كفني، ودفنه معي”، بهذا التصريح علق محمد أبو تريكة عن الحادثة بعد سنوات، وأهل غزة ظلوا حافظين لنجم الكرة العربية المحبوب صنيعه، فأطلقوا على أحد ميادين القطاع اسم “ميدان محمد أبو تريكة”، عربون شكر وتقدير لابن النيل.
بنفس الطريقة قام المهاجم المالي المسلم فريدريك عمر كانوتيه المعروف بمواقفه الإنسانية الجميلة داخل الملعب وخارجه، بالتعبير عن تضامنه مع قطاع غزة، حيث أشهر قميصًا مكتوبًا عليه اسم: فلسطين، بعد تسجيله هدفًا لناديه إشبيلية الإسباني خلال مواجهة في مسابقة كأس ملك إسبانيا أمام راسينغ سانتاندر.
الاتحاد الإسباني عاقب النجم المالي بغرامة مالية بلغت 4000 دولار، ما كانت لتردعه عن إظهار شخصيته الإنسان متى دعت الضرورة، وبالفعل عاد كانوتيه للواجهة من جديد سنة 2012 حينما انضم لقائمة اللاعبين المحترفين الموقعين على بيان دعم للاعب الفلسطيني “محمود السرسك” الذي دخل في إضراب عن الطعام، بعدما احتجزته السلطات الصهيونية عند سفره للضفة الغربية للمشاركة في إحدى مباريات كرة القدم مع نادي رفح الرياضي.
علم يُرفع في أرجاء أوروبا
جماهير نادي سلتيك غلاسكو تغزو ملعب “السلتيك بارك” بالأعلام الفلسطينية قبل مواجهة فريق “هابويل قرياط”
عند ذكر إقليم الباسك القابع بشمال إسبانيا، فإن أول ما يخطر بالبال عناد هذا الشعب واعتزازه بقوميته التي قد تتحول يومًا ما إلى مطالبات جدية بالانفصال عن إسبانيا، كما الحال في إقليم كتالونيا المجاور له.
لكن، في ليلة من ليالي خريف 2012، قرر جمهور نادي أثلتيك بيلباو التابع لإقليم الباسك، وضع قضية هويته جنبًا بشكل مؤقت ورفع شعار آخر دعمًا للقضية الفلسطينية، المباراة كانت بين الأثلتيك وضيفه “هابويل قرياط شمعونا” الصهيوني، ويرفع الجهور الباسكي الأعلام الفلسطينية واللافتات الداعمة لشعب فلسطين ضد العدوان الإسرائيلي.
المبادرة أثارت غيظ المسؤولين الصهاينة الذين لجأوا للاتحاد الأوروبي مطالبين بإنزال أقصى العقوبات على جماهير الفريق الباسكي، الموقف صار أكثر حرجًا بعدما هدّد جمهور الفريق الصهيوني بالهجوم على جماهير بيلباو في مباراة العودة، مما جعل الاتحاد الأوروبي يضع حالة الطوارئ لتفادي أي حالات اعتداء على الجماهير التي سافرت مع فريقها أثلتيك بيلباو لحضور لقاء الإياب.
مدرجات الملاعب مسرح للتعبير عن الآراء والانتصار للإنسان، لتنجح جماهير كرة القدم في قول ما عجزت عنه مئات القمم والاجتماعات الدولية لكبار سياسيي العالم
نفس الحال تكرر في لقاء آخر وبوقع أقوى، هذه المرة غزت الرايات الفلسطينية ملعب “السلتيك بارك”، معقل نادي سلتيك غلاسكو الإسكتلندي، الذي يملك واحدًا من أفضل الجماهير على الصعيد الأوروبي.
رابطة “اللواء الأخضر – Green Brigade” المعروفة بتشجيعها الجنوني لفريقها سلتيك، استغلت قدوم فريق “هابويل بير شيفا” للعب مباراة تصفيات دوري أبطال أوروبا، لتكتسح الملعب كاملًا بالرايات الفلسطينية، دعمًا لأهل فلسطين ورفضًا للوجود الصهيوني الغاشم، المشهد كان باعثًا على الرعب لحجم الرايات التي غزت مدرجات الملعب، ولعلها كانت سببًا في هزيمة الفريق الصهيوني بنتيجة 5-2.
بعد المباراة، غرَّم الاتحاد الأوروبي نادي سلتيك مبلغ 130 ألف باوند، فكان الرد مرة أخرى من الجماهير الإسكتلندية بإطلاق حملة تبرعية لفلسطين من أجل منح بعض المساعدات الطبية والغذائية، إضافة لتخصيص قدر من تلك التبرعات لتأسيس فريق في بيت لحم أطلق عليه اسم: “عيدا سلتيك”، وبالفعل نجحت الحملة التبرعية التي انتشرت في أرجاء البلد، تم خلالها جمع مبلغ 80 ألف يورو.
إيطاليا والدم الفلسطيني
جماهير نادي لاتسيو الإيطالي عوقبت بعد إشهارها لافتة “الحرية لفلسطين”
هناك علاقة غريبة تجمع الكرة الإيطالية بالقضية الفلسطينية، ولعل المنتخب الإيطالي كان السباق لفتح باب التضامن مع فلسطين من خلال كرة القدم، يوم قام رئيس الاتحاد الإيطالي للعبة سنة 1982 بإهداء لقب كأس العالم الذي فاز به “الآتزوري” لضحايا الاعتداءات الإسرائيلية على المخيمات الفلسطينية بلبنان.
وبغض النظر عن مبادرات عدة لجماهير الفرق الإيطالية ودعمها للقضية الفلسطينية، فإن آخر المواقف تجلت في لقاء المنتخب الإيطالي أمام منتخب “الكيان الصهيوني” في إقصائيات مونديال 2018، حينما أطلقت الجماهير الإيطالية صافرات الاستهجان في أثناء عزف النشيد “الإسرائيلي”، ورفع التحيات النازية تنديدًا بكل الاعتداءات التي يقوم بها الصهاينة في حق الفلسطينيين، وتشبيهًا لها بالمجازر التي كان يرتكبها هتلر خلال الحرب العالمية الثانية.
ليس الشعب العربي وحده من ينتصر لفلسطين، مواقف الجماهير الأوروبية خير دليل على أن القضية الفلسطينية قضية إنسان، وفي كرة القدم مجال لكشف المعدن الأصلي للجماهير بعيدًا عن مصالح السياسة ودبلوماسية الحكومات، مدرجات الملاعب مسرح للتعبير عن الآراء والانتصار للإنسان، لتنجح جماهير كرة القدم في قول ما عجزت عنه مئات القمم والاجتماعات الدولية لكبار سياسيي العالم.