صحف أغلقت وأخرى تحولت إلى أسبوعية والبعض الآخر على عتبة الإغلاق والإفلاس، هذا حال قطاع الصحافة المكتوبة في تونس الذي يعيش وضعًا لا يحسد عليه جعل بقاءه في المشهد الإعلامي مهددًا بالاندثار نتيجة عدة عوامل منها: تصاعد تأثير المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام السمعي البصري، مما أدى إلى تراجع مبيعاتها وحجم إعلاناتها في وقت تعاني فيه من ارتفاع كلفة الطبع وتزايد أسعار الورق والحبر مع تدهور سعر الدينار.
اندثار البعض
مؤخرًا قررت إدارة صحيفة “الصريح” اليومية في تونس التوقف عن الصدور اليومي والاقتصار مبدئيًا على إصدار الصحيفة بشكل أسبوعي، جريدة “الصريح” التي يعود تأسيسها إلى سنة 1996 لم تكن الصحيفة الأولى في البلاد التي لجأت إلى هذا القرار، فقد سبقها إلى ذلك العديد، فيما ينتظر غيرها المصير نفسه في حال استمرار الأوضاع على ما هي عليه الآن.
هذا الوضع لا يقتصر على الصحف الخاصة فقط، بل يشمل العمومية التابعة للدولة أيضًا التي تمر هي الأخرى بأزمات مادية بالأساس قد ينتهي بها الحال إلى مصير شقيقاتها، فصحيفتا “لابراس” الناطقة بالفرنسية و”الصحافة” الناطقة بالعربية التابعتان للدولة يشكوان أيضًا من صعوبات مالية كبيرة، أثرت فيهما بشكل ظاهر للعيان، جعلتهما يفقدان بريقهما المعهود.
سبق أن أعلنت صحيفة “الإعلان” الأسبوعية قبل قرابة العامين من الآن، نهاية مسيرتها التي دامت ثلاثة عقود
وتصارع العديد من الصحف الورقية في تونس للبقاء، نتيجة عدة أسباب منها: تراجع القراء وتقلص نسبة السحب وغياب الدعم خاصة من مصادر المال العمومي المتأتية من الإشهار الذي تزامن مع الطفرة الهائلة التي شهدتها المواقع والشاشات والإذاعات بفضل التطور التكنولوجي.
وسبق أن أعلنت صحيفة “الإعلان” الأسبوعية قبل قرابة العامين من الآن، نهاية مسيرتها التي دامت ثلاثة عقود، فقد اضطر مالكها إلى غلقها بسبب ارتفاع تكاليف الطباعة والتوزيع، ونفس الأمر بالنسبة إلى صحيفة “التونسية” اليومية التي تعالت أصوات الصحفيين لإنقاذها لكن الأزمة المالية وضعت حدًا لمشوارها، وهو ما حصل أيضًا مع صحيفتي “الضمير” و”الفجر”.
وضع “كارثي”
النقابة العامة للإعلام في تونس، من جهتها دقت جرس الإنذار من خطورة الأوضاع التي تعاني منها الصحافة المكتوبة، ودعت النقابة في بيان لها أول أمس الإثنين، السلطات إلى المصادقة على المشروع النهائي الخاص بقانون الهيكل العام المعني بتوزيع الاشتراكات والإعلانات العامة، وأكدت النقابة تواصل معاناة قطاع الصحافة المكتوبة الورقية، رغم كل الوعود بالإصلاح التي قدمتها الحكومة وإيجاد صندوق التأهيل والدعم وتنظيم الإعلان العام والاشتراكات العامة والتي لم يتم تجسيدها على أرض الواقع.
وسبق أن أكدت الحكومة التونسية أنه تم الاتفاق على إحداث هيكل عمومي في الصحافة المكتوبة تحت إشراف رئاسة الحكومة، يتولى توزيع الإشهار والاشتراكات العمومية، بشكل عادل وأكثر شفافية وضمن شروط محددة وذلك للانتقال من صحافة الولاء إلى صحافة الجودة، وكان مجلس نواب الشعب قد صادق خلال جلسته العامة المخصصة للمصادقة على مشروع قانون المالية لسنة 2017، على دعم مؤسسات الصحافة المكتوبة الورقية التونسية المضمن ضمن الفصل 64 من مشروع القانون في ديسمبر الماضي.
تراجع الصحافة الورقية في تونس
وقبل عدة أيام أقرت الجمعية التونسية لمديري الصحف، مبدأ الإضراب في قطاع الصحافة المكتوبة احتجاجًا على تملص الحكومة من الإجراءات المعلنة لدعم الصحف، مما أدى إلى توقف العديد من الصحف المكتوبة عن الصدور وهو ما يهدد كذلك صحفًا يومية وأسبوعية أخرى بسبب الصعوبات الاقتصادية، وفق بيان للجمعية.
وقالت الجمعية إن الإجراءات التي أعلنتها الحكومة وصادق عليها مجلس وزاري بتاريخ 13 من يناير 2017، تتمثل في إصدار تعليمات خاصة إلى الوزارات والهياكل العامة لإلزامها بالاقتناء المباشر للصحف والمطبوعات في إطار الاشتراكات العامة، لكن ما يحدث حاليًّا هو العكس، إذ تم التقليص منها من خلال الإجراءات التقشفية والمتمثلة بالأساس في تقليص الاعتمادات المرصودة لاقتناء الصحف، بالإضافة إلى أن العديد من الوزارات والهياكل العامة تتأخر في تسديد المقابل المادي لنشر الإعلانات والاشتراكات.
عائشة: “دور الحكومة وحتى النقابات غير فاعل بل على العكس زاد من أزمة القطاع”
من جهتها، اعتبرت الصحفية التونسية عائشة الغربي أن واقع الصحافة في تونس رهين سياق كامل يحضر فيه الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الثقافي أيضًا، حسب قولها، وتقول هاجر في تصريح لنون بوست: “ما تشهده تونس اليوم من تحولات على هذه الأصعدة يؤثر بالضرورة في الإعلام عمومًا والصحافة المكتوبة خصوصًا، فالوضع السياسي المتقلب والظروف المعيشية الصعبة تساهم في عزوف التونسي عن القراءة وبالتالي يكون الإقبال عليها ضعيفًا”.
وتضيف عائشة، “دور الحكومة وحتى النقابات غير فاعل بل على العكس زاد من أزمة القطاع، فوعود الدولة بتحسين وضعية الصحفيين للحد من الإغلاق المتواصل للمؤسسات بقيت مجرد شعارات دون تطبيق، كما أن تاريخ بعث مجلس الصحافة الذي سيشرف على تنظيم القطاع لا يزال مجهولاً إلى الآن رغم المؤتمرات الصحفية التي سبقت ويعود ذلك إلى رغبة الطرفين في السيطرة على القطاع”.
الإشهار العمومي
يرجع العديد من المتدخلين في الشأن الإعلامي في تونس، هذه الأزمة التي يمر بها قطاع الصحافة المكتوبة في البلاد، في جزء كبير منها إلى الجانب المالي الذي نتج عن انحسار الدعم الذي كانت تحظى به هذه الصحف إلى جانب تراجع عائدات الإعلانات وانهيار المبيعات والاشتراكات وتضاعف تكاليف الورق والطبع.
ويؤكد مراقبون أن من أهم تحديات الصحافة المكتوبة في تونس التوزيع غير العادل للإشهار حيث لا يقع توزيعه حسب معايير موضوعية لتتقلص بذلك مساحاته، كما لم تعد الصحافة المكتوبة تستهوي المستشهرين، ويعتبر الإشهار العمومي المتنفس المالي الأبرز لأغلب الصحف الورقية في تونس والضامن الرئيسي لديمومتها واستمرار وجودها، وقديمًا كان الإشهار العمومي يُمنح عن طريق وكالة الاتصال الخارجي (تم غلقها مع انهيار نظام زين العابدين بن علي)، على أساس الولاءات لتطويع بعض وسائل الإعلام ومعاقبة أخرى لمعارضتها النظام.
ونتيجة غلق وكالة الاتصال الخارجي أصبح قطاع الإعلانات العمومية يخضع للمعاملات المباشرة بين الوزارات والإدارات والصحف الورقية، مما ساهم في تأزيم الوضع لأن الإعلانات بقيت تتوزع على نفس الصحف القديمة التي توالي النظام ولو بحجم أقل، حسب عديدمن المتابعين.
يد واحدة لا تصفق
في مقابل ذلك، شددت الصحفية أمال المكي على ضرورة الحديث عن آليات إنقاذ الصحافة المكتوبة من تقهقرها عوض الحديث عن قرب زوالها، وقالت المكي في حديثها لنون بوست: “أعتقد أن الحديث عن نهاية موشكة للصحافة المكتوبة هو مبالغة في التشاؤم وتغافل عن حقيقة أن سيرورة الصحافة والإعلام تقتضي التعايش بين الوسائل الصحفية والإعلامية المختلفة، فلا الإذاعة أدت إلى نهاية الجرائد الورقية قديمًا، ولا التليفزيون بظهوره أنهى الإذاعة، ولذلك لا يجب الحديث عن نهاية الصحافة المكتوبة بسبب تعاظم دور الإعلام الرقمي ومكانته، بل عن آليات إنقاذ الصحافة المكتوبة من تقهقرها وتراجع أدائها وضعف مقروئيتها”.
وتابعت “لقد أنجزت مؤخرًا بحثًا بعنوان “واقع الإعلام الرقمي ومستقبل الصحافة الورقية في تونس”، كانت أهم نتائجه أن القول بأفول المكتوب نهائيا هو قول متهافت والحلول موجودة وممكنة لإعادة مجد الصحف الورقية”.
خبراء: على الصحف التونسية أن تطور محتواها
وأكدت أمال “ليس بالمال وحده تحيا الصحيفة الورقية، وإن كان التمويل والإشهار أحد أعمدة بقائها واستمراريتها، فعلى ما تبقى اليوم من صحف ورقية أن يركزوا على المحتوى عبر تثويره ليغدو منافسًا ذا جودة لما تقدمه الوسائل الرقمية من مميزات وإغراءات”، وأضافت “يمكن للصحف الورقية أن تعيش وتبقى على قيد المنافسة في سوق الصحافة عبر التركيز على التحقيقات والروبورتاجات المعمقة وشد انتباه القراء بسرد قصص صحفية تمس إنسانية الإنسان لا يجدونها في الأخبار والمواد الإعلامية السريعة التي تقدمها الصحف الإلكترونية.
كما تستطيع الصحف الورقية أيضًا، حسب المكي، أن تنافس الإلكتروني بحوارات جادة معمقة تترفع عن منطق السبق الصحفي السهل وتسعى في المقابل إلى تحقيق تغيير وتأثير واقعي في السياسات العامة في البلاد والنهوض بالذائقة العامة وتطوير الوعي لدى عموم المواطنين، كما يمكن إنقاذ الورقي بدعم صحافة الجهات وهي التي غدت ذات شأن في أهم دول العالم، وذلك عبر تشجيع المبادرات الفردية أو الجمعياتية لبعث صحف ومجلات في الولايات الداخلية، إذ إن المواطن يهتم دائمًا بالخبر أو المعلومة الأقرب إليه جغرافيًا والتي تمسه في حياته اليومية وتؤثر فيها.
أمال المكي: “ليس التمويل العمومي ولا الصناديق المخصصة لدعم الصحف الورقية بالقادرة وحدها على صنع ربيع الصحافة الورقية في تونس”
وأكدت أمل في حديثها لنون أن النأي بالصحيفة عن التجاذبات السياسية وحمايتها من تدخل رؤوس الأموال أيضًا أحد مقومات حماية المؤسسة وضمان استمراريتها، فكم من صحيفة اختفت بسبب تورط المشرفين عليها في خدمة أجندات سياسية ومصالح ضيقة، مشددة على أن “اليد الواحدة، لا تصفق، وليس التمويل العمومي ولا الصناديق المخصصة لدعم الصحف الورقية بالقادرة وحدها على صنع ربيع الصحافة الورقية في تونس إن لم تقدم هذه الصحف مادة جديدة متعمقة تواكب المستجدات العالمية في صحافة القرب والصحافة الاستقصائية وتعيد للصحفي مكانته كفاعل مؤثر في الرأي العام والسياسات في بلده لا فقط كوسيط أو مبلغ للمعلومة”.