كان أول شهر لي في تركيا، و قد أفلست تماماً بعد رحلة من مصر للسعودية فقبرص ختاماً بإسطنبول.
تعرفت علي عم محمود، الحداد مصري الجنسية، وعملت في ورشته الصغيرة و نظرا ً لضيق سعة يدي وجب عليَّ أن اتخذ من الورشة سكناً أيضاً ليس مجرد مقراً للعمل،الشتاء لم يكن رومنسياً، الثلوج الكثيفة والسماء التي تهطل منها الأمطار نهاراً و ليلاً، صدقوني المشهد لم يكن شاعرياً كما يبدو في الأفلام.
عم محمود وجد لي عمل براتب أفضل وفي ورشة أكبر وقال لي: “عايزك تشرفني مع الأتراك بقى علي عيني أسيبك تشتغل مع حد تاني، بس إنت عارف الظروف المرتب مش هيزيد وإنت محتاج فلوس دلوقتي أكثر من أي وقت”.
لم أودعه وقتها كما هو متوقع، كوني مازلت مقيماً في ورشته حتي يتحسن الحال، بعد انتقالي للعمل الجديد مع أهل البلد أدركت معنىً جديداً في حياتي لم أكن أعرفه، “التملك والفوقية” وهي النفسية السائدة عند الكثير من أصحاب العمل الأتراك تجاه العمال العرب خصيصاً.
في هذا الوقت المبكر جداً حيث لا يوجد في الشارع أو في المواصلات العامة إلا عمال المصانع، حتى طلاب المدارس كنت أراهم فقط لو تأخرت عن موعدي نصف ساعة، وبالتأكيد كان عليَّ أن أسمع كلام لا أفهمه من صاحب الورشة كنوع من العقاب، فكيف لي أن أتأخر عن السخرة نصف ساعة! على الرغم من كونه يعرف جيداً أنني لا أفهمه لكن شئ ما بداخله يجعله منتشياً منتصراً لمجرد الصراخ في وجهي.
بعيداً عن بلدك أنت لا تملك حلولاً كثيرة، أنت لا تملك شيئاً أصلاً، كان عليَّ أن أتكيف مع الوضع القائم و أن أتقبل الواقع بشكل أكبر حتي أنني بدأت استغلال الـ٢٥ دقيقة التي أقضيها في “المترو” في قراءة أي كتاب، و كأنها قشه أتعلق بها لإنجاز صغير ينعش حياتي، والحقيقة أنها قد أنقذتني من شيء أسوأ.
شيء ما بداخلي جعلني أنتبه لهؤلاء السائرين رغماً عنهم، عن المجبرين على الحياة، لنقل مجبرين علي البقاء. تشابهنا جميعاً في أنه لا بيت لنا هنا
القراءة خلال رحلة المواصلات أنقذتي من أوجه العمال البائسة كل صباح، علي الرغم من ازدحام المترو في هذا الوقت يومياً إلا أنه كان هادئاً، لا أحد يتكلم، لا أحد يهمس في أذن الآخر، يتدافع الجميع -وأنا مثلهم- للوصول إلى عربة المترو خوفاً من التأخير، المشهد كان هيستيريا يشبه تلك الأفلام الأمريكية عن الأحياء الأموات (الزومبي)، لو أن ليلتي كانت مقمرة و الصباح مشمس أيضاً، لكان هذا المشهد كافياً جداً ليصيبني الاكتئاب.
أذكر أن أحدهم لم يلحق باب المترو -الفارق بين كل رحله و الأخري ١٠ دقائق- ظل ينظر للمترو كأنه فرصته الوحيدة لدخول الجنة وقد ضاعت، دمعت عيني رغماً عني وقتها، لم يكن خيراً فائضاً مني لكنه هذا الإحساس الذي تملكني، أكنت أشبه هذا الرجل في تلك المرات العديدة التي لم أدرك فيها باب المترو في آخر لحظة؟
لم تكن الصورة سوداوية هكذا دائماً، فقد حدث شئ ما جعلني أري أشياءً أجمل. شاب يقربني في السن بشرته داكنة، يبدو لي من إحدى الدول اللإفريقية رأيته من بعيد يسير نحوي أثناء ذهابي صباحاً وكأن عمله في الجهة المقابلة لجهة عملي، له نفس بنيتي الجسدية والصدفة العجيبة يرتدي المعطف الأزرق نفسه الذي أرتديه، مر بجواري فابتسم عندما أشرت على المعطف، لا أعرف إلى الآن هل كانت محاولة مني لكسر الروتين المقيت اليومي بهذه الضحكة، أم كان مجرد تصرف تلقائي لا معني له.
يعمل معي في الورشة ولد يبلغ من العمر ١٥ سنة، سوري الجنسية، خسر كل أعمامه و أبناء عمومته في الحرب، كان دائم الحديث عنهم، تحليلاته السياسية دائمة التفائل والإيجابية، بعدما نشأت علاقة صداقة بيني وبينه قال بمنتهي الود و البرائة : “بنعاود بلادنا و بتيجي تشتغل معانا بسوريا لحين ما الوضع يتحسن بمصر”
رأيته في اليوم التالي في موضع قريب من مكان لقائنا الأول، لكنه كان متعجلاً ولم ينتبه ليِّ، وانتهي اليوم كغيره. ورغم ذلك أصبحت تتملكني رغبة شديدة كل صباح للذهاب إلى العمل بمنتهي النشاط كي أري صديقي مرة أخري.
ذات صباح، مر بجانبي في المكان نفسه تقريباً، وقتها انتبه لي ورفع يده ليرد سلامي، ابتهجت وأحسست بإنجاز ما في ظل كل هذا الدمار النفسي. واستمر هذا اللقاء العابر لصديقي الجديد نحو 4 مرات على مدار أسبوع، ورغم أنني صنعت من لقاء هذا الرجل شغفي الوحيد لاستيقظ كل يوم لم أتمكن يوماً من أن أتوقف فقط ١٠ دقائق لأعرف اسمه.
يعمل معي في الورشة ولد يبلغ من العمر ١٥ سنة، سوري الجنسية، خسر كل أعمامه و أبناء عمومته في الحرب، كان دائم الحديث عنهم، سألني كثيرا ً عن مصر و أحوال العباد، أثناء الغداء كان يحاول أن يتعلم اللكنة المصرية بطريقة عادل أمام وسعيد صالح، تحليلاته السياسية دائمة التفائل والإيجابية، بعدما نشأت علاقة صداقة بيني وبينه قال بمنتهي الود و البرائة : “بنعاود بلادنا و بتيجي تشتغل معانا بسوريا لحين ما الوضع يتحسن بمصر” . كنت أكتفي بإبتسامة تسبقها المشيئة.
محمد كان دائم المقارنة بين تركيا وسوريا، وتنتهي المقارنة لصالح سوريا طبعاً حتي استنكرت ذات مرة ما يقوله فرد قائلا ً: “أخي أبوالمجد، الواحد وإن ما راح بتضل بلده بتعبى عينه”، بعدها، أصبحت أري بعيني محمد، ألهمني الصبر و التفاؤل، الذي يلهمني كل يوم أن كل شيء سينتهي حتماً ونعود للديار..
بجوار ورشة عم محمود كان هناك مخزن بيكيا لرجل كردي نحيل، يعمل معه حولي ١٠ عمال لجمع “الخردة” بعربات “الكارو” من صناديق النفايات مشياً علي الأقدام .
كانوا يلعبون أمام المخزن لعبه شعبية في باكستان-تشبه الكراكيت- في العطلة الأسبوعية، جميعهم يرتدون الزي التقليدي الباكستاني، ولكل واحد فيهم عصاته المميزة من حيث الرسوم والألوان، كان المشهد بديعاً. الرابطة الإنسانية بينهم، المجتمع الصغير الذي صنعوه كي لا ينسحقوا ثقافياً خلف طلب الرزق جعلني أتذكر كل من تركتهم في مصر.
شيء ما بداخلي جعلني أنتبه لهؤلاء السائرين رغماً عنهم، عن المجبرين على الحياة، لنقل مجبرين علي البقاء. تشابهنا جميعاً في أنه لا بيت لنا هنا، ولا يجب علي أحدنا أن يمرض، أيضاً ليس لك أن تبكي، يجب أن تعمل و تعمل إلي أن ينتهي كل هذا. أتضح لي وقتها أن شيئاً ما يجمعني بكل هؤلاء.
وهم رغم الغربة عن أواطنهم تأقلموا مع الوضع القائم، تقبلوا الحقيقة و الواقع فلا يوجد حل آخر لهم وكذلك لي، تعلمت منهم كيف لي أن ابتهج وأستحضر ما تبقي مني، كل هؤلاء القابعين خلف عين العالم، لم يروا الحياة لكنهم صنعوها، أعطوا العالم أعمارهم، أرادوا فقط الحياة و هي لم تنظر إليهم أبداً، لكنهم استمروا أملاً أن ينتهي كل هذا يوماً .
وختاماً أكتب رسالة إلي صديقي الذي لم أتمكن يوماً من أن أقف لأعرف أسمه وقد كان عزائي الوحيد في تلك المدينة الباردة. أريد أن أخبره الآن “أن كل شئ سينتهي يوماً”.