بعد أن كان الجميع، في الداخل والخارج، يمني النفس بأن يرى ليبيا الجديدة دولة متقدمة يطيب فيها العيش، بعد الإطاحة بنظامٍ ديكتاتوريٍ مُتسلط في فبراير سنة 2011، تحولت البلاد بمرور الوقت إلى سوق للنخاسة يهان فيها البشر ويُباع فيها العبيد بالمزاد العلني في مشاهد تذكر بعهد الجاهلية الذي خلنا لوهلة أنه ولى إلى غير رجعة.
بين العادة والواقع في ليبيا
في العادة يعرض الباعة في الأسواق، الخضر والغلال والملابس ومستلزمات البيت والحياة، إلا في ليبيا الجديدة فالأمر معاكس، فهناك يبيع الباعة إخوانهم البشر، لا تستغرب عزيزي القارئ، فليس في الأمر لبس، نعم إنهم يبيعون البشر في مزادات علنية أيضًا دون الخشية من أحد.
في العادة ينادي الباعة في الأسواق اليومية والأسبوعية، بأعلى أصواتهم الجهورية للترويج لبضاعتهم، فتسمع بعضهم يقول شعرًا متغزلاً بما لديه حتى يجذب الجميع إليه، وفي ليبيا تسمع أصوات غليظة بغيضة تنادي للاجتماع حولها لتبدأ مزادًا علنيًا لبيع البشر.
هناك في ليبيا في بعض أسواقها، ليس كلها طبعًا، يفحص المشتري العبد من رأسه إلى أخمص قدميه كما تُفحص البهائم
في العادة يذهب رب العائلة إلى السوق ثم يرجع إلى بيته بعد جولة طويلة أو ربما قصيرة محملاً ببضائع للأكل والشرب والملبس، وبعض التجهيزات أيضًا، وفي ليبيا يذهب تجار البشر إلى الأسواق ثم يعودون من حيث أتوا محملين عبيدًا وفي أعناقهم وأرجلهم سلاسل، كأنك بهم في عصور الجاهلية الأولى.
في العادة، يأخذ الرجل أو المرأة ممن قصدوا الأسواق، قطعة القماش أو الغلال أو الخضار، يتفحصونا لمعاينة جودتها لأخذ قرار شرائها من عدمه، وهناك في ليبيا في بعض أسواقها – ليس كلها طبعًا – يفحص المشتري العبد من رأسه إلى أخمص قدميه كما تفحص البهائم، فإذا تحقق من لباقته ولياقته سامه من البائع واشتراه.
كان من المفترض
هناك في ليبيا الثورة، كان من المفترض أن تُبنى دولة القانون والمؤسسات، يكون نظامها ديمقراطي عادل، يتساوى فيه المواطنون ويعم الرخاء، وتسود العدالة الاجتماعية والكرامة، وتنتهي مظاهر الاستعباد وسلطة القوة وجبروت القوي، لكن ما حدث عكس ذلك.
ففي ليبيا الجديدة، سيطرت الجماعات الإرهابية متعددة الجنسيات وجماعات الجريمة المنظمة على جميع مناحي الحياة، نتيجة غياب الاستقرار والأمن وتواصل الحرب الأهلية هناك وانتشار السلاح، فتحولت ليبيا إلى فضاء انكفاء استراتيجي ومنطقة عبور مثالية لمختلف أشكال التجارة المحظورة، بالنظر لصعوبة الرقابة عليها والتحكم فيها.
يتحدث المهاجرون عن معاملات قاسية يتعرضون لها
وتعتبر تجارة البشر من أخطر الأنشطة التي تطورت بسرعة في ليبيا في السنوات التي أعقبت سقوط نظام معمر القذافي، حتى أضحت الأكثر ربحًا من بين أنشطة الاتجار في هذا البلد العربي الذي أصبح مرتعًا لسماسرة بيع البشر المحليين والدوليين بموارد مالية مهمة ووسائل متطورة جدًا، من آليات النقل المتطور ومعدات الاتصال وأجهزة التواصل الدائم، وسهلت هذه الشبكات على عناصر الجماعات الإرهابية أو الجريمة المنظمة حصولهم على المال.
مشاهد صادمة
هناك في أسواق ليبية، تسمع بعض الأصوات، حسب عديد من التقارير الإعلامية، تصيح: “هل يحتاج أي شخص إلى حفار؟ هذا حفار، رجل قوي كبير، سيقوم بالحفر، لنبدأ المزاد”، وأظهر تقرير حديث أعدته شبكة “سي إن إن” الأمريكية بيع مهاجرين بالمزاد العلني في ليبيا، وتم تداوله على نطاق واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أثار تعاطفًا كبيرًا واستدعى ردود فعل منددة من دول أوروبية وإفريقية عدة ومنظمات حقوقية أيضًا.
وفي تسجيل التقط بواسطة هاتف محمول، يظهر في التقرير شابان يُعرضان للبيع في المزاد للعمل في مزرعة، ليوضح بعدها الصحافي معد التقرير أن الشابين بيعا بمبلغ 1200 دينار ليبي أي 400 دولار لكل منهما.
سبق أن كشفت المنظمة الدولية للهجرة في تقرير لها، في أبريل الماضي، عن وجود “أسواق عبيد” حقيقية في ليبيا، حيث يباع المهاجرون الأفارقة فيها بما بين 200 و500 دولار
ويواجه المهاجرون الأفارقة ممن أصبحوا عبيدًا بعد وقوعهم فريسة المهربين سوء تغذية وانتهاكات ويُستخدم أغلبهم كعمالة يومية في البناء والزراعة، ويتقاضى بعضهم أجرًا والبعض الآخر يكره على العمل دون أجر، فيما تتعرض النساء إلى الاغتصاب وتجبر على العمل بالدعارة، وقد يموت بعضهم بسبب الجوع والمرض، وفقًا لتقارير إعلامية وحقوقية.
وسبق أن كشفت المنظمة الدولية للهجرة في تقرير لها، في أبريل الماضي، عن وجود “أسواق عبيد” حقيقية في ليبيا، حيث يباع المهاجرون الأفارقة فيها بما بين 200 و500 دولار قبل أن يُحتجزوا مقابل فدية ويُكرَهوا على العمل من دون أجر أو يتم استغلالهم جنسيًا، وقال حينها عثمان بلبيسي رئيس مهمة منظمة الهجرة في ليبيا (وكالة تابعة للأمم المتحدة): “تذهب إلى السوق حيث يمكنك دفع ما بين 200 و500 دولار للحصول على مهاجر واستغلاله في أعمالك”، وأضاف “وبعد أن تشتريه تصبح مسؤولاً عن هذا الشخص، بعضهم يهرب وآخرين يبقون قيد الاستعباد”.
وكانت المنظمة قد أكدت في تقريرها أن موظفيها في ليبيا والنيجر أمكنهم جمع شهادات “صادمة” لمهاجرين من دول جنوب الصحراء الإفريقية تحدثوا عن وجود “أسواق عبيد” يديرها ليبيون يساعدهم غانيون ونيجيريون يعملون لحساب الليبيين، يتم فيها بيع مئات الرجال والنساء، وتتم عمليات البيع في ساحات عامة أو مستودعات.
تغيير وجهة
وصولهم إلى سواحل ليبيا، كان الهدف منه تصيد فرصة لاجتياز البحر خلسة وركوب الأمواج للوصول إلى الهدف المنشود والجنة المبتغاة “أوروبا”، إلا أنه مع بدء غلق الطريق البحرية بين ليبيا وإيطاليا وصعوبة وصولهم من ليبيا إلى سواحل القارة العجوز، وقعوا ضحايا المهربين تجار البشر، وللتخلص منهم، يجلبون هؤلاء المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين إلى الأسواق لبيعهم أجراء وعبيدًا لمن يرغب في شرائهم، وبالتالي امتلاكهم تمامًا كما يمتلك المشتري أي قطعة أثاث أو قماش أو سيارة أو جرار زراعي أو حيوان أليف.
تعتبر ليبيا البوابة الرئيسية للمهاجرين الساعين للوصول إلى أوروبا بحرًا
يشكل الاتجار بالبشر نشاطًا ضخمًا سريًا عابرًا للدول، تقدر قيمته الإجمالية بمليارات الدولارات، ويشمل الرجال والنساء والأطفال الذين يقعون ضحية الخطف أو الاستدراج لممارسة أشكال مهينة من الأعمال لمصلحة المتاجرين بهم، وهذا يعني بالنسبة للرجال العمل القسري في ظل ظروف غير إنسانية لا تُحترم فيها حقوق العمل، وبالنسبة إلى النساء يعني في العادة خدمة منزلية لا تختلف غالبًا عن الرق والاستغلال الجنسي والعمل في الملاهي الليلية.
وبالنسبة إلى الأطفال يعني استخدامهم القسري كمتسولين أو باعة جائلين أو سائقين للجمال أو يؤدي بهم إلى الاستغلال الجنسي بما فيه النشاطات الإباحية، وهي تبدأ مع بعض الأطفال بداية فاجعة بتجنيدهم في صفوف المقاتلين، أحيانًا في الجيوش النظامية وأحيانًا في الميليشيات التي تقاتل تلك الجيوش.
تغيير وجهة المهاجرين من البحر إلى المزادات العلانية
وتستغل شبكات تهريب البشر الفوضى السياسية والأمنية التي تعيش على وقعها ليبيا للتوسيع من نطاق عملها، واحتجاز المهاجرين القادمين في الغالب من نيجيريا والسنغال والغابون في أثناء توجههم إلى الساحل الشرقي لليبيا بحثًا عن قوارب تقلهم إلى أوروبا، ليتم بيعهم فيما بعد لمن يدفع أكثر.
وتعتبر ليبيا البوابة الرئيسية للمهاجرين الساعين للوصول إلى أوروبا بحرًا، وبحسب الأرقام الأخيرة الصادرة عن منظمة الهجرة الدولية، وصل نحو 156 ألف مهاجر ولاجئ إلى أوروبا عبر البحر منذ كانون الثاني/يناير مقابل نحو 341 ألفًا وصلوا خلال الفترة ذاتها عام 2016، 73% منهم إلى إيطاليا، وتوفي نحو 3000 شخص في أثناء محاولتهم العبور.