في شهر أكتوبر الماضي، انتهى مؤتمر الإفتاء العالمي الذي انعقد بالقاهرة تحت عنوان “دور الفتوى في استقرار المجتمعات”، بتوصيات عدة أهمها على الإطلاق كان تحديد الفتوى وحصرها على مشايح بعينهم، وهو ما جرى اعتباره حلاً سحريًا لمحاصرة القطط السمان من مشايخ الفضائيات أو “العصافير” باللغة الدارجة المصرية الذين أذوا الأزهر كثيرًا، بسبب جنوحهم للسلطة في مواجهة المؤسسة الدينية وشيخ الأزهر.
مكرم محمد أحمد.. حارس البوابة لا يملك مفتاحها
لم ينتظر الأزهر مزيدًا من الوقت لتنفيذ توصيات المؤتمر، وسريعًا وعلى عجل جرى إعلان قائمة من 50 داعية حملت مفاجآت من العيار الثقيل، فلم تشمل واحدًا من هؤلاء الذين يحتلون واجهة الفتوى بالفضائيات منذ سنوات طويلة، ولا يدينون للأزهر بالولاء الكامل في السر والعلن.
تولى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام الذي يرأسه الكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد، في مؤتمر صحفي، إعلان ما أسماها قوائم العلماء المصرح لهم بالإفتاء والظهور على شاشات الفضائيات والصحف المصرية، وقال إنها جاءت بالتنسيق مع شيخ الأزهر والمفتي ووزير الأوقاف، ولم ينس العجوز المخضرم الإشارة إلى أن القائمة من اختيارات المؤسسة الدينية وليس من بنات أفكاره سواء هو أو مجلسه، وكأنه حارس بوابة لا يملك إلا الجلوس أمامها.
على مدار ساعات الأزمة، ساق المدافعون عن قرارات الأزهر والمتحدثون باسمه مبررات عدة للدفاع عن خطة تكميم أفواه المعارضين للمشيخة، كما هو واضح من الاختيارات التي استبعدت كل من له علاقة بالدولة بمعزل عن الأزهر، وارتكزت استراتيجية الرد في التخويف من الفتوى باعتبارها أكثر فتكًا من الأسلحة التقليدية، نظرًا لما يمكن أن تسببه من اختلال في المفاهيم وتشوش على صحيح الدين، الأمر الذي قد يؤدي في النهاية إلى الإرهاب والتطرف الذي يعاني منه العالم.
اعتمدت وزارة الأوقاف على اختيار ترشيحاتها التي لم تشمل إلا العاملين تحت مظلة الوزير والموالين له
ثارث ثائرة المستبعدين، اتصالات مكثفة ونداءات واستغاثات على الشاشات لم تنقطع خلال برامج المشايخ وأصدقائهم من الإعلاميين، كان واضحًا أنها رسالة موجهة للنظام، للانتباه إلى فضل هؤلاء وخدماتهم التطوعية التي يقدمونها مجانًا مقابل استمرار “سبوبة الفضائيات”، وهو ما انعكس عمليًا على التغيير السريع الذي جرى لقائمة الـ50 اسمًا الذين خصصهم الأزهر للإفتاء في الفضائيات، وخلال 24 ساعة تغيرت القائمة مرات عدة، واتسعت لتشمل 191 اسمًا، ومع هذا لم تهدأ وتيرة المعارك والتساؤلات عن توقيت صدور القوائم وأهدافها.
كيف أدار الأزهر معركة القوائم؟
كما هو الحال في السياسة المصرية، وتفضيل النظام الحاكم الحاليّ اختيار أعوانه من تكنوقراط ليس لهم أي مطامع أو طموحات سياسية، حملت قائمة الأزهر دلالات مشابهة، بسبب اختياراته التي فضلت الدفع بمتخصصين ليس لهم أدنى علاقة بالنظام الحاكم أو الثورات التي جرت في مصر، حتى لا يكتسبوا مراكز قوة معنوية أو شعبوية، واكتفى الأزهر بالعاملين الرسميين بالمشيخة ودار الإفتاء.
احتل مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية، نصيب الأسد من القائمة الأولى برصيد 30 اسمًا، وهؤلاء معروف أنهم من الذين يدينون بالولاء المطلق لشيخ الأزهر ومفتى الجمهورية، وبنفس الآلية اعتمدت وزارة الأوقاف على اختيار ترشيحاتها التي لم تشمل إلا العاملين تحت مظلة الوزير والموالين له.
كان لافتًا استبعاد المؤسسة الدينية لرموز المشاهير الذين دأبوا على التقرب للدولة من أمثال سعد الدين الهلالي ومبروك عطية، بجانب مشاهير السلفية من أمثال محمد حسان ومحمد حسين يعقوب وأبو إسحاق الحويني، والمستقلين من أساتذة الجامعات الأزهرية الذين يشتبه في انتمائهم إلى جماعة الإخوان المسلمن وعلى رأسهم الشيخ حسن الشافعي، بجانب الدعاة الجدد من أمثال عمرو خالد ومصطفى حسني ومعز مسعود.
فشل الشيخ خالد الجندي، في محاولات إخفاء غضبه بابتسامة باهتة تحمل كل معاني الحنق على القرار، إلا أنه حاول اللعب على الوتر الأسهل والأكثر فاعليه، عبر تذكير الدولة بدوره في مواجهة الإخوان
هل تهدف القوائم لتحصين الفتوى حقًا؟
بحسب نص تصريحات مكرم محمد أحمد رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، تهدف القائمة لتقنين الفتوى والحد من ازدهار الفتاوى الشاذة التي ظهرت جليًا خلال الفترات الماضية، بالإضافة إلى ضمان إبعاد المتشددين والأصوليون عن منابر الإعلام، وهي الرسالة التي رفضتها مصادر من داخل الإفتاء المصرية، بحسب مزاعم صحف قومية، وأكدت أن القوائم ليست أكثر من تصفية حسابات مع خالد الجندي وسعاد صالح وسعد الدين الهلالي وأحمد كريمة.
المصادر الغامضة التي وزعت تحليلاتها على العديد من الصحف المصرية، دون أن يشار إلى أسمائها، في الغالب مصادر أمنية وليست من وزاة الأوقاف، وهو أمر يبدو واضحًا من طريقة التحليل التي اعتمدت على تفنيد طريقة صياغة القوائم التي لم تستبعد أسماءً بعينها، وهم ملء السمع والبصر، وما يعزز هذه الفرضية إبعاد الرموز الثلاث من القوائم اللاحقة للأزهر والأوقاف.
لم يتردد الموقوفون الأربعة لحظة عن كيل الاتهامات للذين يقفون خلف قرار حصر الفتوى، وكان الدكتور أحمد كريمة أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، حاضرًا بقوة في المشهد ووصف قرار منعه بالكيدي، خصوصًا أنه كان أحد هؤلاء الذين رفضوا مطلب الرئيس عبد الفتاح السيسي، بإلغاء الطلاق الشفوي لحماية الحياة الاجتماعية في مصر من التفكك.
ولم يكن كريمة وحده الذين ردد هذه المزاعم، بل كانت العنوان الأمثل لرد فعل الشيخ خالد الجندي الداعية الأشهر الذي يبدو أنه لم يستفق بعد من هذا الكابوس، فمثله لم يكن يصدق لحظة واحدة أنه سيكون يومًا ضمن الممنوعين من الفتوى، وهو من هو في بورصة الشهرة العريضة والعلاقات التضامنية والداعمة على طول الخط للنظام الحاكم، مما أهله لاحتلال مكانة بارزة دائمًا في خريطة البث لأشهر القنوات الموالية للنظام، فضلاً عن تقديمه برنامجًا فقهيًا بالأساس على قناة DMC التي يتردد بشدة أنها تابعة لأجهزة المخابرات المصرية.
الغريب في القضية برمتها أن القوائم المعلنة لم تنتظر ما ستسفر عنه نقاشات اللجنة الدينية في مجلس النواب التي تبحث حاليًّا تشريعًا جرى تقديمه من بعض الأعضاء لتنظيم الفتوى في المجتمع المصري، وقصرها على المتخصصين المؤهلين علميًا ودينيًا
فشل الشيخ خالد الجندي في محاولات إخفاء غضبه بابتسامة باهتة تحمل كل معاني الحنق على القرار، إلا أنه حاول اللعب على الوتر الأسهل والأكثر فاعليه عبر تذكير الدولة بدوره في مواجهة الإخوان، قائلاً في لحظات استعطاف نادرة: “مين اللي وقف كتفه في كتف مصر والجيش والشرطة وتصدّى للإخوان، بقى اللي وقفوا جنب البلد يتم إقصاؤهم لحساب اللي بعضهم اختفوا، وهل يتساوى الذين جاهدوا من أجل البلاد ودفعوا الثمن غاليًا مع الذين كانوا مختبئين وصامتين.. هل هذه مكافأة نهاية الخدمة؟
رسالة الجندي التي لم تؤت أكلها حتى الآن، أجبرته على تغيير استراتيجياته بشكل مؤقت واللجوء إلى السخرية في مواجهة الأزمة، مطالبًا المواطنين بعدم استدراجه للفتوى قائلاً بتهكم شديد تفوح منه رائحة المرارة: “اللي يسألني مش هقدر على الهواء، بس هجاوبه ورا الاستوديو”، وهي نفس الزاوية التي انطلق منها أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر الدكتور سعد الدين الهلالي، ولكن الأخير اكتفى بإلقاء الكرة في ملعب الأزهر، والتأكيد على أن قرار استبعاده مجرد محاولات فجة تهدف إلى تحويل الدين إلى كهنوت يخدم مصالح إناس بعينهم.
بينما اكتفت الدكتورة سعاد صالح أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، باللعب في مربع السلامة والابتعاد عن الحديث بمفرادات تبدو ليس من قدرتها تحمل الفاتورة التي ستنتج عنها، ورغم ذلك شاغبت قليلاً لإيجاد جبهة تضامنية معها، وقالت إن قرار استبعادها هي وسعد الهلالي وأحمد كريمة متعمد ومقصود، موضحة أنها ممنوعة من الظهور إعلاميًا بقرار من جامعة الأزهر.
اكتفت صالح بترديد هذه العبارات، ثم ركزت جهودها في نقد القائمة التي لم تتضمن سيدة واحدة، مما قد يتتسبب في أزمة كبرى من وجهة نظر سعاد، لأن تقليص فتاوى المرأة يعني أن برنامجها لن تصبح له قيمة، خصوصًا مع منعها من حق الفتوى.
تم منع واستبعاد هيئة كبار العلماء بجانب علماء الأوقاف الذين شنوا بدورهم هجومًا كاسحًا على وزارتهم، وأكدوا أن القائمة تؤكد التعارض والصراع الحادث بين الأوقاف والمشيخة لهذا لم ينصفهم الأزهر
الغريب في القضية برمتها، أن القوائم المعلنة لم تنتظر ما ستسفر عنه نقاشات اللجنة الدينية في مجلس النواب التي تبحث حاليًّا تشريعًا جرى تقديمه من بعض الأعضاء لتنظيم الفتوى في المجتمع المصري وقصرها على المتخصصين المؤهلين علميًا ودينيًا، ومنع غير الحاصلين على رخصة الإفتاء من مؤسسة الأزهر أو دار الإفتاء من التحدث في الأمور الدينية أو الرد على استفسارات المواطنين بشأن المسائل الفقهية.
وهو أمر لو تم لكان أفضل لياقة للجميع باعتبار القانون له حاكمية تشريعية، وليست القضية مجرد قرارات انتقامية استبدادية، تهدف لإذلال بعض المشايخ وإجبارهم على الذهاب خانعين للإمام الأكبر الذي هاجموه تقربًا للسلطة وطلب المغفرة منه لاستمرار برامجهم وعملهم بالفضائيات.
وبعيدًا عن رد فعل السلفيين وغضبهم لمنع برهامي وحسان ويعقوب بالإضافة إلى أبناء السلفية المدخلية وكل من له علاقة في الأوساط الدينية باختلاف مشاربها بأجهزة الدولة المصرية، يبدو أن قرار القائمة فضح صراعات مراكز القوى داخل المؤسسة الدينية الرسمية في مصر، فمجمع البحوث الإسلامية الذي يتمتع بعضويتة الهلالي والجندي تساءل علانية وبغضب واضح عن سر منع جميع أعضائه من الفتوى ضمن قائمة الأزهر.
وليس المجمع وحده، بل تم كذلك تم منع واستبعاد هيئة كبار العلماء، بجانب علماء الأوقاف الذين شنوا بدورهم هجومًا كاسحًا على وزارتهم، وأكدوا أن القائمة تؤكد التعارض والصراع الحادث بين الأوقاف والمشيخة لهذا لم ينصفهم الأزهر، رغم فرض الأوقاف 145 اسمًا من أبنائها في مقابل قائمة الـ50 للأزهر بالقوائم اللاحقة، وكأن الفتوى في نظر المشايخ من التوجهات كافة، سلطة ملقاة على قارعة الطريقة تنتظر الأقوى والأكثر ذكاءً وحنكة وتقربًا من النظام ليتلقفها.