ما الفرق بين داعش التي تقطع الرؤوس وتأكل الأكباد وتقيم حدود الردة بشهوة عجيبة على من تسميهم المرتدين والمارقين والزنادقة، وموريتانيا التي أعلن وزير العدل فيها في بلاغ يشبه البلاغات الحربية النازية أن الحكومة ستقيم حد الردة على الكافرين والمجدفين حتى لو أعلنوا توبتهم؟ رغم أن الفقه الإسلامي بمختلف مشاربه يوجب استتابته أولاً، ويمتع الإنسان بحق السماع منه وإقامة الحجة العقلية عليه من جهة مختصة ومؤهلة.
طبعًا قرار كهذا تنافس به الدولة العضو في الأمم المتحدة والموقعة على الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان وحليف أمريكا في الحرب على الإرهاب، تنظيم الدولة الإسلامية وبوكو حرام وأمراء الحرب الذين لا يعرفون قيمة التعدد والاختلاف، فلا يمكن للتنظيمات الإرهابية أن تأكل خبزًا في دولة أشد تطرفًا وإرهابًا منهم، ويبدو أن مصطلح خلايا نائمة يجب أن يطلق أولاً على الدول الإرهابية النائمة بيننا منذ عقود، دون أن نشعر أن هناك على الساحل الأطلسي في غرب إفريقيا حكومة تدين بنفس الفكرانية الداعشية.
وربما كان الفرق بينهم أن موريتانيا تجرأت على مظهر من مظاهر الحياة العصرية فصار لها منتخب لكرة قدم الأمر الذي لم تفكر فيه دولة البغدادي في أيام عزها والتي لو كتب لها عمر طويل لدخلت هي الأخرى في حرب أمريكا على الإرهاب، لكن دون أن تتخلى عن إعدام المجدفين.
موريتانيا تحتل مكانة متأخرة في مؤشر التنمية العالمي، وتعتبر من أكثر الدول الإفريقية تخلُّفًا وفقرًا، وتفتقر إلى أساسيات البنية التحتية حيث يتماهى فيها عمران المدن بعمران البوادي وقنوات الصرف الصحي بقنوات الماء الشروب، حتى إن ضيوف القمة العربية التي عقدت في موريتانيا لم يجدوا في بلد مساحته ثلاثة أضعاف مساحة ألمانيا أي فندق محترم ينزلون فيه ليضطروا إلى حجز غرف في فنادق الجار الشمالي.
لكن الحكومة الموريتانية لا يهمها كل ذلك بقدر ما يهمها قطع ألسنة المفكرين والمثقفين، ومع ذلك، فالرئيس الموريتاني بقدر إهماله للعلوم والثقافة والتعليم، بقدر اهتمامه الشديد بالتكنولوجيا “الكافرة” التي تؤمنه وتحافظ له على كرسي الحكم، وتمكنه من اختراق هواتف وحواسيب المعارضين والنشطاء.
ينفق الرئيس الموريتاني ملايين الدولارات من خزينة الدولة على شراء معدات التجسس وأنظمة تكنولوجية متطورة للتنصت على مكالمات وقرصنة حواسيب خصومه السياسيين
فقد نشرت مجلة بلومبرغ بيزنسوييك تحقيقًا طويل الذيل في يناير الماضي عن فضيحة كومار القرصان الهندي مع الرئيس الموريتاني، والتحقيق بقدر ما يُلقي الضوء على عالم صناعة الأسلحة السيبيرانية، بقدر ما يظهر حفاوة المستبد بالتكنولوجيا الحديثة التي أصبحت قادرة على إطالة مدة حكم الطاغية وتُجَنّبه الانقلابات، وهذا ما يفسر سر بقاء محمد ولد عبد العزيز طيلة هذه المدة دون أن يطيح به خصومه والمعارضون لحكمه.
تحكي المجلة قصة الهندي مانيش كومار صاحب شركة وولف إنتلجينس المتخصصة في تكنولوجيا التجسس، ففي يوم من أيام فبراير عام 2015 دخل الشاب الهندي القصر الرئاسي في نواكشوط من الباب الجانبي المخصص للقاءات الخاصة، كان الرجل بداخل سيارة رياضية رباعية الدفع SUV يقودها سائق يرفل في “درّاعة” موريتانية بيضاء فضفاضة إلى مدرج خلفي مبتعدًا عن القصر الفخم المبني على طراز يمزج بين الهندسة الهندية والمعمار الأمريكي.
وصل الموكب إلى مبنى صغير متطرف ينتصب على سقفه صحن هوائي ضخم، في الداخل وجد في انتظاره أحمد ولد أباه الملقب بـ”أحميدة” مستشار الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز.
تورد المجلة أن أحمد ولد أباه الذي من ضمن مهامه الإشراف على منظومة تجسس إلكترونية موجهة إلى خصوم سيده، كان قد حول مبلغ نصف مليون دولار إلى حساب في الجزر البريطانية العذراء (أراضٍ تابعة للمملكة المتحدة وراء البحار في الكاريبي)، كدفعة أولى لطقم تكنولوجي متطور مقدم من طرف شركة كومار وولف إنتليجينس، أما الصفقة كاملة فتبلغ مليونين ونصف المليون دولار بالإضافة إلى اتفاق خدمة سنوي، كانت هذه الصفقة تمثل لكومار رقمًا قياسيًا في حياته المهنية كمسوق عالمي يجوب العالم لبيع أسلحته السيبيرانية.
ويبدو أنه بعد أن كشف إدوارد سنودن عام 2013 بعض البيانات السرية والبرامج التجسسية لوكالة الأمن القومي الأمريكية NSA ومدى تمددها في العالم أجمع، وامتلاكها بيانات أكثر من مليار شخص حول العالم، وقدرتها الرهيبة على زرع أجهزة تنصت إلكترونية في القصور الرئاسية وسفارات الدول، بدأت العديد من الدول تطمح لتكوين وكالة أمن قومي مصغرة خاصة بها – بالنسبة لدولنا العربية فهي وكالة أمن “الكرسي” -، كان من تلك الدول موريتانيا التي ينفق رئيسها ملايين الدولارات من خزينة الدولة على شراء معدات التجسس وأنظمة تكنولوجية متطورة للتنصت على مكالمات وقرصنة حواسيب خصومه السياسيين، بدلاً من إنفاقها على النهوض بمجالات حيوية مثل التعليم والصحة والبنيات التحتية التي تمثل ضرورة ملحة لمجتمع يعاني فقرًا يكاد يلامس المجاعة، لكن أمن الرئيس وراحة باله لا يقوم لها تردي أحوال “الرعية” وبؤسهم الاجتماعي.
حسب بيانات اتحاد الاتصالات العالمي بلغ عدد المشتركين في خدمة الهاتف المحمول في موريتانيا 3.8 مليون مشترك في العام الماضي
موريتانيا التي يبلغ تعداد سكانها 4 ملايين نسمة، تعرضت لعشرة انقلابات ومحاولات انقلاب منذ استقلالها عام 1960، وهي معروفة لدى الغرب بكونها إحدى الدول القلائل في العالم التي ما زالت تُمارس فيها طقوس الرّق والعبودية.
ومن عجائب المتناقضات أن هذا البلد الذي يدعو إلى إعدام المفكرين والمثقفين الذين خرجوا عن القوالب الاعتيادية في النقد والتعبير عن الرأي، ووضع رقابهم تحت شفرة مقصلة الإعدام دون مراجعتهم في آرائهم وتمتيعهم بحق المناظرة والدفاع، أو حتى منحهم فرصة الخروج الآمن من مأزق معضلة الردة الذي يوفره مبدأ الاستتابة في مذاهب الفقه الإسلامي المختلفة، يعتبر في الوقت ذاته حليفًا وفيًا للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب، كما يعتبر مستهلكًا نهمًا لمنتجات تكنولوجيا التجسس التي يصنعها “العلوج” ويستعملها الحاكم “بأمر الله” ضد الصحفيين والنشطاء والمعارضين السياسيين.
في دولة لا تتوفر على أكثر من 51 ألف خط ثابت، يقابله انتشار شامل للهواتف الخلوية التي يستعملها اليوم حتى رعاة الإبل والأغنام في أقاصي بلاد شنقيط، فحسب بيانات اتحاد الاتصالات العالمي بلغ عدد المشتركين في خدمة الهاتف المحمول في موريتانيا 3.8 مليون مشترك في العام الماضي، قام كومار بوضع برنامجsoftware يمكن الحكومة الموريتانية من مراقبة ومهاجمة أهداف متعددة متصلة بشبكة معلوماتية موسعة بما فيها شركات الاتصالات الموفرة لخدمة خطوط المحمول.
وتوفر الخدمة التي يقدمها الشاب الهندي لزبونه الموريتاني، إمكانية اختراق نظام تشغيل الحواسيب ويندوز، والهجوم الصامت عن طريق الرسائل النصية المصمتة SILENT SMS، وهي رسائل مندسة لا تظهر على شاشة المتلقي وتُمكّن من تحديد مكانه وتعقبه المستمر، تكنيك متطور يسمح بالتحكم التام في الهواتف الذكية دون أن يتطلب ذلك من الشخص المستهدف القيام بالضغط على أي رابط أو أي تفاعل كان، كما أن هذه الخدمة بمقدورها تحويل الهواتف الذكية المخترقة إلى جهاز تسجيل مباشر.
لكن الصفقة سوف تتحول بعد ذلك إلى كابوس بالنسبة لكومار الذي بدأ تكوينه الأول كمقرصن صغير للهواتف النقالة، ورسائل المحبين المتبادلة عبر البريد الإلكتروني إذا شك أحدهم في تصرفات زوجته على الشبكة، كان يعمل في سوق “غفار” الشهير بأنشطة الهاكرز، وعشُّ صغار القراصنة بنيودلهي الذي يمكن وصفه بأنه صورة مكبرة لـ”جوطِيَّة درب غلف” الشهيرة في الدار البيضاء.
هذا الشاب الطموح الذي يتطلع لتوسيع نشاط شركته، قاده قدره إلى حوت كبير من حيتان الحكام العرب، الرئيس الموريتاني الذي كان متلهفًا للظفر بخدمات هذه التكنولوجيا السحرية التي تتحكم فيها شركات متعاقدة مع وزارة الدفاع الأمريكية مثلGRUMMAN وRAYTHEON وNORTHROP، والتي لا تتيح خدماتها إلا لكبار حلفاء أمريكا والقادرين على تحمل تكاليفها.
لذا يجد الديكتاتوريون في دول العالم الثالث أنفسهم مضطرين إلى طرق أبواب الذئاب المنفردة ذوي المهارات الخاصة، وبوتيكات الشركات الصغيرة المتطفلة على هذا المجال الذي حصدت فيه الشركات المنتجة لبرامج الحماية الإلكترونية أرباحًا فاقت80 مليار دولار في السنة الماضية فقط، لكنه يظل ميدانًا للمغامرة غير الآمنة أو ما يسميه بعض الاقتصاديين بمجال قلة الثقةTRUST DEFICIT لأن البائع والمشتري (سواء حكومات أو أفراد) لا يعلمون يقينًا ما إذا كانوا يتعاملون مع أهل ثقة أو مع محتالين ولصوص.
مثل هذه القصص من حدائق الحكام العرب الخلفية، أهميتها تكمن في أنها تضيء الزوايا المعتمة لما يجري في كواليس الأنظمة العربية الاستبدادية
لقد كانت الصفقة المذكورة تنص على توفير نظام التحكم في الهواتف الذكية عن طريق الرسائل الإلكترونية المصمتة SILENT SMS، لكن المشكل الذي واجه كومار وجعل المستشار ولد أباه يهدده باحتجازه هو والتقني المساعد له في موريتانيا، حاجة كومار إلى شفرة خاصة جدًا لاختراق التحصينات الأمنية للهواتف الذكية لآبل وأندرويد معًا، لقد كان كومار يعلم أن الهاكرز في “إسرائيل” – التي تعتبر الأرض صفر ground zeroفي مجال صناعة الأسلحة السيبيرانية والقرصنة – طوروا تلك الشفرة، لكنهم يطلبون فيها مليون دولار وهو المبلغ الذي لا يمكنه تغطيته إلا إذا أقنع الموريتانيين بجدوى دفع المبلغ المتبقي من الصفقة.
تمكن الفتى الوسيم الذي كان يمكن أن يقوده مظهره الجذاب إلى نجومية أخرى في دروب بوليوود، من إقناع الموريتانيين بالسماح له بالسفر إلى مقر شركته في أوروبا لحل المشكلة والحصول على الشفرة، بعد ذلك بأسابيع استقل كومار طائرة من مقر شركته في سويسرا إلى فرنسا، هناك وفِي منزل فخم في وسط باريس، التقى مرة أخرى بالمستشار ولد أباه ومعه هذه المرة أحمدو ولد عبد العزيز ابن الرئيس الموريتاني الذي ساعد في الإطاحة بحكومتين قبل أن يستولي على الحكم عام 2009، افترش ولد أباه الأرض، بينما جلس ابن الرئيس على الكنبة في إشارة إلى مكانته الاعتبارية المتعالية على خادمه.
وافق الموريتانيون على دفع بقية المبلغ، لكنهم اشترطوا أن يبعث إليهم كومار بأحد مستخدميه لتعهد الأجهزة والنظم التي وضعها لهم كومار للتجسس على الحواسيب في نواكشوط، لكن كومار كان يدرك أن الموريتانيين يريدون رهينة تضمن لهم أن كومار لن يغدر بهم، وافق الرجل وبعث بمستخدم هندي اسمه أحمد نفيس، ثم طار هو إلى تل أبيب لمقابلة دافيد ستيرنبرغ أحد أشهر حيتان القرصنة في العالم الذي وصفه ترامب ذات يوم بالقرصان الذي يزن400 باوند.
لكن الصفقة لم تتم، لأن الموريتانيين ماطلوا في إرسال الدفعة التي وعدوا بها، عاد الرجل أدراجه إلى أوروبا خاوي الوفاض، وتلقى اتصالاً من ولد أباه يخبره بأن المنظومة التي ثبتها لا تعمل بالشكل المطلوب، وأن أحمد المستخدم الهندي، لم يتمكن من إصلاح الخلل.
كان كومار يعلم أن موريتانيا تتمتع بسمعة سيئة في مجال حقوق الإنسان ومتهمة بتعذيب الصحفيين والمعارضين والاعتقال التعسفي والاختطاف والقتل خارج القانون، وكان يدرك أن مستخدمه المسكين قد يختفي في أي لحظة، فقرر أن يسافر إلى نواكشوط وهو لا يعلم إن كان سيعود منها حيًا مرة أخرى، عندما وصل سلكوا به نفس الطريق من الباب الجانبي للقصر الرئاسي، ليجد نفسه داخل ذلك المبنى الصغير الذي التقى فيه ولد أباه أول مرة، لكن في الغرفة كان يجلس هذه المرة الرئيس ولد عبد العزيز نفسه.
أخرج كومار أربعة حواسيب وأوصلها بالجهاز المركزي، وقام بعدة إجراءات أساسية ثم أطلع الرئيس على مؤهلات برنامجه التجسسي، ومنها خطوات عملية تنتهي بالتحكم في نظام تشغيل الحواسيب ويندوز، بعدها غادر ولد عبد العزيز المبنى دون أن ينبس بكلمة، ثم بعد أيام قليلة وصل كومار مبلغ مليون دولار.
تنفق الأنظمة الشمولية الملايين على “مجدفي” الحرب السيبيرانية و”كفرة” القرصنة الإلكترونية،ويرمي الديكتاتور للناس عظمة مثقف مسكين يتعرقونها ويقيمون عليها ولائم الانتقام في مواسم الإعدام
عاد كومار أدراجه تاركًا خلفه صديقه أحمد نفيس رهينة لدى الموريتانيين، وكان حائرًا بين المضي في الصفقة إلى آخرها والظفر بالمليون المتبقي في ذمة الحكومة الموريتانية، أو الإحجام والمجازفة بحياة مستخدمه بين يدي عصابة لا ترحم، ثم إنه لم يكن يثق تمامًا في ستيرنبرغ الإسرائيلي الذي كان قد طلب له400 ألف دولار لمجرد الاطلاع على عرض بصري للشفرة Demo في ذلك اللقاء الذي جمعهما في تل أبيب، ناهيك عن المليون دولار ثمن الشفرة نفسها.
فالإسرائلي قد يأخذ المال دون أن يقدم له البضاعة، وما أكثر المحتالين في هذا الميدان الذي لا تحكمه القوانين ولا الأخلاق، وليس للمرء إلا فراسته وقدرته على قراءة الطرف الآخر التي قد تصيب حينًا وتخطئ أحيانًا أخرى، كما أنه حتى وإن أوفى ستيرنبرغ بوعده ووفر له الشفرة، فإنه لم يعد مطمئنًا لتصرفات الموريتانيين الذين قد يتنكروا له بمجرد حصولهم على ما يريدون، وينكصوا عن دفع المليون دولار المتبقي.
اهتدى الرجل إلى فكرة ينقذ بها مستخدمه من براثن الموريتانيين الذين بدأوا يستشعرون أن كومار خدعهم وسلبهم أموالهم دون أن يحقق لهم ما وعد به بالنسبة لهجومات الرسائل المصمتة التي بدوا في أمس الحاجة إليها للتجسس على هواتف خصوم الرئيس ورموز المعارضة في البلاد.
فقرر كومار أن يستعين بخدمات صديقه دافيد كاسترو رئيس شركة الحراسات الخاصة vigilar في ميلانو، فكر كومار في حيلة سافرة، أن يبادل الموريتانيين صديقه الهندي بأحد رجال كاسترو في الحراسات الخاصة، لقد ظن أن كون كريستيان بروفيزيوناتو – وهو حارس أمن يعمل في شركة كاسترو – إيطالي أوروبي، سيجعل احتمال تعرضه للتصفية الجسدية أو الاختفاء القسري أقل من الهندي.
تخوض المجلة في تفاصيل الخدعة التي تعرض لها بروفيزيوناتو الذي ظن أن مهمته تقديم عرض لخدمات vigilar لدى الحكومة الموريتانية ، لكن الحقيقة كانت مبادلة رهينة برهينة، تمكن كومار في آخر المطاف من إخراج مواطنه من موريتانيا، وبقي بروفيزيوناتو الذي تحفظت السلطات الموريتانية على جواز سفره منذ وصوله إلى مطار نواكشوط، مقيمًا في بيت كان قد استأجره كومار في أطراف العاصمة، وبعد اتصال بين كومار وولد أباه طالب فيه كومار بإخلاء سبيل الإيطالي وهدد بأنه سوف يبلغ السفارة الإيطالية بتفاصيل الصفقة كلها، بعد ذلك الاتصال بأيام، بلَغَه أن بروفيزيوناتو اختفى تمامًا.
تطور الأمر إلى أزمة دبلوماسية دخلت فيها أطراف متعددة منها السفارة المغربية في نواكشوط التي بعثت ببرقية من سطرين إلى سفير إيطاليا تبلغه بأن الموريتانيين قد اعتقلوا بروفيزوناتو واتهموه بالمشاركة في النصب والاحتيال على الحكومة الموريتانية وغسيل الأموال، ولم يزل الإيطالي محتجزًا منذ عام 2015 في قلعة عسكرية وقد هزلت بنيته الجسدية وفقد قرابة 30 كيلوغرامًا من وزنه، وظلت الحكومة الإيطالية تفاوض الموريتانيين لإطلاق سراحه حتى مايو الماضي عندما غادر الأراضي الموريتانية على نفس الطائرة مع نائب وزير خارجية بلاده.
ليست الحكومة الموريتانية والمصرية إلا مثال حيّ للغباء والسذاجة والتهافت الذي يميز علاقة لفيف من الساسة العرب مع الغرب والآخر عمومًا الذي يمتلك العلم والتكنولوجيا، حتى وإن كان نصابًا تافهًا مثل كومار
بينما انطلق كومار في عالمه الغريب، وشهدت شركته نجاحات متتالية وهي اليوم آخذة في التوسع والانتشار، وكان آخر صفقاته حسب المجلة مع الحكومة المصرية، صفقة بلغت نصف مليون دولار، دفع المصريون نصف المبلغ كدفعة أولى، أما الدفعة المتبقية فبعد أن يزودهم بالبرنامج “إياه” الذي سيسمح لنظام السيسي بقرصنة الهواتف المحمولة للمعارضين عن طريق الرسائل المصمتة، ويبدو أن الحكومة المصرية لم تأخذ الدرس مما حدث لنظيرتها الموريتانية.
إن مثل هذه القصص من حدائق الحكام العرب الخلفية، أهميتها تكمن في أنها تضيء الزوايا المعتمة لما يجري في كواليس الأنظمة العربية الاستبدادية، فهي تُمارس جميع أنواع القمع والتجسس وانتهاك الخصوصية على المواطنين مستعينة بكل ما يتيحه لها عالم الذكاء الاصطناعي لتصفية المعارضين والحفاظ على الكرسي، بينما في استطاعة شاب هندي يتمتع بقدر من الدهاء أن يحتال على حكامنا الجبابرة الخارقين ويعاملهم بـ”الاستغباء” ذاته الذي يعاملون به شعوبهم، ويحتال عليهم احتيال الساحر الذي يخرج للأطفال أرنبًا من قبعته الفارغة ببراعة تبعث على التصفيق.
تنفق الأنظمة الشمولية الملايين على “مجدفي” الحرب السيبيرانية و”كفرة” القرصنة الإلكترونية، ويرمي الديكتاتور للناس عظمة مثقف مسكين يتعرقونها ويقيمون عليها ولائم الانتقام في مواسم الإعدام، لا يريد الزعيم شعبًا مستنيرًا يفكر وينتقد ويسلخ عنه فروة التخلف الباردة، يرتاح بين رعاياه الخاملين أكلة الدوغما وحماة القصص والروايات الأسطورية، لأن هؤلاء دُقّ الجهل في رؤوسهم بمطرقة من حديد، وأُدْخِلوا براد الموتى حيث تحفظ الجثث الميتة مستسلمة لقدرها عاجزة عن الحركة.
ليست الحكومة الموريتانية والمصرية إلا مثال حيّ للغباء والسذاجة والتهافت الذي يميز علاقة لفيف من الساسة العرب مع الغرب والآخر عمومًا الذي يمتلك العلم والتكنولوجيا، حتى إن كان نصابًا تافهًا مثل كومار، هم عادة مع هؤلاء ينفقون بسخاء حتى لو باعوهم الهواء في زجاجات، في مقابل القسوة والوحشية والبخل التي يعاملون بها شعوبهم.
تلك الشعوب التي عقموها من عدوى العلم والطموح إلى الحرية والثورة على الظلم، وجعلوها كتلاً من التفاهة العمياء، فكم من كومار ركب غباء حكامنا وسلبنا الملايين التي تبني آلاف المدارس والمستشفيات والجامعات والسكك الحديدية، وتمول العشرات من مراكز البحوث وتدخل الكهرباء إلى آلاف المداشر، وكم من زعيم عربي حاذق تلقى صفعات كومارية حتى صدق عليه قول ابن الرومي: “غارت أخادعه ورق قذاله فكأنه متربص أن يصفعا… وكأنما صفعت قفاه مرة فأحس ثانية لها فتجمعا”.