ترجمة وتحرير: نون بوست
في أحد أيام شهر آذار/ مارس 1962، عندما كان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في خطاب إلى الأمة يبثّ على الهواء مباشرة خلال شهر رمضان، رفع كوبًا من عصير البرتقال وشربه ليكسر صيامه ويدعو مواطنيه إلى فعل الشيء نفسه. كانت تلك اللفتة صادمةً وقد أثارت جرأة بورقيبة جدلًا واسعًا بين التونسيين والمسلمين عمومًا حول مسألة الإفطار علنًا في أحد أقدس أشهر السنة.
كان لدى بورقيبة حسن نية سياسية جوهرية في دولة ما بعد الاستعمار الفتية وطموحات كبيرة. تم الاحتفاء به باعتباره محرر تونس من الاستعمار الفرنسي مع خطة اقتصادية واجتماعية لبناء البلاد من الألف إلى الياء. لتحقيق ذلك، دعا الناس إلى استجماع قواهم لمساعدة حكومته على النجاح بدلًا من استنزاف طاقتهم خلال شهر رمضان.
وفي حين كان بورقيبة يدرك بوضوح مدى قوة تصرفه – وإلى أي مدى سيكون تخريبيًا وفاضحًا – من المرجح أنه بالغ في تقدير الدعم الذي ستحظى به دعوته للإفطار. وبدلًا من حشد الناس لدعوته الحداثية، أحدث نخْبه صدعًا في صورته كزعيم وشخص وفتح الباب أمام نوع جديد من المعارضة السياسية في تونس.
أدت هذه الحادثة إلى إطلاق موجات من التوتر حول صيام رمضان لمستها الحياة السياسية التونسية منذ استقلال البلاد إلى اليوم على نحو لا مثيل له في بقية العالم الإسلامي. بدأ استخدام بورقيبة للصيام سياسيًا في سنة 1960، عندما دعا مواطنيه لأول مرة إلى الإفطار في نهار رمضان لاكتساب القوة في نضالهم ضد الفقر و”التخلف”. ولا تزال الملحمة مستمرة وفي كل سنة يحتدم الجدل في تونس بين المدافعين عن حرية الإفطار علنًا من جهة، والمطالبين باحترام الشعائر والأعراف الدينية من جهة أخرى. هذه المناقشة ليست حديثة العهد وهي تعكس انقسامًا ثقافيًا عميقًا وقديمًا بين كتلتين: المحافظون والحداثيّون. وصار صيام رمضان موضوع هذا الاستقطاب وساحة تتجلى فيها ديناميكيات السلطة بين الكتلتين إلى جانب موقفهما من السلطة الحاكمة.
إن دعوة بورقيبة للتحايل على الصيام – أحد “أركان” الإسلام الخمسة – دفعت الصراع بين المجموعتين إلى أقصى الحدود. كان بورقيبة – ولا يزال – الرمز الأول للعلمانيين والحداثيين في تونس الذين قدّسوه وما زالوا يرفضون أي انتقاد لإرثه. إن “معركة الصوم” سبقتها مواجهات أخرى لبورقيبة مع المؤسسات الدينية وأتباعها. وقد أدخل بشكل خاص قانون الأحوال الشخصية الذي لا يستند إلى الشريعة الإسلامية بل إلى قوانين مدنيّة أكثر ملاءمة للمرأة، مما أضعف قدرة المؤسسات الدينية على إصدار فتاوى دينية في هذه العملية، وألغى نظام الأوقاف الذي أعطى النفوذ المالي للسلطات الدينية.
لكن دعوته إلى الإفطار علنًا خلال شهر رمضان تمثل بالنسبة لشريحة واسعة من المحافظين الدينيين صدعًا لا يمكن رأبه في ما تبقى من شرعيته وشرعية نظامه. لقد أحدثت صدمة عميقة للأغلبية الذين يؤمنون بأن قدسية رمضان تفوق أي فريضة إسلامية أخرى. كان هذا بمثابة حافز لحركة الصحوة الإسلامية التي أصبحت فيما بعد في طليعة المعارضة السياسية في السبعينيات وتولّت مقاليد السلطة بعد الثورة التونسية في سنة 2011.
ولّد الصراع حول شهر رمضان أسطورة شائعة في الدول المجاورة حول علاقة التونسيين بالصيام. لقد أصبح من الشائع في ليبيا والجزائر الادعاء بأن التونسيين لا يصومون مما يعني وجود نقص في عقيدتهم الدينية. وقد نُسجت القصص والنكات والحكايات حول هذا الادعاء وأصبح الإفطار العلني أحد الأساطير الأكثر انتشارًا حول التونسيين في منطقة المغرب الكبير. لقد أسقط بورقيبة هذه القنبلة الخطابية فحجبت تداعياتها حقيقة أن التونسيين مثل بقية المسلمين منهم من يصوم ومنهم من يمتنع، بما في ذلك من يفطر علنًا ومن يفطر في الخفاء. وهذا الرأي الذي تمتزج فيه الحقيقة بالخيال، لم يكن ليتشكل لولا ميل السياسة إلى التدخل في الدين.
في 5 شباط/ فبراير 1960، قبل أسابيع قليلة من شهر رمضان، ألقى بورقيبة كلمة أمام حشد كبير من زعماء الدولة ورجال الدين بقيادة مفتي الجمهورية الشيخ كمال الدين جعيط، وعميد جامعة الزيتونة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. وفي هذا التجمّع، دعا بورقيبة التونسيين إلى الإفطار في شهر رمضان للمساهمة في “القضاء على الفقر والتخلف” مطالبًا المفتي بإصدار فتوى تؤيد رأيه. قال الرئيس التونسي موضحًا موقفه ودوافعه: إن التعبئة التي ندعو إليها والعمل المتواصل المتحتم والضروري تعتريه عقبات يعتبرها الشعب ذات مصدر ديني. من كان صائمًا وأدى فريضة دينه وفق ما يقتضيه الإسلام، وتبيّن له أن ضعف بدنه لا يسمح له بالعمل، استمر في الصيام تاركًا العمل. من كان هذا فعله فهو يخالف عقيدته، حسب مفتي تونس، وسيوضّح لكم ذلك بنفسه”.
كانت دعوة بورقيبة مدفوعة في المقام الأول بالواقع الاقتصادي القاسي الذي ابتليت به البلاد. بعد الاستقلال، أدى رحيل رأس المال الفرنسي إلى جانب الحالة الضعيفة للاقتصاد المحلي إلى دخول تونس في أزمة حادة. في ذلك الوقت، سعى بورقيبة إلى الحصول على الموارد اللازمة لتنفيذ أجندته الطموحة لتوسيع البنية التحتية للتعليم والرعاية الصحية في جميع أنحاء البلاد. وما زاد من تفاقم الأزمة الجفاف المدمر الذي ضرب تونس ما بين 1959 و1960، مما أدى إلى تفاقم محنة المجتمع الزراعي الذي يعتمد على هطول الأمطار لكسب قوته.
ما لم يأخذه بورقيبة بعين الاعتبار هو رد فعل المفتي اللاحق الذي رفض طلبه وأصرّ في فتواه التي صدرت بعد أسبوع على أن الاستثناء الوحيد للإفطار هو السفر والمرض. وحذّر المفتي التونسيين من أن “كل من ينكر وجوب الصيام يعتبر خارجًا عن الإسلام”. وأضاف: “من آمن بهذا الفرض وتخلّف عنه بغير عذر شرعي استحق عذاب الله في الآخرة، وهذا حقًا لخسارة فادحة”.
واجه بورقيبة هذه النتيجة رغم محاولاته تكييف الفقه الإسلامي مع أهدافه، مستشهدًا بحادثة في حياة النبي محمد ﷺ عندما تزامن شهر رمضان مع توجّه المسلمين تحت قيادته لفتح مكة. في ذلك الوقت، أفطر البعض من أجل القتال بينما أصر آخرون على مواصلة الصيام. وحسب الرواية، قال النبي حينها للفريق الأخير: “أفطروا فإن الفِطْر أقوى لكم في جهاد عدوكم”. استشهد بورقيبة بهذه الحادثة للدفاع عن قضيته مستعملًا القياس. وكان قيامه بذلك أكثر من مجرد تكتيك سياسي – فحسب المذهب المالكي السائد في تونس يعد استخدام “القياس” مصدرًا صالحًا للتشريع.
قارن الرئيس التونسي آنذاك الجهاد الذي خاضه النبي وأصحابه بكفاح التونسيين لبناء دولتهم الناشئة، وأوضح في نفس الخطاب: “جميع رجال الدين الحاضرين في هذه القاعة يعلمون أن الإسلام يحث على الإفطار في رمضان إذا كان في ذلك قوّة للمسلمين على أعدائهم. أعداء المسلمين اليوم هم الانحطاط والفقر والذل والمهانة. إن الدين يأمركم أن تستجمعوا قواكم في مواجهة أعدائكم حتى لا تبقوا أمّة متخلّفة. فإذا أردت أن يكافئك الله في الآخرة، عليك أن تعمل ساعات قليلة، وهو خير لك من أن تصوم بلا عمل، مما يزيدك انحطاطك”.
بالنسبة للتونسيين، كانت معارضة المفتي للآراء الدينية للرئيس بمثابة الصدع الأول في شرعية بورقيبة، لكن بورقيبة لم يلتزم الصمت وسرعان ما شن سلسلة من الهجمات ضد المؤسسة الدينية وعلماء الشريعة، معظمها من خلال الصحف ووسائل الإعلام التابعة للدولة. في الفترة من 18 شباط/ فبراير إلى 17 آذار/ مارس، سافر بورقيبة في جميع أنحاء البلاد مخاطبًا الحشود في الساحات ودافع عن موقفه مستشهدًا دائمًا بالحجج والسوابق العقلانية من حياة النبي حول الإفطار أثناء الحرب، ومساواة تلك الحرب المقدسة بجهوده لبناء الدولة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك باتهام رجال الدين الذين عارضوه بالنفاق الديني، وادعى أنهم قبل الاستقلال كانوا “في خدمة الاستعمار الفرنسي، وساعدوه في ترسيخ موطئ قدم في تونس”.
استشهد بورقيبة في هذا السياق بفتوى أصدرها بن عاشور سنة 1939 إبان الحرب العالمية الثانية تجيز للجنود التونسيين في الجيش الفرنسي أن يفطروا ما داموا في حالة حرب. وفي سنة 1884، أنشأت فرنسا الفوج الرابع من الرماة التونسيين، الذي شارك في معظم الحروب التي خاضتها الإمبراطورية الاستعمارية، بما في ذلك معارك الدفاع عن فرنسا من الغزو النازي في سنتي 1939 و1940.
بعد الاستقلال سنة 1956، أدرك بورقيبة أن المؤسسة الدينية قد تقف عائقًا أمام طموحاته لذلك سعى إلى تحييدها. وفي السنة نفسها، أصدر قانون الأحوال الشخصية الذي قلب العديد من الممارسات الأسرية التي يُعتقد أنها مرتبطة بالإسلام. ويجرّم قانون الأحوال الشخصية تعدد الزوجات ويشرّع الطلاق على أساس المساواة بين الجنسين، ويحدّد سنًا أدنى للزواج. كما مارس بورقيبة التمييز ضد النساء المحجبات فحرمهن من الخدمة العامة، وأطلق حملة لتنظيم الأسرة شملت قيام الدولة بتوزيع وسائل منع الحمل مجانًا.
ابتداءً من سنة 1957، بدأ بورقيبة تفكيك المؤسسة الدينية. أولًا، ألغى المحاكم الشرعية ووحّد التعليم العام ووضعه تحت إشراف الدولة. كما منع التعليم الشرعي خارج الإطار الرسمي. ثم جاءت الضربة الأكثر تدميرًا: تفكيك الأسس المادية للمؤسسة الدينية ومصدر قوتها المالية الرئيسي – الأوقاف الدينية – من خلال ضمها إلى ملكية للدولة. سمح نظام الأوقاف بتوريث الممتلكات أو الأصول إلى المؤسسات الدينية لأسباب خيرية. وكانت الأوقاف الدينية، وهو مفهوم عمره قرون في ظل الشريعة الإسلامية، تمنح هذه المؤسسات نفوذًا ماليًا هائلًا، وقد انتهى كل ذلك.
وردًا على رفض المفتي دعم موقفه بشأن الصيام، سعى بورقيبة إلى سحب ولاية المفتي في تحديد الأشهر القمرية ورمضان والأعياد الدينية. وفي 23 شباط/ فبراير 1960، قرّر اعتماد النظام العلمي للحساب الفلكي لتجريد المفتي من أي مهام مهمة. في ذلك الوقت، ظهر استقطاب واضح بين بورقيبة ــ الذي كان مدعومًا من قبل النخبة المتعلّمة في الغرب وأجزاء من المثقفين والبرجوازية الصغيرة ــ والمؤسسة الدينية المدعومة من الأغلبية المحافظة. وانقسم رجال الدين بدورهم إلى مجموعتين: أيّد البعض الرئيس بما في ذلك شيوخ مدينة بنزرت ومفتي مدينة صفاقس محمد المهيري. وأشاد هؤلاء الشيوخ باجتهاد الرئيس وأيدوا منطقه المتمثل في مقارنة حرب النبي محمد ﷺ بالنضال من أجل بناء الدولة، لكن شخصيات في معسكر الرئيس عارضت هذه الخطوة من الناحية السياسية خشية أن تؤدي إلى تقويض شرعية نظامه.
في مذكراته بعنوان “نصف قرن من العمل الإسلامي”، يستذكر توفيق الشاوي، أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين في مصر وصديق بورقيبة، موقف كاتب الدولة المكلف بالمالية والتخطيط أحمد بن صالح، أحد أبرز رجال الدولة في ذلك الوقت. شاركنا الشاوي ما أسرّه له بن صالح: “لم أصم رمضان من قبل، لكنني بدأت الصيام منذ أن أعلن بورقيبة معارضته له، والعديد من التونسيين مثلي لم يحرصوا على الصيام على الإطلاق”. وأضاف بن صالح أن التونسيين بدأوا “الالتزام بالصيام للتعبير عن معارضتهم للفقه الديني لبورقيبة”، وأن حزب الدستور الجديد الحاكم يدرس اتخاذ “إجراءات صارمة لفرض الإفطار على أعضائه وموظفي الخدمة المدنية الآخرين، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم السخط الشعبي ضد الحزب وحكومته”.
لم يعر بورقيبة أي اهتمام للمنتقدين من داخل حزبه وكان يركز على خلق قطيعة داخل المؤسسة الدينية. لم يكن حريصًا على مغازلة شخصيات من طبقة رجال الدين في تونس فحسب، بل لجأ أيضًا إلى شخصيات دينية من جميع أنحاء العالم الإسلامي لإضفاء المصداقية على دعوته. وفي نفس المذكرات، تحدّث الشاوي عن دعوته إلى تجمع حاشد وإلقاء خطاب رئاسي سنة 1960 مع محمد الصادق المجددي، السفير الأفغاني في مصر، الذي صادقه بورقيبة خلال منفاه في مصر. كانت هذه المناسبة في مسجد عقبة بن نافع بمدينة القيروان، وهو أول مسجد بناه المسلمون في المغرب العربي. واغتنم بورقيبة في كلمته الفرصة ليجدد دعوته للناس إلى إفطار رمضان.
حيال ذلك، كتب الشاوي: “في اليوم التالي، تمت دعوتنا لزيارة بورقيبة، وسألني عن رأيي في خطابه بالأمس. قلت له إن هذا النقاش قد يستغرق يوما كاملا على ضفاف النيل. وبعد قليل، عاتبني الشيخ المجددي قائلا إن بورقيبة كان يتمنى أن أشيد بكلامه وأؤيد موقفه من الصيام صراحة أو ضمنا. فأخبرت المجددي أنه أحق بهذا التكريم، باعتباره من كبار العلماء، فقال: “أعوذ بالله. لا شك أنه يعرف موقفي جيدًا”.
في مطلع الستينات، كان معسكر بورقيبة الحداثي قويًا في مواجهة رجال الدين المحافظين. كان بورقيبة يتمتّع بشعبية هائلة كمحرر تونس من الاستعمار الفرنسي، خاصة أنه ضحى بجزء من حياته وتحمل المنفى والسجن سعيًا إلى الاستقلال. من ناحية أخرى، تم تقويض شرعية غالبية الشيوخ بسبب سنوات صمتهم الطويلة بشأن الاستعمار، بما في ذلك تعاونهم مع البايات العثمانيين والطبقة الحاكمة التونسية لإضفاء الشرعية على الوجود الاستعماري الفرنسي.
فرض بورقيبة، من خلال سلطة الدولة، أفكاره الدينية لكنه فشل في إقناع التونسيين بصحتها. مع ذلك، مثّلت حادثة “الإفطار” العلنية في سنة 1962 بعد سنوات ذخيرة حيويّة لحركة الإسلام السياسي التي بدأت تتشكل في أواخر الستينات. كان ذلك اليوم المشؤوم، الذي نُظر إليه على أنه استهزاء بأي شرعية دينية قد يتمتع بها نظام بورقيبة، بمثابة لحظة فاصلة لمجموعة سياسية جديدة على نموذج جماعة الإخوان المسلمين. هذا ما يؤكده راشد الغنوشي، زعيم هذه الحركة الإسلامية، في مذكراته عن السياسة التونسية. وكتب الغنوشي: “جاءت ولادة الحركة في أوائل السبعينات، بعد أن كشف مشروع بورقيبة عن عداوته للأمة المسلمة وعقيدتها ولغتها، فضلا عن الاهتمام المتزايد بالحفاظ على هويتنا، مما دفع إلى المطالبة بها ومن يرفع علمها ويدافع عنها”.
شهدت فترة السبعينات صعودًا مطردًا للحركة الدينية في تونس تزامنًا مع صحوة إسلامية أوسع في جميع أنحاء العالم العربي. شهدت مساجد الدولة زيادة في حضور الشباب، وبدأ ارتداء الحجاب ينتشر على نطاق واسع. استهدفت حملات الجماعة الإسلامية، التي أعيدت تسميتها سنة 1981 بحركة الاتجاه الإسلامي، طلاب الجامعات والمعاهد للتوعية والوعظ والعضوية.
تدريجيًا، أصبح فعل الإفطار خلال رمضان أقل وضوحًا في الأماكن العامة. ومع اكتساب الإسلاميين جاذبية في صفوف السكان، بدأ نفوذ الحزب الحاكم في التراجع وأصبح غارقًا في الاقتتال الداخلي وفقد جاذبيته الشعبية. كما قللت أزمات بورقيبة الصحية المتتالية من قدرته على مخاطبة الجمهور وإثارة الجدل حول الدين والهويّة. وعلى الرغم من أن السلطة السياسية في تونس ظلت ثابتة في أيدي بورقيبة والحزب الدستوري الاشتراكي (خليفة الحزب الدستوري الجديد)، إلا أن المشاعر الشعبية بدأت تتحول نحو وجهة نظر أكثر تحفظًا.
تكشف إحدى الحوادث التي وقعت سنة 1981 مدى أهمية شهر رمضان في الصراعات الثقافية والسياسية بين المعسكرين، ومدى تحول التوازن بينهما. في تموز/ يوليو، كان بورقيبة يقضي إجازته في مسقط رأسه المنستير. وأثناء تجوله في أطراف المدينة السياحية، وجد المقاهي والمطاعم والحانات مغلقة، وكان السياح يجلسون تحت ظلال الأشجار. سأل أصدقاءه عما يحدث فقالوا له: “لقد هدّد الإخوان أصحاب المطاعم والمقاهي بأشد العواقب إذا فتحوا محلاتهم خلال أيام الصيام”. وفي الوقت نفسه تقريبًا، هاجم شبان إسلاميون ناديا سياحيا في مدينة قربة بسبب تقديم الطعام والشراب خلال نهار رمضان، مما دفع بورقيبة إلى إصدار أمر بإطلاق حملة أمنية ضد حركة الاتجاه الإسلامي. كانت هذه أول حملة أمنية على الإطلاق يواجهها الإسلاميون في تونس وانتهت بالحكم على قادتهم، الغنوشي وعبد الفتاح مورو، إلى جانب المئات من أعضائهم بالسجن.
وسرعان ما أصدرت حكومة رئيس الوزراء آنذاك محمد مزالي قرارا يقضي بإغلاق المقاهي والمطاعم خلال نهار رمضان (مع استثناءات للسياح)، حيث سعت الدولة إلى استعادة صورتها العامة. أما بورقيبة، فقد واصل الاعتماد على قوة الدولة – بما في ذلك قواته الأمنية – لفرض رؤيته لكنه خسر بالفعل المعركة السياسية ضد المحافظين الدينيين، الذين وجدوا أن السجن يعزز حركتهم ويوحّدها. وهكذا عمل الإسلاميون على الترويج لأنفسهم بين قاعدتهم الاجتماعية باعتبارهم منخرطين في “جهاد الصالحين ضد الأشرار، والإيمان ضد الكفر”.
أقيل بورقيبة من السلطة عندما قاد زين العابدين بن علي انقلابًا عليه في سنة 1987. كان الرئيس الجديد يدرك تمام الإدراك التأثير القيّم الذي مارسه الإسلاميون في نضالهم ضد النظام، وأدرك قوة الإيمان الديني في حشد الدعم الشعبي. لذلك، مثل العديد من المستبدين، سعى إلى إظهار نفسه ونظامه كمدافعين عن الدين من خلال تفكيك الصورة التي زرعها بورقيبة عن الدولة المعادية للإسلام، في حين واصل قمع خصومه السياسيين الإسلاميين.
قرر بن علي إعادة مهمة رصد الأشهر القمرية، بما في ذلك هلال شهر رمضان، وألغى اعتماد التقويم القمري الفلكي. وبدأت الدروس والخطب الدينية في المساجد، وحتى البث التلفزيوني الرسمي، تحثّ الناس على صيام شهر رمضان. وبدأت المؤسسات الخيرية التابعة للدولة والحزب الحاكم تنظيم ولائم إفطار جماعية حضر بعضها رئيس الجمهورية. وفي وسائل الإعلام الرسمية وخطب المساجد، أُطلق على بن علي لقب “حامي الأرض والدين”. خلقت هذه السياسة الجديدة، التي كان رمضان أساسها، نواة دعم لبن علي ساعدته لاحقًا عندما استخدم سلطة الدولة لمواجهة الإسلاميين، وقضى عليهم أخيرًا كقوة سياسية جادة بين سنتي 1991 و1993.
عندما انتقلت إلى العاصمة تونس للدراسة في الجامعة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فوجئت برؤية المقاهي مفتوحة خلال نهار رمضان. وكوني من مدن الجنوب التونسي، لم يكن هذا المنظر مألوفا بالنسبة لي. لقد حقق نظام بن علي توازناً دقيقا بين التعلم من أخطاء بورقيبة فيما يتعلق بشهر رمضان واستيعاب أولئك الذين لا يصومون من خلال السماح لبعض المحلات بالبقاء مفتوحة خلال النهار – ولو أن واجهاتها مغطاة بأوراق الصحف.
ولأن همه الأساسي كان الحفاظ على استقرار نظامه، تبنى بن علي فلسفة حكم تتمحور حول “تأميم السياسة”، وهو ما يعني إلغاءها فعليًا. لقد كان يهدف إلى جعل الدولة وأجهزتها البيروقراطية تقوم بتوجيه المجتمع دون حدوث صدامات حول القيم الدينية والثقافية التي قد تنبع من تنافسها طويل الأمد مع الإسلاميين، ودون أن يتمكن أي لاعب سياسي خارجي من الاستفادة من هذه القيم ضد النظام.
رغم هذه الجهود، فقد الكثيرون في المجتمع التونسي الثقة في طريقة تعامل الدولة مع الشؤون الدينية. وأذكر أن بعض أقاربنا وجيراننا كانوا يصومون خلال شهر رمضان وفقًا للجدول الزمني وتوجيهات مفتي المملكة العربية السعودية، مما يعكس عدم ثقة أوسع بالسلطات الدينية التونسية وتأثير موجة الصحوة الإسلامية التي اجتاحت البلاد في التسعينات من القرن الماضي من خلال الفضائيات.
لم تطح ثورة 2011 ببن علي فحسب، بل زعزعت أيضًا الجمود الاجتماعي بين الحداثيين والمحافظين الذي كان قائمًا إلى حد كبير خلال حكمه. عادت القضايا الخلافية في عهد بورقيبة، بما في ذلك المناقشات حول وضع المرأة والإسلام والإفطار في رمضان، إلى الظهور في وقت واحد بعد الثورة، حيث تحول الإفطار العلني مرة أخرى إلى ساحة معركة. وقد تجلى ذلك بشكل خاص في السنوات الثلاث الأولى التي أعقبت الثورة، عندما كان حزب حركة النهضة، الحزب المنبثق عن حركة الاتجاه الإسلامي، في السلطة.
وخلال هذه الفترة، أخذ بعض الدعاة على عاتقهم ارتياد المقاهي والمطاعم المكشوفة لمواجهة المفطرين، وتعرضت بعض المحلات لحملات أمنية تحت غطاء “الجرائم المخلة بالآداب العامة”، وذلك وفق قانون العقوبات التونسي، رغم عدم وجود أي تشريع يعاقب المفطرين. برزت حرية الإفطار في رمضان، والقيام بذلك علنًا، كقضية مركزية بالنسبة لجزء كبير من الحداثيين، مرتبطة بالموضوع الأوسع للحريات الشخصية. واتخذ الصراع السياسي في البلاد منحى نحو قضايا الثقافة والهوية، في حين تم تهميش التركيز الأولي للثورة على العدالة الاجتماعية والتنمية.
لم يتوقّف الجدل حول رمضان مع خروج النهضة من السلطة. ولا يزال الشهر الكريم يثير الجدل ويشكل نقطة استقطاب سياسي في صفوف المعسكريْن، مع احتفاظ الدولة بقبضة مركزية. يدعم الدستور التونسي الحريات الفردية، بما في ذلك حرية الضمير والمعتقد، ويتم تطبيق القوانين الحالية من قبل الحكومة وفقًا للسياق السياسي والاجتماعي لكل حالة. مع ذلك، استمرت الدولة في تطبيق قراراتها منذ الثمانينات بإغلاق معظم المقاهي والمطاعم خلال شهر رمضان، ولم تتخذ خطوات لطرح تشريع واضح للبرلمان لمعالجة هذه القضية، مما ترك الجدل غامضا دون حل. لذلك لا يخضع الإفطار العلني في رمضان لأي إطار قانوني محدد، بل يخضع لاعتبارات جغرافية وطبقية تمليها كل بيئة اجتماعية.
ففي المدن، وخاصة في الأحياء الثرية، هناك تساهل نسبي تجاه فتح الأماكن العامة للطعام والشراب. في المقابل، في المناطق الريفية والأحياء ذات الدخل المنخفض والمدن الداخلية في جنوب البلاد وغربها، تتطلب القاعدة الاجتماعية المحافظة تطبيقًا أكثر صرامة من جانب السلطات. وفي هذه المناطق، غالبًا ما يختار البعض الإفطار سرًا لتجنب الوصمة والنبذ من عائلاتهم ومجتمعاتهم القبلية.
عندما طرح بورقيبة وجهة نظره بشأن رمضان للمرة الأولى، أثار جدلاً حول الشهر الفضيل جسّد الجدل السياسي والديني مع خصومه، كما عمّق الانقسام الثقافي والجهوي في البلاد، وسلّط الضوء على تونس وشعبها في المجتمعات المجاورة، وهي صورة لم يقوّضها مرور الزمن أو وفاة بورقيبة. وفي أعقاب تشديد الرئيس قيس سعيّد قبضته على السلطة في تونس، وإرساء نظام شعبوي واستبدادي يقوّض حرية التعبير، برز شهر رمضان كنقطة محورية للجدل والنقاش الفكري.
وهذه السنة، يبدو الشهر الكريم هادئًا بشكل غريب وخاليًا من المناقشات الساخنة التي ميزته تقليديًا. مع ذلك، فإن هذا الهدوء يتحدث كثيرًا عن حالة الشلل السياسي الحالية التي تجتاح الفصائل المحافظة والحداثية في البلاد.
منذ تموز/ يوليو 2021، قام سعيّد بتهميش الأصوات المحافظة والحداثية بشكل فعال واحتكر الخطاب السياسي والرأي العام. وقد ألقت هذه الهيمنة بظلالها على الحماسة المعتادة للمناظرات الرمضانية، مما يمثل خروجا صارخا عن القاعدة. ويمكن للمرء أن يعزو هذا الهدوء إلى ميول سعيّد المحافظة الذي يفضل مجالًا عامًا أكثر هدوءًا. وبدلا من ذلك، قد ينبع ذلك من الواقع الاقتصادي القاسي الذي يواجه التونسيين، بما في ذلك ارتفاع تكاليف المعيشة والضغوط المالية واسعة النطاق. وبينما يُعاني المواطنون من الصعوبات الاقتصاديّة، فإن ترف مناقشة طقوس رمضان يأخذ مقعدًا خلفيًا أمام المخاوف الأكثر إلحاحًا.
ولا تعكس الطبيعة الهادئة لشهر رمضان هذه السنة وطأة الركود السياسي فحسب، بل تعكس أيضًا الحقائق القاسية للحياة اليومية للتونسيين. وبينما تتعامل الأمة مع مشهدها الاجتماعي والسياسي، فإن غياب المناقشات الرمضانية الحماسية هو بمثابة تذكير مؤثر بالتحديات التي تواجه شعبها.
المصدر: نيولاينز