عاد السيد سعد الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية، أخيراً إلى بيروت، بعد غياب لفه الغموض والتكهنات من كل صوب. وكان الحريري استدعي فجأة إلى السعودية في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر؛ وخلال ساعات من وصوله العاصمة السعودية، وبدون وجود أية مؤشرات مسبقة، أعلن استقالته من منصبه.
الاستقالة المفاجئة، التي يبدو أنها كانت بطلب من السعودية، من جهة، وتزامنها مع حملة اعتقالات طالت عشرات من الأمراء وكبار رجال الأعمال والوزراء السعوديين، ولدت انطباعاً بأن حرية الحريري باتت مقيدة. أنكر الحريري شخصياً شائعات احتجازه، وقام باستقبال عدد من المسؤولين في مقر إقامته بالرياض، بما في ذلك وزير الخارجية الفرنسي، القائم بالأعمال الأمريكي، السفير التركي، والبطريرك الماروني.
ولكن نفي الحريري للشائعات التي طالت لا يعني بالضرورة تمتعه بكامل حريته خلال غيبته السعودية التي استمرت لأسبوعين كاملين. كما أن الطريقة التي غادر بها الحريري السعودية، وتطلبت ما يشبه الوساطة الفرنسية، أثارت المزيد من الأسئلة حول الإقامة الملتسبة في الرياض، بيد أن البحث عن حقيقة ما جرى لرئيس الحكومة اللبنانية وما تعرض له خلال إقامته السعودية لم يعد جوهر الأمر. جوهر الأمر، الآن، أن الإدارة الخرقاء لأزمة الحريري أدت إلى نتائج مخالفة كلية للأهداف التي توخاها هو، أو توخاها من دفعه، من الاستقالة.
ما قاله الحريري في خطابه القصير للشعب اللبناني أن السبب الرئيسي لاستقالته يتعلق بسيطرة حزب الله على الشأن اللبناني، وتورط الحزب في صراعات إقليمية لا شأن للبنان بها، وقيامه بدور أداة المشروع التوسعي الإيراني، الذي يعبث في أكثر من دولة عربية، من سوريا ولبنان والعراق، إلى البحرين واليمن.
الهدف المرتجى من استقالة الحريري لم يتحقق، ما أريد له أن يكون إشارة اصطفاف وحشد في مواجهة حزب الله وإيران، تحول إلى شيء آخر مختلف تماماً
من وجهة نظر الحريري، كما وجهة نظر السعودية وقطاع واسع من اللبنانيين، لم يعد باستطاعة الحزب التصرف كميليشيا مسلحة وحزب سياسي في الوقت نفسه، كما لم يعد لدى لبنان فسحة كبيرة من الزمن لتحمل أعباء سلاح الحزب وولاءاته. ما أريد من الاستقالة إذن، بغض النظر عما إن كانت تعبيراً عن تقدير رئيس الحكومة اللبنانية الخالص للأمور، أو عن مقاربة سعودية جديدة للموقف في لبنان والإقليم، هو بالتأكيد جرس إنذار للطبقة السياسية ولعموم اللبنانيين، على السواء. تلا جرس الإنذار هذا مباشرة طلب سعودي لعقد إجماع لمجلس الجامعة العربية لبحث مسألة نشاطات الميليشيات المرتبطة بإيران في أكثر من دولة عربية.
بمعنى أن السعودية، التي يحمل الحريري جنسيتها، أيضاً، والتي تعتبر الركيزة الإقليمية الرئيسية لزعامته اللبنانية، بدأت حملة سياسية متعددة الأوجه للتعامل مع النفوذ المتصاعد لحزب الله، ومع الميليشيات المسلحة وثيقة الصلة بإيران، التي تنشط في دول عربية أخرى. يعزز هذه الحملة التوافق السعودي ـ الأمريكي حول مواجهة حزب الله، الذي عبرت عنه واشنطن بفرض عقوبات على الحزب؛ وما تشير إليه جملة تقارير حول توافق سعودي ـ إسرائيلي حول مناهضة النفوذ الإيراني في الإقليم.
ولكن المؤكد، على أية حال، أنه مهما كان حجم الجهد الإقليمي والدولي، فليس من الممكن تحقيق أية أهداف ملموسة بدون وجود ركيزة لبنانية للمواجهة مع الحزب. سعد الحريري وتيار المستقبل وحلفاؤه هم هذه الركيزة. وهنا تقع أهمية الموقف الذي اتخذه، وما سيتخذه، الحريري.
بيد أن الهدف المرتجى من استقالة الحريري لم يتحقق. ما أريد له أن يكون إشارة اصطفاف وحشد في مواجهة حزب الله وإيران، تحول إلى شيء آخر مختلف تماماً. خلال ساعات من إعلان الاستقالة، شككت أوساط حزب الله، وحليفه التيار الوطني الحر، بحقيقة موقف الحريري، وبدستورية قيام رئيس الحكومة تقديم استقالته من خارج لبنان، وبدون تواصل فعلي مع رئيس الجمهورية. الرئيس اللبناني، ميشيل عون، الذي وصل إلى مقعد الرئاسة برافعة تحالفه مع حزب الله، أكد على أنه لن يقبل الاستقالة وأنه سينتظر مقابلة رئيس الحكومة لمعرفة ما إن كان قرر فعلاً، وبإرادته الحرة، الاستقالة، وما إن كانت ستقبل أو لا.
تنديد وزير الخارجية الألماني المباشر وعالي النبرة بالطبيعة المغامرة للسياسة السعودية خلال الشهور الأخيرة، ولد أزمة دبلوماسية بين برلين والرياض، ودفع الأخيرة إلى استدعاء سفيرها من العاصمة الألمانية
وحتى الكتلة البرلمانية لتيار المستقبل، الذي يترأسه الحريري، طالب بعودته السريعة إلى لبنان. وما إن بدأ الغموض يحيط بوجود الحريري في الرياض، حتى تحول حزب الله إلى حام لسيادة لبنان ودولته، وهو من يشكل الانتهاك الأكبر لهذه السيادة منذ عقود. ولم يتردد الجنرال عون في وصف احتجاز الحريري في الرياض بإلعمل العدواني.
في الوقت نفسه، بدأ وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، صهر الرئيس وخليفته في قيادة التيار الوطني الحر، جولة على عدد من العواصم ذات الاهتمام بالشأن اللبناني، بما في ذلك باريس، لندن، برلين، أنقرة وموسكو. وبالرغم من أن باسيل ليس معروفاً بعبقريته الدبلوماسية، فقد أثارت جولته تعاطفاً ملموساً مع موقف عون، وانتقادات ضمنية وصريحة للموقف السعودي.
تنديد وزير الخارجية الألماني المباشر وعالي النبرة بالطبيعة المغامرة للسياسة السعودية خلال الشهور الأخيرة، ولد أزمة دبلوماسية بين برلين والرياض، ودفع الأخيرة إلى استدعاء سفيرها من العاصمة الألمانية. وربما باستثناء إدارة ترامب، أظهر أغلب دول العالم المهتمة بالشأن اللبناني استهجاناً واضحاً لما بدا وكأن دولة لا تفرض إرادتها على رئيس حكومة دولة أخرى، وحسب، بل وتقيد حريته.
في واقع الأمر، ليس ثمة شك أن حزب الله يلعب دور الذراع الإيرانية في الإقليم، الأمر الذي لم تخفه قيادة الحزب مطلقاً؛ وفي نهج الحزب السياسي، تقدم مصالح إيران على أية اعتبارات، سواء مثلت تلك المصالح تهديداً لاستقرار لبنان والاضرار بأمنه، أو تهديداً لاستقرار دول عربية أخرى وإضراراً بأمنها وتماسك جماعاتها الوطنية. وليس ثمة شك أن الحزب، بالرغم من مشاركته في كافة الحكومات اللبنانية طوال العقد الماضي، وتوقيعه على برامج هذه الحكومات، لم يكترث بأي صورة مقنعة بسياسة النأي بلبنان عن الصراعات في الدول العربية الأخرى وبينها.
تحولت الحكومة اللبنانية، باختصار، إلى غطاء سياسي لتغول حزب الله وهيمنته على الشأن اللبناني
شارك الحزب، ومنذ 2012، مشاركة مسلحة فعالة في حماية نظام الأسد، وارتكب جرائم، بعضها يرقى إلى مستوى جرائم الحرب، ضد الشعب السوري. كما لعب الحزب، ويلعب، أدواراً متفاوتة في الصراع الطائفي في العراق واليمن، تدريباً وتنظيماً وتسليحاً للميليشيات الطائفية المرتبطة، كما الحزب، بإيران واستراتيجيتها الإقليمية.
ذهب الحريري لصفقة الرئاسة ـ رئاسة الحكومة، قبل عام، في ظل شعور من الهزيمة أمام المد الإيراني الإقليمي، وفقدان القدرة على مقاومة نفوذ إيران المتزايد في لبنان والجوار العربي. ليس من الواضح ما إن كانت السعودية أيدت قرار الحريري آنذاك، أو لا.
المؤكد أن السعودية لم تكن حينها في موقع يدفع الحريري إلى الاطمئنان لقرب اندحار إيران وحلفائها. وهكذا، ولدت حكومة الحريري الأخيرة، التي تمتعت فيها كتلة حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر بثلثي المقاعد، وبدأت الأغلبية تملي إرادتها على الحكومة، كما اتضح في طرد القضاة المؤيدين للمحكمة الدولية المختصة باغتيال الحريري الأب، إقرار قانون انتخابي طائفي، وعودة السفير اللبناني إلى دمشق. تحولت الحكومة، باختصار، إلى غطاء سياسي لتغول الحزب وهيمنته على الشأن اللبناني. وكان لابد، آجلاً أو عاجلاً، خوض مواجهة حاسمة مع الحزب والنفوذ الإيراني في لبنان، كما في دول عربية أخرى. المشكلة، أن أحداً ما في السعودية قرر خوض هذه المواجهة الآن، وأدارها، من ثم، بصورة خرقاء.