ترجمة وتحرير: نون بوست
صادف الشهر الماضي الذكرى الخمسين لرفع السعودية الحظر النفطي الذي فرضته على الولايات المتحدة لمدة خمسة أشهر بسبب دعم واشنطن لإسرائيل. في 10 آب/ أغسطس 1973، أي قبل شهرين تقريبًا من اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية وفرض الحظر النفطي، أخبر مستشار الأمن القومي آنذاك هنري كيسنغر مدير مكتب سياسة الطاقة، جون لوف، بخصوص الاستخدام المحتمل للنفط كسلاح، أن “السعوديين ليسوا متطورين بما يكفي لفهم ذلك، وبالتالي فهم أكثر خطورة”.
جاءت هذه المحادثة لأن لوف أراد مناقشة ما أسماه “المشكلة السعودية”. وكان يعني بذلك التغيير الأخير في السياسة السعودية الذي أدى إلى التهديد باستخدام النفط كأداة لممارسة الضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي التي احتلتها في حرب سنة 1967. واعتقد كيسنغر أن الصراع العربي الإسرائيلي “غير قابل للحل”، وأن أي “حكومة عربية توقع على تسوية مقبولة للإسرائيليين ستخرج في غضون سنتين”. ولهذا السبب كان يعتقد أن السعوديين ليسوا متطورين بما يكفي لفهم مخاطر كونهم في طليعة هذه القضية سواء بالنسبة لهم أو بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة.
ومنذ الإعلان عن وفاة كيسنغر في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر عن عمر يناهز 100 سنة، تركز معظم النقاش العام حول إرثه على التشكيك في أخلاقية نهجه في السياسة – أي الالتزام بالسياسات “الواقعية” التي قد تكون غير أخلاقية ولكن عملية، وما يترتب على ذلك من إطالة أمد الحروب ومعاناة المدنيين ووفياتهم، كما حدث في فيتنام، ولكن حتى في العالم العربي، الذي عانى من سياساته، كان لا يزال يحظى بمعجبين. فقد كتب عبد الرحمن الراشد، أحد أبرز المعلقين السياسيين السعوديين، في صحيفة الشرق الأوسط السعودية، أن كيسنغر تميز عن غيره من وزراء الخارجية الأمريكيين بكونه “صانع إستراتيجيات” وأن “واقعيته” كانت مثيرة للإعجاب.
ومع ذلك؛ فإن دراسة إرثه في التعامل مع “مشكلة السعودية”، على حد تعبير لوف، تكشف عن القليل من التفكير الإستراتيجي والمزيد من النهج المخصص المتأثر بالقيم الأيديولوجية العميقة والفهم الساذج للشرق الأوسط.
قبل اندلاع حرب سنة 1973؛ قلل كيسنغر من أهمية التهديدات السعودية باستخدام تجارة النفط كسلاح، وصمم سياسة طوارئ في حالة استخدام السعوديين للنفط ضد الولايات المتحدة. ومع ذلك، فرض السعوديون، إلى جانب الدول العربية الأخرى المنتجة للنفط، حظرًا على الولايات المتحدة ودول أخرى بسبب دعمهم لإسرائيل أثناء الصراع. ليس هذا فحسب؛ بل حتى خطته الطارئة فشلت في التخفيف من تأثير القرار السعودي. وعندما اندلعت الحرب؛ كان كيسنغر يفتقر إلى إستراتيجية لاحتوائها وإنهائها في نهاية المطاف. لقد أراد في البداية اتباع سياسة مخصصة لاحتلال منشآت النفط السعودية، وقد شكل تفكيره إمبريالية القرن التاسع عشر وفكرة التسلسل الهرمي للحضارات العالمية. وعندما فشلت هذه السياسة لجأ إلى التهديد بنشر الرسائل الخاصة بين إدارته والسعودية. وفي حين انتهى الحظر في نهاية المطاف دون تلبية المطلب السعودي الرئيسي بالانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى خطوط حدود سنة 1967، فقد نجح في ربط المصالح الأمريكية في نفط المنطقة بالصراع العربي الإسرائيلي على مدى العقود الخمسة التالية، وهي النتيجة التي ناضل كيسنغر جاهدًا لمنعها.
في كانون الأول/ ديسمبر 1972، أنهى العاهل السعودي الملك فيصل سياسة طويلة الأمد بعدم السماح “باستخدام النفط كسلاح سياسي”، على حد تعبير جيمس أكين في مقال بمجلة فورين أفيرز في أوائل سنة 1973. وفي ذلك الشهر، قام اثنان من المسؤولين الأمريكيين، هما جون قام كونالي وفرانكلين لينكولن بزيارة فيصل بشكل منفصل وعادا بنفس الرسالة. وقال الملك فيصل إنه لا يمكن أن يكون هناك مزيد من التطوير للمصالح الاقتصادية السعودية الأمريكية المشتركة أو أي توسع إضافي في إنتاج النفط؛ حسبما أفاد كيسنغر لنيكسون، وفقًا لأرشيف وزارة الخارجية، “بدون تسوية سياسية للصراع العربي الإسرائيلي”.
وبحسب الزائرين؛ فإن فيصل أخبرهما أيضًا أنه يتعرض لضغوط هائلة من أجل “قطع إمدادات النفط”. وعلق كيسنغر على هذا التقرير بالإشارة إلى أن هذا هو “أول ربط مباشر لفيصل بين المشكلة العربية الإسرائيلية والنفط”. واختتم تقريره بالتنبؤ الصحيح في النهاية بأن فيصل “لن يبقى بعد الآن في موقف سلبي وودي تمامًا إلى أجل غير مسمى في انتظار إجراء أمريكي مناسب لحل النزاع العربي الإسرائيلي”.
وفي الأشهر التالية، أعلن المسؤولون السعوديون قرارهم بربط مستقبل العلاقات السعودية الأمريكية بحل الصراع العربي الإسرائيلي. وكما يوضح المؤرخ روديجر غراف في كتابه “النفط والسيادة”؛ فإن هذه الحملة العامة بدأت في أيار/ مايو 1973 بمقابلة أجرتها صحيفة واشنطن بوست مع وزير البترول والثروة المعدنية السعودي أحمد زكي يماني تحت عنوان “السعوديون يربطون النفط بالسياسة الأمريكية تجاه إسرائيل”. وبعد أسابيع قليلة؛ ضغط فيصل على شركات النفط الأمريكية التي كانت الشركات الأساسية لشركة أرامكو السعودية لنقل الرسالة نفسها. وفي صيف سنة 1973؛ نشرت شركة موبيل إعلانًا على صفحة كاملة في صحيفة نيويورك تايمز تحذر فيه الشعب الأمريكي من العواقب الاقتصادية إذا لم تتخذ الحكومة الأمريكية خطوات جادة للضغط على إسرائيل للانسحاب إلى حدود سنة 1967. وفي تموز/ يوليو 1973، وتحت عنوان “فيصل يحذر الولايات المتحدة من إسرائيل”، أخبر العاهل السعودي الصحفي جيم هوغلاند، من صحيفة واشنطن بوست، أن “السعودية ستجد أنه من الصعب مواصلة التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة إذا ظل الدعم الأمريكي لإسرائيل عند مستواه الحالي”.
وكان رد الفعل جزئيًا على هذا التحول في السياسة السعودية هو أن كيسنغر سعى إلى تطوير إستراتيجية لتقليل تأثير أي حظر نفطي عربي محتمل. وفي آذار/ مارس 1973؛ أمر بإعداد مذكرة دراسة الأمن القومي، حول “الآثار المترتبة على الأمن القومي للطاقة العالمية”، والتي تم الانتهاء منها في آب/ أغسطس. وبالإضافة إلى الاقتراحات العامة لمواجهة التهديد المتمثل في التعرض لنقص الإمدادات الدولية، تناولت الدراسة على وجه التحديد تأثير الصراع العربي الإسرائيلي على انقطاع النفط المحتمل. وشجعت الدراسة على مجموعة من الإستراتيجيات لمنع “العرب المعتدلين”، وفي المقام الأول “موردنا الرئيسي، السعودية”، من استخدام النفط للتأثير على سياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي. وتضمنت هذه الأفكار الإستراتيجية “إظهار بعض الحركة”، وزيادة تكلفة مثل هذا الإجراء من خلال زيادة مشاركة الولايات المتحدة في أمن واقتصادات البلدان المنتجة للنفط، فضلًا عن تقليل فعالية استخدام النفط كسلاح من خلال الاعتماد بشكل أكبر على إيران وزيادة الإنتاج المحلي.
بالإضافة إلى المصلحة الوطنية المتمثلة في منع السعودية من استخدام قوتها النفطية ضد الولايات المتحدة، اعتقد كيسنغر أيضًا أنه ليس من مصلحة السعودية القيام بذلك. وأعرب عن اعتقاده بأن السعوديين “أقل تجهيزًا… للتعامل مع المشكلة الإسرائيلية” – لأنه يعتقد بشكل أساسي أن المشكلة غير قابلة للحل وأن السعودية تعرض نظامها للخطر من خلال محاولتها حلها. فهو يرى أنه من المستحيل أن تنسحب إسرائيل إلى حدود سنة 1967، وأي نتيجة للسلام ستكون أقل مما توقعه العرب. ولذلك كان من الأفضل للسعوديين أن يكونوا معزولين عن تداعيات مثل هذه السياسة. وقال كيسنغر في أغسطس/ آب: “السعوديون ليسوا متطورين بما يكفي لفهم ذلك، وبالتالي فهم أكثر خطورة”. وظل يكرر هذا الموقف في مناسبات عديدة. على سبيل المثال، أخبر وزير الخارجية الإسرائيلي في 17 آب/ أغسطس أنه يعتقد أنه “من الخطأ إشراك السعوديين في النزاع العربي الإسرائيلي”. وفي 10 أيلول/ سبتمبر، أبلغ السفير الإسرائيلي “بإستراتيجيته لإبقاء السعوديين خارج النزاع العربي الإسرائيلي”.
لقد فشلت إستراتيجية كيسنغر فشلًا ذريعًا؛ حيث فشل في عزل السعودية عن الصراع العربي الإسرائيلي وفشلت خطته التخفيفية طبقًا للدراسة في عزل المستهلكين الأمريكيين عن الاستخدام الاستراتيجي العربي للنفط. والواقع أنه حتى اليوم الذي سبق قرار الدول العربية المنتجة للنفط بمقاطعة الولايات المتحدة، أصر كيسنغر على أن السعوديين لن يفعلوا ذلك.
إن إلقاء نظرة فاحصة على أداء كيسنغر في الفترة من 16 إلى 20 تشرين الأول/ أكتوبر يكشف عن حدود ما يسمى بنهجه الواقعي والبراغماتي في التعامل مع السياسة. وفي 10 تشرين الأول/ أكتوبر، ذكرت وكالة المخابرات المركزية أن يماني أبلغ شركات النفط الأمريكية أن السعودية قد تخفض إنتاج النفط. وقد تسربت هذه المعلومات إلى صحيفة نيويورك تايمز، التي نشرت خبرًا على صفحتها الأولى في 16 تشرين الأول/ أكتوبر تحت عنوان “تقرير عن تهديد سعودي للنفط”. ما يعنيه هذا هو أنه بحلول 16 تشرين الأول/ أكتوبر، كان كيسنغر على علم جيد بالتهديد السعودي من خلال وكالة المخابرات المركزية ووسائل الإعلام الأمريكية، ومع ذلك فلم يأخذ الأمر على محمل الجد. ربما يرجع السبب في ذلك إلى أنه لم يبنِ حكمه على فهم دقيق للتاريخ والسياسة وتوازن القوى في الشرق الأوسط، بل على محادثته الشخصية في 12 تشرين الأول/ أكتوبر مع وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية عمر السقاف، والذي أكد الأخير أن السعوديين ليس لديهم نية “شنق أنفسهم” بقطع النفط وجلب المزيد من المشاكل إلى الشرق الأوسط.
وفي صباح يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر، التقى وفد من وزراء الخارجية العرب، برئاسة السقاف، مع نيكسون وكيسنغر. وركزت المناقشات على ضرورة وقف إطلاق النار، وإجبار إسرائيل على الانسحاب إلى حدود سنة 1967 وإعادة إمداد إسرائيل بالأسلحة الأمريكية. وعند الظهر؛ أخبر كيسنغر نيكسون أن اجتماعهم مع الوزراء العرب “كان صباحًا ناجحًا للغاية”. بعد الساعة الثالثة بعد الظهر، ترأس كيسنغر مجموعة الإجراءات الخاصة في واشنطن لمناقشة الشرق الأوسط.
وفي ذلك الاجتماع، تفاخر بأننا “لا نتوقع قطع النفط حاليًا في ضوء المناقشات مع وزراء الخارجية العرب هذا الصباح”. وسأل المشاركين مازحًا: “هل رأيتم وزير الخارجية السعودي يخرج كطفل صغير ويقول إنهم أجروا محادثات مثمرة للغاية معنا؟”.
وبعد الساعة الرابعة مساء، في اجتماع آخر، هنأ كيسنغر نيكسون على “أفضل إدارة للأزمة منذ أن كنت في البيت الأبيض”.
وفي الوقت نفسه الذي كان فيه كيسنغر يحتفل بنفسه لمنعه تسليح النفط، كان القرار العربي باستخدام النفط في المجهود الحربي قد اتخذ بالفعل. ففي الكويت، اجتمع وزراء النفط العرب وقرروا خفض إنتاج النفط بنسبة خمسة بالمئة، على أن يعقبه خفض إضافي بنسبة خمسة بالمئة كل شهر إلى أن تنسحب إسرائيل إلى حدود ينة 1967.
وقررت الحكومة السعودية، إلى جانب دول أخرى، تجاوز النسبة المتفق عليها وخفض إنتاجها بنسبة 10 بالمئة، كما فرضوا من جانب واحد زيادة بنسبة 70 بالمئة في سعر النفط من 3.01 دولارات للغالون إلى 5.12 دولارات.
وفي مكالمة هاتفية صباح يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر مع السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، رونالد زيجلر، قلل كيسنغر من تأثير قرار التخفيض ووصفه بأنه “شيء رمزي”. وبعد أقل من 48 ساعة، وردا على طلب نيكسون من الكونغرس مساعدات بقيمة 2.2 مليار دولار لإسرائيل، أعلنت المملكة العربية السعودية فرض حظر نفطي كامل على الولايات المتحدة.
ولم يفشل كيسنغر في منع استخدام السعودية للنفط كسلاح ضد الولايات المتحدة فحسب، بل اعتقد أيضًا خطأً أن حظر النفط سيكون أكثر فعالية من تخفيضات النفط، وقال في مذكراته: “لقد ركزنا بشدة على خطر الحظر لدرجة أننا اعتقدنا أن خفض الإنتاج كان إلى حد كبير لفتة رمزية”.
في الواقع؛ كما يوضح المؤرخ فيكتور ماكفارلاند في كتابه “القوى النفطية”، تم تخفيف تأثير الحظر بسرعة من خلال قيام شركات النفط بنقل النفط غير العربي إلى الولايات المتحدة بينما ترسل النفط العربي إلى أماكن أخرى. من ناحية أخرى، أدى خفض إنتاج النفط إلى خفض إجمالي حجم النفط المتاح عالميًا، مما أدى إلى وصول سعر البرميل إلى 11.56 دولارًا بحلول كانون الأول/ ديسمبر 1973.
وقد أدى هذا، إلى جانب الأنظمة التنظيمية الأمريكية الضعيفة وغير المستعدة، إلى تعطيل الاقتصاد الأمريكي، الذي اشتهر بالفترة الطويلة من التخفيضات في إنتاج النفط والانتظار في طوابير الغاز.
وقد غيرت أزمة الطاقة والذعر الذي أعقبها حياة العديد من الأمريكيين، حيث دفعتهم إلى النضال اليومي لتأمين الوقود اللازم لقيادة سياراتهم وتدفئة منازلهم وإدارة أماكن عملهم. وفي نيسان/ أبريل 1974، نشرت صحيفة ‘نيويورك تايمز” قصة بعنوان “بالنسبة للبنزين، القليل مؤكد ولكن الأسعار مرتفعة”، والتي وصفت كيف أن أزمة الطاقة “خلقت الفوضى، وعلى الأقل لفترة وجيزة، غيرت عادات القيادة لأمة بأكملها”.
وإدراكًا لفشل إستراتيجياته لمنع أو تخفيف آثار نشر السعودية لنفوذها النفطي، تبنى كيسنغر سياسات مخصصة لإنهاء الحظر النفطي. وكانت الفكرة الأولى التي تبادرت إلى ذهنه هي غزو منشآت النفط السعودية والمطالبة بالنفط.
وعندما تم اقتراح هذه الفكرة لأول مرة في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1973 من قبل وزير الدفاع جيمس شليزنجر، رفضها كيسنغر ووصف شليزنجر بأنه “مجنون”. ومع ذلك، بعد يومين، بدأ يتخيل الفكرة أمام موظفيه في اجتماع للموظفين في وزارة الخارجية.
وقال لهم كيسنغر: “أعرف ما كان سيحدث في القرن التاسع عشر. إن فكرة أن المملكة البدوية يمكن أن تدعم أوروبا الغربية والولايات المتحدة كانت فكرة غير قابلة للتصور على الإطلاق”.
واستمر في تخيل ما كانت ستفعله القوى الإمبراطورية في القرن التاسع عشر قائلًا: “كانوا سيقسمون حقول النفط، وكانوا سيحلون المشكلة”. ومع ذلك، حتى هذه اللحظة، ظل متمسكًا بموقفه المتمثل في عدم إمكانية تنفيذ هذه الفكرة.
ولكن في تشرين الثاني/ نوفمبر، عندما ذكر شليزنجر الفكرة مرة أخرى، رد كيسنغر قائلاً: “من السخافة أن يعوق العالم المتحضر ثمانية ملايين همجي. ألا يمكننا الإطاحة بأحد المشايخ فقط لنظهر أننا قادرون على القيام بذلك؟”.
وكما يشرح أندرو سكوت كوبر في كتابه “ملوك النفط”، وضع شليزنجر وكيسنغر خططًا “للاستيلاء على أبو ظبي”، الإمارة الغنية بالنفط في دولة الإمارات العربية المتحدة المؤسسة حديثًا، في الأيام الأخيرة من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر. وعلى الرغم من أن الخطة لم يتم تنفيذها، إلا أن كيسنغر نظم مؤتمرًا صحفيًا في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر حيث هدد علنًا باتخاذ “إجراءات مضادة” إذا استمر الضغط الاقتصادي. وفي اليوم التالي، ظهر يماني، وزير النفط السعودي، في مقابلة تلفزيونية في كوبنهاغن وأعلن أن السعودية ستخفض إنتاجها النفطي بنسبة 80 بالمئة إذا تم اتخاذ أي إجراءات مضادة، كما أخبر جماهيره الأمريكية والأوروبية واليابانية أن الحكومة السعودية مستعدة لتفجير منشآتها النفطية إذا قامت الولايات المتحدة بأي عمل عسكري. وقد تم إثبات هذه التهديدات من قبل وكالة المخابرات المركزية وأنهت محاولة كيسنغر فصل قضية السلام العربي الإسرائيلي عن الحظر النفطي.
وكان النهج المخصص الثاني لكيسنغر هو التهديد في كانون الثاني/ يناير 1974 بنشر الرسائل السرية بين إدارته والسعودية. ويبدو أن هذا التهديد ينبع من إدراكه أن الدافع وراء الحظر النفطي السعودي كان الرغبة في البقاء في منطقة مليئة بالدول المتطرفة، وأن السعوديين “يجب أن يكونوا أكثر تطرفٕا من المتطرفين”.
ولذلك فإن التهديد بنشر الرسائل السرية قد “يفضح” السعوديين أمام جيرانهم، وقد أصبح هذا الأمر ملحا بالنسبة له بشكل خاص بعد أن تراجعت الحكومة السعودية عن الوعد الذي قطعته بشكل خاص لنيكسون بأن الحظر سيتم رفعه إذا تم تحقيق فك الارتباط الإسرائيلي المصري. واعتمد نيكسون على هذا الوعد في التزامه العلني بإنهاء الحظر في خطابه عن حالة الاتحاد سنة 1974.
وعندما نقل السفير الأمريكي في الرياض هذا التهديد إلى السقاف، رد الأخير ببساطة بالإشارة إلى أن هذه الرسائل كانت أكثر ضررًا لنيكسون منها للعرب. وذلك لأن “كل محادثة مع الوزير أو معي، كانت في الأساس نداءً لحماية ريتشارد نيكسون. لقد كان الأمر مجرد أن على العرب أن يتحركوا لحماية رئاسة ريتشارد نيكسون”. ثم أخبر السفير أنه إذا مضى كيسنغر قدمًا ونشر الرسائل، فإن السعوديين “سيكشفون أيضًا عن أي أجزاء من التبادلات التي تغفلها واشنطن”.
ولم ترفع السعودية، إلى جانب الدول النفطية العربية الأخرى، الحظر النفطي في 18 آذار/ مارس 1974، إلا بعد تلبية بعض مطالبها. ورغم أن الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي التي احتلتها سنة 1967 لم يتحقق، فقد نجح الحصار في ربط الصراع العربي الإسرائيلي بمصالح الولايات المتحدة في نفط المنطقة، وهي النتيجة التي حاول كيسنغر جاهدا منع حدوثها.
وارتبط هذا الفشل بشكل مباشر بالمواقف الأيديولوجية التي اتخذها والتي أثرت على فهمه لسياسة المنطقة. وقد تأثرت وجهات نظره بشأن سلوك الدول في المنطقة بالثنائية بين العرب “المتطرفين” مقابل “المعتدلين”، وفكرة العالم المنقسم هرميًّا إلى حضارات متعددة، والافتقار التام إلى المعرفة بالاعتماد المتبادل في مجال الطاقة العالمية. وقد جعلت هذه الآراء أي محاولة لبناء إستراتيجية عقيمة، وكما زعم ستيفن والت عالم السياسة بجامعة هارفارد في مجلة “فورين بوليسي” بعد وفاة كيسنغر، فإنها تتعارض مع التقليد الواقعي ونظرياته.
المصدر: مجلة نيولاينز