كنهاية كل سنة، مع بدء مناقشة مشروع الموازنة العامة للبلاد ومشروع قانون المالية للسنة المقبلة، تشتد الأزمة بين الحكومة التونسية بقيادة يوسف الشاهد التي ترى ضرورة القيام بإصلاحات اقتصادية قاسية للخروج من الأزمة التي تشهدها تونس منذ سنوات، والنقابات العمالية على رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يرى في هذه الإصلاحات بابًا لاستنزاف القدرة الشرائية للمواطنين.
مصلحة تونس هي الأولى
تتجه الحكومة التونسية نحو إقرار إصلاحات اقتصادية واسعة لمواجهة الأزمة التي تعاني منها البلاد وإنعاش الاقتصاد المنهار، رغم المعارضة التي تواجهها من بعض الأطراف، وقال رئيس الحكومة يوسف الشاهد أول أمس الثلاثاء، في خطاب أمام البرلمان مع انطلاق مناقشة ميزانية العام المقبل: “دائمًا هناك اتفاق بشأن تشخيص الأزمة، ولكن في وقت الإصلاحات نرى الرفض وهيمنة النزعة القطاعية”، وأضاف: “سنتحاور مع الجميع للوصول لتوافق، ولكن لن نتراجع عن الإصلاحات، وسنكشف عن كل اللوبيات التي تسعى لإفشال الإصلاحات، وسنجعل فقط مصلحة تونس هي الأولى”.
تخطط تونس أيضًا كما ورد في مشروع الموازنة العامة للسنة المقبلة لتسريح نحو 10 آلاف موظف من القطاع العام بشكل طوعي
وبحسب وثيقة مشروع قانون الموازنة المعروضة على البرلمان، سيتم زيادة ضريبة القيمة المضافة بنقطة مئوية عند 7% على أنشطة تتعلق بقطاعات التعليم والتدريب والخدمات الصحية والأدوية المصنعة محليًا وأنشطة النقل والسياحة، علاوة على المطاعم والمقاهي وأنشطة وسلع أخرى تتعلق بالبيئة والطاقة، والتجهيزات الموردة التي ليس لها مثيل مصنع محليًا.
ومن الإجراءات المقترحة ضمن مشروع الموازنة العامة إحداث مساهمة عامة اجتماعية بنسبة 1% على الدخل الخاضع للضريبة، وسيقع توظيف هذه المساهمة على أساس سد العجز في الصناديق الاجتماعية التي تشكو عجزًا ماليًا فاق 1.9 مليار دينار (791 مليون دولار)، وفق البيانات الرسمية.
وتخطط تونس أيضًا كما ورد في مشروع الموازنة العامة للسنة المقبلة لتسريح نحو 10 آلاف موظف من القطاع العام بشكل طوعي خلال العام المقبل مع تقديم حوافز مالية، بينما يستعد 6 آلاف و500 موظف آخر للخروج هذا العام في إطار التقاعد المبكر، ومن المتوقع أن يساهم خفض الوظائف بشكل اختياري في تخفيض ميزانية الأجور لنحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي في 2020، مقابل 13.8% متوقعة خلال 2018.
https://www.youtube.com/watch?v=dtCBMXxXcFo
وتقول الحكومة في مشروع موازنة 2018 إنها لا تنوي تعيين موظفين جدد محل المحالين على التقاعد، وستعمل على تغطية احتياجات التوظيف داخل أجهزة الدولة من خلال إعادة تنظيم الموارد البشرية المتوفرة لديها، كما ستجعل برامج الترقيات السنوية أكثر خضوعًا لمبادئ الجدارة والتميز، وتندرج هذه الخطط الحكومية ضمن حزمة إجراءات تعهدت بها تونس للدائنين الدوليين مقابل الحصول على قروض لتمويل الموازنة ومشاريع واستثمارات، وتحتاج تونس إلى اقتراض 3 بلايين دولار، من ضمنها أقساط القرض الذي وافق عليه صندوق النقاد الدولي لتمويل موازنتها.
اتحاد الشغل يتحفظ
في الوقت الذي شدد فيه رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد على ضرورة المضي في إصلاحات كبرى للخروج من الأزمة في البلاد، أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة عمالية في البلاد) أمس، معارضته لبعض هذه الإصلاحات الاقتصادية، وفي مقدمتها رفع سن التقاعد بالنسبة إلى موظفي القطاع العام وتطبيقه كإجراء إجباري، على عكس ما روجت له أطراف حكومية في الأيام السابقة.
وسبق أن كشفت وكالة الأنباء التونسية الرسمية الجمعة الماضي عن اتفاق وشيك بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، على تمديد سن التقاعد في القطاع العام عبر جعله إجباريًا وصولًا إلى 62 سنة واختياريًا إلى 65 سنة، وذلك بدءًا من 2020، ويندرج رفع سن التقاعد ضمن خطة متكاملة لإصلاح منظومة الضمان الاجتماعي، في ظل معاناة الصناديق الاجتماعية من عجز متفاقم منذ السنوات التي سبقت ثورة يناير/كانون الثاني 2011 والتي ازداد تراجعها بسبب تدهور الاقتصاد بعد الثورة.
تبدي المركزية النقابية في تونس عدة تحفظات أخرى بشأن حزمة الإصلاحات التي أعلنتها الحكومة، ومن بينها مسألة الاقتطاعات المعلنة في الأجور
في هذا الشأن قال الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي: “لن نكون شهود زور في البلاد، بل أوفياء لدماء الشهداء، ولا اتفاق على ملف التقاعد، وعلى كل الأطراف التضحية من أجل البلاد”، موضحًا أن ما حصل هو مجرد اتفاق على تشخيص الوضع المتدهور للصناديق الاجتماعية، بلا الدخول في تفاصيل الحلول المقترحة من أجل تجاوز أزمة الصناديق، وبينها رفع سن التقاعد، وأعلن الطبوبي أن اتحاد الشغل ينتظر تضحية كل الأطراف لدعم الموازنة والنهوض بالاقتصاد، محذرًا من غضب الاتحاد في حال استمر الوضع على حاله اليوم، وإذا رفضت بقية الأطراف التضحية من أجل الوطن.
إلى جانب ذلك تبدي المركزية النقابية في تونس عدة تحفظات أخرى بخصوص حزمة الإصلاحات التي أعلنتها الحكومة، ومن بينها مسألة الاقتطاعات المعلنة في الأجور والدخل تحت اسم المساهمات الاستثنائية لدعم موارد الدولة المالية، فضلًا عن خلافات أخرى ترتبط بالإصلاحات في الوظيفة العمومية وقطاعات التربية والصحة والصناديق الاجتماعية التي تعاني من عجز مالي كبير، إلى جانب مكافحة التهرب الضريبي، ويطالب النقابيون بشكل خاص بإلزام نسبة كبيرة من شركات القطاع الخاص بأداء واجبها الضريبي وضمان التغطية الاجتماعية لجميع الموظفين والعمال.
تدهور المقدرة الشرائية للمواطن
لإن كان الهدف من هذه الإصلاحات الجديدة التي تقترحها الحكومة التونسية تعزيز الإيرادات المالية للدولة، أمام تفاقم عجز الميزان التجاري والتراجع المستمر للعملة المحلية أمام العملات الأجنبية، فإن العديد من الخبراء الاقتصاديين يتوقعون عكس ذلك، مؤكدين حتمية تأثير حزمة الضرائب الجديدة بشكل غير مسبوق على مناحي حياة المواطنين التونسيين كافة خاصة محدودي الدخل.
ويتوقع المختصون أن تؤثر حزمة الضرائب الجديدة – التي تعتبر الأقسى على الإطلاق في تاريخ البلاد وتأتي في سياق برنامج الإصلاح الذي بدأته الحكومة قبل عام لردم الفجوة الكبيرة في عجز الموازنة – بشكل غير مسبوق على كل مناحي حياة المواطنين الاستهلاكية، وأن تزيد من استنزاف القدرة الشرائية للمواطنين بشكل أكبر.
وسبق أن أكد الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي عن رفض الاتحاد تحميل الطبقة العاملة أعباء تدهور المالية العمومية، مشيرًا إلى أن إصلاح الوضع المالي للبلاد يتطلب توسيع قاعدة الأداء الضريبي ومحاربة التهرب الجبائي.
تراجع المقدرة الشرائية للتونسيين
وبيّن أن إقرار زيادة الضرائب على القيمة المضافة سيؤدي إلى زيادة أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، كما ستؤثر زيادة أسعار المحروقات سلبًا على المقدرة الشرائية للتونسيين، ودعا إلى التركيز على الاستثمار والتنمية لخلق الثروة مع ضرورة مساهمة القطاع الخاص في إحداث الاستثمارات الجديدة بالجهات الداخلية.
ويعاني المواطن التونسي من تدهور قدرته الشرائية التي تراجعت في السنوات الأخيرة بأكثر من 42% وفقًا لإحصائيات رسمية في ظل انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وهو ما يُجبر الأسر التونسية على اللجوء إلى التداين بمختلف أنواعه لسد نفقات الحياة الضرورية.