على الرغم من أن النظام المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي، تسبب، كما تؤكد كل المؤشرات، في تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والثفافية، منذ انقلابه العسكري في يوليو 2013 وحتى الآن، إلّا أن هذا النظام له من يؤيده ويهتف له بين المصريين، الذين اشتهر عنهم، لاسيما في أولى سنوات فترة حكمه، أنهم من كبار السن، بسبب عزوف الشباب عن المشاركة السياسية، كما بسبب الحراك الجامعي الشبابي الواسع المناهض لحكمه.
لكن ومع مرور السنوات، استطاع النظام بناء كتل مؤيدة له من الشباب، في فضاءات عدة، الجامعات والمؤتمرات والأحزاب، وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تنشط عليها مجموعات من الشباب المتابعين للشأن المصري، والذين يخرجون بشكل دوري لتأييد والدفاع عن قرارات وسياسات السُلطة الحالية.
فكيف بنا النظام المصري هذه الكتل الشبابية المؤيدة له؟
في الجامعات
كانت البداية من أروقة الجامعات المصرية، فمذ الانقلاب العسكري ولمدة عامين تاليين، أي منذ سبتمبر 2013 حتى أواخر عام 2015، شهدت الجامعات حراكًا مناهضًا للسُلطوية الجديدة ورافضة للانقلاب العسكري، فضلًا عن قوانينه القمعية والمقيدة للحريات مثل قانون التظاهر، لا سيما في جامعات الأزهر والقاهرة والإسكندرية، وكان تعامل قوات الأمن شديد القمع معها، إذ كانت تنتهي الفعاليّات بسقوط قتلى واعتقال وإصابة وفصل المئات من الطلاب. وبفعل استراتيجية النفس الطويل التي فاز بها الأمن على منظمي تلك الحراكات، مات الحراك الجامعي بحلول عامي 2016 و2017.
لكن هذا لم يعني موات مُعارضة السُلطوية من خلال اتحادات طلاب الجامعات. ولهذا أخذت السُلطوية مساحات تشريعية ضمنتْ بها انتهاء أي مُعارضة في فضاءات الجامعات. منها ما كان في عام 2017، إذ صدَّق المجلس الأعلى للجامعات على لائحة طلابية جديدة، بدورها ألغتْ اتحاد الطلاب المصري العام (القومي)، واكتفت بوجود اتحاد طلاب للكليات والجامعات. فيما بعد، انطلقت مبادرة “طلاب من أجل مصر”، ومنسقها كان عمرو مصطفى وهو عميد كلية الزراعة بجامعة القاهرة، وهي مبادرة تهدف إلى رفع مستوى الوعي تجاه خطة التنمية المُستدامة 2030، التي أعلنت عنها السُلطة.
ومن وقتها، بدأت المبادرة في اكتساح انتخابات اتحادات الطلاب، بعد إلغاء أي نتائج تؤدي إلى فوز مرشحين مُستقلين أو معارضين للسُلطوية. وعلى الرغم من إعلان المبادرة ابتعادها عن السياسة، بل وادّعتْ رؤيتها حيال الأنشطة السياسية أن مكانها خارج أسوار الجامعات، إلّا أن المبادرة دائمًا ما نظمت فعّاليات سياسية تؤيد بها السُلطوية في كافة إجراءاتها التشريعية والممارساتية.
هذا بالإضافة إلى تتبع الأمن بشكل فردي أ جماعي، كل من له آراء مخالفة لرؤية السُلطة في مصر، إذ تم اعتقال الطلبة فرادى من الجامعات أو حتى من أماكن سكنهم، ليتم بعد ذلك إخفائهم قسريًا وسجنهم، كممارسة ترهيبية تُخرس أي صوت داخل الجامعات، فضلًا عن اعتقال وفصل أي أصوات أُخرى، ليست من الطلاب فحسب، بل حتى من أساتذة الجامعات، فقد شهدنا اعتقال أستاذ العلوم السياسة بجامعة القاهرة حسن نافعة عام 2019، واعتقال الدكتور في كلية الإعلام بجامعة القاهرة أيمن منصور ندا في عام 2021، لانتقاده فساد رئيس جامعة القاهرة، وفساد الأجهزة الإعلامية في مصر.
في المؤتمرات
وبعد أن قضت السُلطوية على أي صوت ناقد لها في الجامعات المصرية، سعت لبناء أصوات شبابية سياسية تعمل معها خارج هذه الأروقة، وتكون صوتًا مؤيدًا لها ولسياستها في الشارع المصري ومقرات الأحزاب والمؤتمرات الرسمية، فأسست ما يُعرف بـ تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، والأكاديمية الوطنية للتدريب، تحت إشراف أمني، يعلوه مؤسسة الرئاسة مُتمثلة في شخص الرئيس ومُدير المخابرات العامة عبّاس كامل.
تُعرّف الأكاديمية نفسها بأنها مؤسسة “تجمع قادة المستقبل من مصر والمنطقة، لتعزيز وتطوير رأس المال البشري المؤهل المبدع والمبتكر لقيادة عملية التنمية في المجتمع، لتحقيق التأثير وخلق مستقبل أفضل“. كما تعرف التنسيقية نفسها، “على أنّها “جيل جديد من الشباب المنتمي للعمل السياسي، نؤمن بأننا جزء من نسيج المجتمع المصري يدرك مسؤولياته تجاه وطنه، ويرغب في المضي قدمًا وترتيب الصفوف وعيًا بقضايا الوطن، وحماية أمنه القومي كأولوية في مواجهة التحديات التي يتعرض لها وفي مقدمتها الإرهاب الأسود“.
الأكاديمية والتنسيقية هدفهما “تجميع قادة المستقبل وحماية أمن مصر القومي”، لكن وفقًا لأيديولوجيا السُلطوية، أي “الاستثناء”، والتي من خلالها استباحت كل فئات المجتمع السياسية وغيرها، وقمعتها، من أجل “وهم” الحفاظ على البلاد من “أهل الشر والإرهاب”. هذه الأيديولوجية، وبوصف المفكرة الألمانية حنة أرندت (أسس التوتاليتارية، ص 243)، بأنّها أيديولوجية “مُخلَّطة من التخويف والهول” بخطر الإرهاب وقوى الشر.
لذلك على مرِّ السنوات الأخيرة، خلال المؤتمرات التي تعقدها السُلطة، سواء مؤتمر الشباب المصري، أو العالمي، أو غير ذلك من مؤتمرات تخص افتتاح المشاريع القومية، كما الأعياد الوطنية وغير ذلك، تجد مئات، وربما آلاف الشباب جالسين، مرتصين بجانب بعضهم البعض، يصفقون ويهتفون لأحاديث وإنجازات قائد البلاد وفيلسوفها عبد الفتاح السيسي، لنفي ما قيل عن أولى فترات حكمه، أن مؤيديه من عواجيز الفكر والسن فحسب، بل يوجد آلاف الشباب المصريين يهتفون باسم منقذ البلاد، ومخلّصها، عبر مشاريعه وجمهوريته وأيديولوجيته الجديدة.
هذه الأيديولوجيا المُهدِرة للحق الإنساني، بوصف الباحث اللبناني مصطفى حجازي (الإنسان المهدور، ص 111)، في حرية تحديد رؤيته وآرائه وأفكاره المستقلة. ويُستبدل هذا الحق، بترسيخ الطاعة العمياء للسلطوية الحاكمة، عن طريق تقديس قائد السلطوية أو مؤسسة بعينها في الدولة وترسيخ مفهوم أن طاعتها وجبت كشرطٍ لِحُب القيمة العُليا كان الدين أم القومية مثالًا، من خلال إغراءات الكثيرة السُلطة لهؤلاء الشباب، والتي تتمثل في الترقي الاجتماعي والمادي.
على وسائل التواصل الاجتماعي
بالتوازي مع صناعة السُلطة لمؤيديها من الطلاب والشباب، في الجامعات والمؤتمرات والأحزاب على أرض الواقع، صنعت مؤيديها من الشباب، وربما هم ذات الوشوش على مواقع التواصل الاجتماعي، فتجد الكثير من الشباب، يسارعون في كتابة المنشورات، وبث مقاطع فيديو، للتعليق على الأحداث السياسية، أو للأدق لتأييد قرارات السلطة ومشاريعها، وتبرير قمعها، ومهاجمة وتخوين أي أصوات معارضة لهذه القرارات والسياسات.
لم تكتف السُلطة بوجود وجوهها القديمة، الإعلامية والفنية والرسمية، سواء في الجامعات أو المؤتمرات أو على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن هذه الوجوه، هي بالنسبة للمجتمع المصري غير ذات ثقة، بل ومعروفة بتوجهها وتبعيتها للسُلطة، حتى من أيام نظام المخلوع حسني مبارك، بل صنعت وجوها شبابية أُخرى، تحاول أن تخاطب عقول شبابية مثلها، وتوضح لهم مدى صلابة سردية النظام الحاكم، وعقلانية سياساتها، وتبرير إخفاقاتها في فضاءات السياسة والاقتصاد والثقافة، والسياسات الخارجية، مثل قضية فلسطين وحرب الإبادة الجارية في غزة، ومهاجمة كل منتقدي السياسات المصرية حيال هذه الحرب، من كل التيارات اتهامهم بالتخوين والعمالة وانعدام الوطنية.
بهذا؛ تكون سُلطوية ما بعد الثالث من يوليو صنعت جيلًا شبابيًّا يرعى أفكارها ويدافع عن ممارساتها، في فضاءات عدة، لتتعالى الأصوات الشبابية منذ عام 2018، في تأييد السُلطة، بعد أن كان الشباب في عزوف تام عن المشاركة السياسية منذ انقلاب الجنرال السيسي، ولا سيما في الانتخابات الرئاسية عام 2014 والبرلمانية عام 2015، ما أوحى للسُلطوية، متمثلة في شخصها الأعلى، أن الجسد المؤيد له، ينقُصه الأعضاء الشبابية، فأسس ما يولّد هذه الأعضاء، ومدّها إلى فضاءات مختلفة، شملت وجودها وسائل التواصل الاجتماعي، ما أدى إلى تأسيس حالة أُخرى من الاستقطاب المستمر، بين مؤيدين ومعارضين، تساعد على تفكيك المجتمع المصري، وتخوين بعضه لبعض، وهذا في المقام الأول، يستفيد منه النظام، في شرعنة وجوده وبقاء واستمرار حكمه.