أثار العمل الاستقصائي الذي بثته شبكة “سي إن إن” الأمريكية عما قالت إنه بيع للعبيد في ليبيا، صدمة كبيرة في صفوف الليبيين قبل غيرهم.
مقاطع التحقيق تلك، أعادت إلى السطح من جديد موضوع الهجرة السرية لشباب لاهث وراء جنة موعودة في رحلة من دول خلف الصحراء الكبرى إلى شواطئ المتوسط الدافئة، حيث ترتمي أحلامهم على ضفاف الضفة المقابلة، لكن غالبًا ما ترتطم بصخور الضفة الجنوبية.
مشكلة قديمة بقناع جديد
إذًا، هي مشكلة قديمة متجددة، وسبق أن كانت موضع أخذ ورد بين الاتحاد الإفريقي ودول شمال المتوسط لا سيما إيطاليا، وكلنا ما زلنا نذكر مواقف العقيد معمر القذافي الذي لا يفوت فرصة في القمم الإفريقية إلا ويثير نقطة هجرة الأفارقة، رغم أنه كان دومًا يتخذ هذه القضية لابتزاز إيطاليا والأوروبيين.
لا ينكر اثنان أن ممارسات بعض المشغلين لا تخلو من الاستغلال، لكن أن يصل إلى حد الضرب والتعنيف فهذا أمر نادر الحدوث
ونظرًا لموقعها الاستراتيجي ثم لكبر مساحتها وإمكانية اختراقها من طرف المهاجرين، فقد شهدت ليبيا بعد الثورة تدفق موجات هائلة من المهاجرين، استطاع من استطاع منهم التسلل عبر البحار إلى الضفة الأخرى، بينما جُمِّع الذين لم يفلتوا من الهروب في مراكز إيقاف بالساحل على غرار مجمعات بمصراتة وزوارة وطرابلس.
بعض الأفارقة يتم تجنيدهم في مناحٍ عدة من مليشيات وعصابات متعددة الجنسيات، فهناك من يتم استغلالهم للعمل في المزارع لأشغال فلاحية، وثمة من يتم تكليفهم بحراسة بعض المنشآت أو المنازل والضيعات الخاصة، برواتب ولو أقل من الواجب.
طبعًا لا ينكر اثنان أن ممارسات بعض المشغلين لا تخلو من الاستغلال كما أشرنا، لكن أن يصل إلى حد الضرب والتعنيف فهذا أمر نادر الحدوث، إلا أنه ظهر مؤخرًا في عمل استقصائي آخر في إحدى القنوات الليبية الخاصة.
كذلك ومن بين المهاجرين من يتم تسفيرهم إلى بؤر التوتر كسوريا والعراق ومن ثم تجنيدهم للقتال في منظمات إرهابية، إلا أن المحظوظين من المهاجرين من يظفر بحلمه الذي خرج وخاطر من أجله، فقد ينجح في العبور إلى الضفة الأخرى، بالشراكة مع عصابات مهربي البشر الذين يمتهنون تجارة تهريب هؤلاء عبر مراكب الموت أو ما يُصطلح عليه “بالحرقة”، وهو المصطلح الذي نشأ في بلدان شمال افريقيا، أين يُقْدم الحرّاقة على حرق جميع وثائقهم على ضفاف الشاطئ الذي سيبحرون منه خلسة في رحلة لتحقيق أحلامهم في إسبانيا (المغاربة) أو فرنسا (الجزائريون والتونسيون) أو إيطاليا ( أفارقة)، ليستقبلهم في الضفة الأخرى مهربون آخرون.
التوطين هو الغاية
بيد أن الجديد هذه المرة أن يُباع أو نشاهد على الأقل صور بيع الأفارقة على الشاشات! وهي سابقة لم تحدث، رغم أنها ليست المرة الأولى التي يتفطن إليها الإعلام، لكنها الأولى التي تحظى باهتمام بالغ وصدمة كبيرة وردود فعل غير مسبوقة، بعد أن روّج الإعلام الغربي بقوة، فغضب الاتحاد الإفريقي والأممي والدول مصدر المهاجرين كالنيجر، وتظاهر المعنيون في العاصمة الفرنسية باريس وجوبهوا بالغاز المسيل للدموع.
لا استبعد وجود محاولات تهدف إلى تشويه الشعب الليبي وضرب ثورته وثروته في مقتل، حتى يشعر المواطن بالحنين إلى العبودية، أليس هذا ما يريده الغرب؟
لكن ما يجب التنويه إليه من بين ردود الفعل حقيقة هو موقف وزارة الخارجية الليبية بطرابلس التابعة لحكومة الوفاق التي عرفت من أين تؤكل الكتف، فتلقفت التقرير التليفزيوني، وحذرت من “المعالجات السطحية والعقيمة لموضوع المهاجرين قائلة إنها تعي أن دول إقليمية تسعى لأن تكون ليبيا قبلة للتوطين”.
لا بد من الإشادة بهذا الموقف الواعي والرافض لاستهداف ليبيا بعد شبه يأس غربي من محاولات توطين سابقة، ربما لم يكن جنوب تونس ومدينة بن قردان (على الحدود الغربية لليبيا) تحديدًا إحدى المناطق المستهدفة بالتوطين وهو ما روّج له كذلك الإعلام الألماني في السنتين الماضيتين حيث أدى رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد زيارتين اثنتين لألمانيا، وجرى حينها الحديث بقوة عن المساعدة الألمانية في مجال إعادة ألف مهاجر غير شرعي إلى تونس ومساعدات مالية من ألمانيا الشريك الأوروبي الثاني لتونس التي رفضت حينها إقامة مخيمات لتوطين اللاجئين بالجنوب، حيث تعد المنطقة المحاذية لليبيا من مناطق عبور الهجرة غير النظامية من أفارقة وحتى تونسيين.
تكفي هنا الإشارة إلى مقتل أربعمئة تونسي في سرت الليبية معقل تنظيم الدولة عندما تم تحريره.
حملة تشويه وتغييب للحلول
إذًا، جدير بنا أن نسأل عما تخفيه حقيقة تلك الصور المخزية والتي أشك في براءتها، عن بيع العبيد التي أعادتنا الى زمن العبودية والرق، ثم نسأل عن توقيتها بعد فشل الحوار الليبي بتونس على أمل عودته قريبُا، ولماذا أعطاها الإعلام الغربي أكثر من حجمها، فلربما تكون حالات معزولة وفردية خاصة أن الليبيين لا يمكن أن يتغافلوا عن هكذا قرف في ظل كثرة وسائل التواصل الاجتماعي، لماذا أخذ الموضوع أكثر من حجمه؟
وبناء عليه، لا يمكن استبعاد أن تكون هناك فرضية تستهدف القطر الليبي الشقيق بوصمه بالعبودية خاصة مع شهادات جديدة تنقلها وكالة الأنباء الفرنسية (إ ف ب) عن مهاجرين كاميرونيين عائدين من ليبيا يتحدثون عن “جحيم مطلق”، وكأن هناك حملة إعلامية شعواء لتشويه سمعة ليبيا.
هل ثمة نوايا تمهد لأطماع استعمارية قديمة جديدة، لا يمكن التكهن بها في ظل تشرذم البلاد، وإلا كيف نصدق أن الليبيين يمارسون الرق وهم الذين تفد عليهم العمالة من أغلب الجنسيات؟! كيف نصدق أن من ضمن الليبيين أعداد لا يستهان بها من البشرة السمراء وهم ليبيون أحرار متساوون مع بقية ألوان مواطنيهم، وحدها كانت الاستقصائية الأمريكية عنصرية يومها فلربما ذكرتني في أصلها الإفريقي الذي ضاق ذرعًا بالعم سام، أعوامًا خلت، حيث مارسوا تجارة العبيد لقرون في أوروبا وأمريكا، وكانوا يسومون العبيد الأفارقة أنواع العذاب، فيأخذونهم من عرب إفريقيا في قوارب التهريب إلى أمريكا للعمل في حقولهم، حيث قامت الحضارة الغربية على سواعدهم السمراء.
من بين ردود الفعل حقيقة هو موقف وزارة الخارجية الليبية بطرابلس التابعة لحكومة الوفاق التي عرفت من أين تؤكل الكتف، فتلقفت التقرير التليفزيوني، وحذرت من “المعالجات السطحية والعقيمة لموضوع المهاجرين قائلة إنها تعي أن دول إقليمية تسعى إلى أن تكون ليبيا قبلة للتوطين
بعيدًا عن القارة السمراء، لا استبعد وجود محاولات تهدف إلى تشويه الشعب الليبي، وضرب ثورته وثروته في مقتل، حتى يشعر المواطن بالحنين إلى العبودية، أليس هذا ما يريده الغرب؟ هل يريد لنا تحررًا؟ هل عجزت أوروبا بطم طميمها عن وقف زحف المهاجرين؟ هل عجزت عن إيجاد بدائل في الدول “المصدّرة” للهجرة؟
رغم الدعم الإيطالي المتعدد الأوجه لخفر السواحل الليبية بهدف وقف المهرِبين، فإن أي معالجة لمشكل الهجرة السرية في المنطقة عمومًا، لا يجب أن تخرج عن رؤية واضحة المعالم وبالشراكة مع الدول المعنية والمنظمات الدولية، لذلك فإن القصة أعمق من مجرد تحقيق تليفزيوني.