اعتبروها النظرة الأخيرة

maxresdefault_3

هناك مقولة تقول: “عندما تموت سيحبك الجميع فجأة“.

لطالما شغل عقلي ذلك الموضوع، ولطالما وددت الكتابة عنه، دائمًا ما يحير خاطري بعدما يأخذه في رحلةٍ طويلة وبعد أن تنتهي لا أعلم إجابة عنه، لكن لم أكن أعلم من أين أبدأ.

منذ يومين شاهدت مقطعًا مسجلًا لبرنامج يستضيف الأزواج والزواجات ليكتبن رسالة لأزواجهن وكأن أزواجهن على فراش الموت ويسجل ردود فعل الطرفين، رأيت الأزواج وكذلك الزوجات قد تغيرن تمامًا، ينهمرن في البكاء ويتمنين ألا يحييهن الله لتلك اللحظة التي يرين فيها أزواجهن على فراش الموتحسنًا، لو كان الموت أهون من الفقد، ها نحن أحياءٌ كلانا، لماذا إذًا لا نحسن استغلال نعمة الوجود؟!

أتذكر حينما توفت جدتي، أثرت فينا جميعًا بما لا يتسع المجال لذكره، رغم أننا كنا مهيئين لفكرة وفاتها بسبب مرضها الذي اشتد، إلا أن لحظة فقدانها كانت غير عادية، كنا جلوسًا بجانبها ولم نكن ندرك أن ملك الموت بيننا، جاءتها سكرات الموت فتسابقت أفئدتنا بها قبل أرجلنا نحو العناية المركزة، جلسنا والصمت يخيم على المكان والدعوات تتسابق من قلوبنا هارعةً تقرع أبواب السماء حتى جاءت الممرضة هامسة لعمي البقاء لله، فخر جاثيًا على ركبتيه واضعًا يده على رأسه من هول ما تحقق لأذنه ويأبي قلبه أن يصدقه، رفع نظره إليّ:  ستك ماتت يا بني“.

وقعت عليّ كصاعقة أهوت بجسدي كمثل الذي تفعله ريح في يومٍ عاصف بشجرة أصابها العطش منذ وقت طويل، الأمر كمثله فجسدي كان قد أصابه العطش لحضن جدتي منذ وقت طويل، فلم يتسن لي أن أحتضنها بأريحية كما كان الأمر قبل مرضها، كنت أشعر أن حضنها على مقاسي تمامًا، وكأنه قد فصل على جسدي.

لم تحملني قدماي فصرت أحمد الله وأثني عليه وأحاول أن أصبر ذاك الذي كان يلقنني دروسًا في الصبر، وفي الحقيقة إنني في أشد الحاجة لمن يصبرني، كنت أعلم مقدار حب عمي لها كان لا حد له، يماثلني تمامًا!

لماذا الفاصل دائمًا بين الجفاء والحب الهائل هو الموت

اكتشفت حينها أنك ومهما كنت مهيئًا لفقد عزيز لديك أو غالٍ إلى قلبك إلا أنه حينما تكتشف أن الأمر قد قضي وأنك بالفعل فقدته، شعور يصيبك لأول مرة لم تكن لتشعره مهما كنت مهيئًا، تقف لا تشعر بشيء، لا ترى شيئًا، لا تسمع شيئًا، لا أعلم كيف يكون شعورنا حينما نموت، ولكنني أظن أن الأمر متشابه تمامًا، أنت لست هنا

الكون مظلم والألوان باهتة إلى أسوأ درجة، الأرض من مشرقها إلى مغربها بأميالها الشاسعة تضيق بك ولا تقوى على حملك فأنت مثقل وتزداد، الناس تتحدث وأنت غير آبه بما يدور!

تتمنى لو أن تصدم رأسك بأكثر الأسوار سوءًا في هذا العالم لكي تستريح قليلًا ولكن لا جدوى من ذلك، ستفعل وستفعل مرارًا وتكرارًا ولن يعيد هذا ذلك الذي فقد، لماذا لا ندرك قيمة الأشياء الثمينة وربما أثمنها إلا بعد فقدها؟ لماذا نبكي كثيرًا بعد فقدان من نحب رغم أنه كان بين أيدينا ولم نحسن معاملته؟ لماذا نشتاق كثيرًا ونكتب إليه وحده وكأنه الوحيد الذي خلق رغم أنه كان بيننا ولا نلقي لوجوده بالًا؟ نبكي ونبكي ونبكي. 

لماذا لم نعره اهتمامنا وهو حي؟ لماذا لم نعترف له ببساطة بأن حبه يملأ قلوبنا إلى آخرها؟ لماذا الفاصل دائمًا بين الجفاء والحب الهائل هو الموت؟ أنحتاج للموت لهذه الدرجة لكي نصبح آدميين؟ أتساءل لماذا الموت يميت حيًا ويحيي ميتًايميت حيًا وهو المفقود ويحيي ميتًا وهو قلب الفاقد تجاه المفقود، وأكاد أجن حينما أرى ذلك الفاقد المسكين غارق بالحب والاشتياق لذلك الحبيب الذي فقده وينسى الأحبة الذين هم بين يديه

أريد أن أطلق ثورة نور لإحياء القلوب تجاه أولئك المظلومين بجفائنا ومشاعرنا التي نهدرها في غير موضعها، أسرتنا الصغيرة والأحبة حولنا وأصدقاءنا الذين نمر بهم كل يوم ولا نعير نعمة وجودهم اهتمامًا

يبدو أنك لم تتعلم الدرس، أتعيد ارتكاب نفس الخطأيا مسكين، اعترف لهؤلاء بحبك، قل لهذا أنا أحبك، ولذاك أنت غالٍ على قلبي، أحضن أبيك وأمك وقبل أرجلهم وأيديهم كلما مررت بهم، أحضن أخاك هذا وأختك هذه، ربما لن تجد ذلك الحضن نابضًا بعد لحظات، ولن يتسنى لك احتضانه إلا حضن وداع وربما لن تسنح لك الفرصة أن تحتضنه من الأساس، ربما ستبكيهم غدًا وتشتاق للحظة واحدة من تلك اللحظات التي تمر عليك الآن وأنت لا تلقي لها بالًا!

لا أنكر عليكم بكاء ذلك الغالي الذي قد رحل، ولكن أنكر عليكم هجر ذلك العزيز الذي بين يديكم، لماذا نفرط في الحزن على منْ رحل ونعلن الجفاء على الذين بين أيدينا؟ لماذا يبدأ الحب بالموت وكأن حبك الهائل لذلك الإنسان مرهون بدخوله القبر؟

ما كان لي أن أدعوكم لتنسوا ذلك الذي قد رحل، كيف وأنني أرى أننا نستمد منه بعض القوة والصبر في بعض الأوقات حينما يصيبنا الضعف والوهن، بل أدعوكم لتحسنوا ذكراهم لتقوم روحكم وتضيئها لا لتظْلمها وتظلمها، انثروا بذور حبهم في قلوبكم واسقوها بالدعاء وارعوها بالصدقة حتى تزهر فيجد طيبها كل من مر بكم، ادعوا لهم دائمًا في سركم وجهركم، تذكروهم وافتقدوهم في لحظاتكم السعيدة التي تمرون بها، تصدقوا من أجلهم كلما مروا بخاطركم، وافعلوا الخير بنية إرساله لهم لينير قبورهم وآخرتهم

أريد أن أطلق ثورة نور لإحياء القلوب تجاه أولئك المظلومين بجفائنا ومشاعرنا التي نهدرها في غير موضعها، أسرتنا الصغيرة والأحبة حولنا وأصدقائنا الذين نمر بهم كل يوم ولا نعير نعمة وجودهم اهتمامًا، أن نعترف لكل واحد منهم يوميًا أنه أحد الأشخاص الذين لا نتقبل فكرة فقدانهم من عالمنا، عالمنا الذي لا يكتمل من دونهم ولو تغير كل يوم مئة مرة، هم أجزاء حياتنا التي لا نستطيع العيش من دونها حياة طبيعية كما أجزاء الجسد تمامًا التي لا يستطيع الجسد العيش دونها حياة طبيعية.

ماذا لو عاملنا كل إنسان في حياتنا سواء يهتم بنا أو لا يهتم، يقضي عمره من أجل رؤيتنا نبتسم أو لا يعير ذلك اهتمامًا، كأنها آخر مرة نراه فيها؟ 
أريدك الآن أن تترك الهاتف وتطلق العنان لروحك وقلبك وعقلك للتفكير في الأمر لدقائق، تذكر كل إنسان في حياتك، يتعب من أجلك، قدم لك مساعدة، أمٌ قضت عمرها من أجلك، أخ بينك وبينه شحناء، أخت توبخها كلما رأيتها، ماذا لو كانت آخر مرة تراها فيها تلك التي قد مضت؟ 

أراك توشك على الاندفاع نحو غرفتهم لا تنتظر أن تطرق الباب، تدخل ملقيًا نفسك في أحضانهم معلنًا رسالة اعتذار تحمل في طياتها أنك لم تحسن استغلال فرصة وجودهم في حياتك!

أيها الأب: هذا ابنك تخيل أنك أمام آخر مرة تراه فيها، ماذا ستفعل؟ أيها الزوج: هذه زوجتكأيتها الفتاة: هذه أمك وهذا أبوكِ وأخوكِأيها الشاب: هذه أمك وأختك وهذا أبيكأيتها الزوجة: هذا زوجك وهذا طفلك الذي يزعجك بكاءه طوال الليل.

ماذا ستفعلون؟ اعتبروها النظرة الأخيرة.