لا يصعب على ساكن إسطنبول أو زائرها أن يستشف كيف تعطي المدينة العريقة مكانة مميزة وواضحة للمقابر والأضرحة، إذ لا يحتاج المرء قطع مسافات معينة للوصول إلى تلك المقابر، وإنما يجدها أمام عينيه أينما ولّى وجهه في قلب المدينة وجوامعها وأحيائها السكنية، وليس غريبًا أن تجد قبرًا أو ضريحًا لأحد الصحابة أو الأولياء وسط منطقة مكتظة، يتسوّره سياج وبعض الأشجار والنباتات الخضراء، حتى يُحفظ للقبر هيبته دون أن يشكل عائقًا أمام المارة والسكان.
لعل الوجود التاريخي للمقابر في إسطنبول جعل من سكانها لا يخشون السكن أو النزول في بيوت تقع جنبًا إلى جنب مقبرة ما أو تلتصق بها، الأمر الذي ترى عكسه في معظم مناطق العالم، خاصة أننا تعودنا في أوطاننا العربية أن تكون المقابر على أطراف المدن والقرى، صحراوية شبه قاحلة يخشى الفرد المرور بها أو العبور منها ويتجنب العيش قربها.
كما يقتدي أهل إسطنبول بعادة قديمة تُعتبر من أطرف عاداتهم، يقومون خلالها بإلباس أطفالهم قبل يوم من ختانهم ثيابًا تشبه ثياب السلاطين ويمسكونهم صولجانًا، ويصطحبونهم لزيارة قبور الصحابة وقراءة الفاتحة على أرواحهم، طلبًا للبركة والتوفيق.
ولذلك لا ريب من أن مقابر إسطنبول شكلت جنبًا إلى جنب مع متاحفها وجوامعها وآثارها التاريخية وحدائقها، وجهة يحرص السائحون والمهتمون بتاريخ المدينة على زيارتها والتجول في أرجائها والتقاط الصور لها.
يوجد على رأس كل شاهد تاجٌ يختلف شكله حسب جنس المتوفى رجلًا كان أم أنثى، فإذا عثرت على تاج مزركش على أحد الشواهد فاعلم أن القبر لامرأة، أما إذا اعتلاه طربوش فهو لرجل من موظفي الدولة أو العسكر والجيش، وإذا اعتلته عمامة فهذا يعني أن القبر لعالم دين أو شيخ جليل.
حجر الشاهد: القبور ممزوجة بالفن والزخارف
يرجع ذلك الاهتمام الواضح والصريح بالمقابر إلى عهد الدولة العثمانية، فقد ظهر آنذاك ما يُعرف بفن “حجر الشاهد”، وتم وفقًا لذلك استخدام حجر المرمر لصناعة شواهد القبور، وكتابة اسم المتوفى وتاريخ وفاته وسنة ميلاده وآية قرآنية غالبًا ما تكون “هو الباقي” أو “كل نفس ذائقة الموت” باللغة العثمانية القديمة.
وقد حظي كل من الخط الفارسي والديواني بالاهتمام الأكبر في شواهد القبور، بالإضافة إلى وجود الزخارف النباتية التي غالبًا ما تكون عبارة عن زهرة التوليب “اللال” التي اهتم العثمانيون بها وجعلوا منها شعارًا منتشرًا في أرجاء الدولة وقصور السلاطين والمعالم التاريخية والمقابر.
كما يوجد على رأس كل شاهد تاجٌ يختلف شكله حسب جنس المتوفى رجلًا كان أم أنثى، فإذا عثرت على تاج مزركش على أحد الشواهد فاعلم أن القبر لامرأة، أما إذا اعتلاه طربوش فهو لرجل من موظفي الدولة أو العسكر والجيش، وإذا اعتلته عمامة فهذا يعني أن القبر لعالم دين أو شيخ جليل.
قد يتبادر فورًا إلى ذهن القارئ عند الحديث عن مقابر إسطنبول المقبرة الواقعة في منطقة أيوب، وتضم قبر الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي قدم من المدينة المنورة إلي الأراضي التركية محاولا فتح القسطنطينية رغم أنه كان طاعنًا في السن، فتوفي على أسوارها ودفن هناك، ثم بُني بجوار قبره جامع كبير يطل على منطقة القرن الذهبي في مضيق البوسفور ويؤمه يوميًا مئات الزائرين، وقد اعتاد سلاطين الدولة العثمانية أن يبدؤوا يومهم الأول في الحكم بزيارة هذا المسجد والصلاة فيه ثم الانطلاق بحرًا إلى قصر الحكم .
كما تضم المقبرة العديد من قبور السلاطين والوزراء وأعضاء المحاكم والسلطات الدينية والقادة العثمانيين، بالإضافة إلى عدد من كبراء شعراء وفناني الدولة، إذ كانت هذه المقبرة تحتل مكانة عريقة في ذلك الوقت أيضًا نظرًا للرغبة في الدفن إلى جوار الصحابي أبي أيوب.
أما المقبرة الثانية فتقع في الجزء الآسيوي من المدينة في منطقة أسكدار، وتحمل اسم “كَراجة أحمد” وتُعتبر من أكبر وأقدم المقابر في المدينة إذ تم إنشاؤها في منتصف القرن الـ14 وتبلغ مساحتها 750 فدانًا ولها 7 أبواب تقع على جهات مختلفة، وتتألف من 12 قسمًا مختلفًا يتبع كل منها لجماعات دينية مختلفة.
تحمل المقبرة اسم أحد القديسين والأولياء وقبره، بالإضافة إلى كونه طبيبًا خدم في جيش السلطان العثماني الثاني “أورهان الأول”، وقد منذ لحظة إنشائها إلى يومنا هذا ما يقارب المليون ضريح، وإلى جانب قدمها وطابعها التاريخي تحوي المقبرة داخل أسوارها جامع “الشاكرين”، أحد الجوامع التركية الحديثة وأول جامع صممته امرأة، والمعروف بطرازه المختلف والمميز عن بقية جوامع المدينة.
أما “مقبرة الشهداء” التي تقع في منطقة إدرنه كابي بالقرب من سور القسطنطينية القديم، فيعود تاريخها إلى القرن الـ17 بعد أن تم إنشاؤها خصيصًا لدفن شهداء الجيش العثماني وعساكره الذين توفوا في الحرب الروسية وحرب البقان والحرب العالمية الأولى، ولهذا السبب فإن أول ما ستقع عليه عيناك عند دخول المقبرة هو الآية القرآنية المكتوبة هناك بالأحرف اللاتينية “Allah yolunda öldürülenlere ‘ölüler’ demeyin. Aslında onlar diridirler, fakat siz anlayamazsınız”، “ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون”، ومن ذلك الوقت أصبحت المقبرة تضم رفات شهداء الجيش التركي بشكل عام، وضمت العديد من أجساد من سقطوا في محاولة الانقلاب الفاشلة العام الماضي، بالإضافة إلى أنها تضم قبر الشاعر التركيّ الشهير “محمد عاكف أرسوي”.