ترجمة وتحرير نون بوست
تتميز بداية ونهاية شهر رمضان من كل سنة بجدل خاص للغاية حول أفضل طريقة لتحديد بداية الشهر القمري الجديد، إذ ينقسم المسلمون في جميع أنحاء العالم إلى معسكرين عريضين، أحدهما يُصر على ضرورة اعتماد تقليد رؤية الهلال لتحديد مواعيد شهر رمضان والعيد، في حين يدنو الآخر إلى استخدام الحسابات الفلكية.
وغالبًا ما يتم تأطير هذا الجدل باعتباره نزاعًا بين أقلية من المسلمين العقلانيين المعاصرين الذين يؤيدون استخدام المعرفة العلمية، والأغلبية التقليديين – إن لم يكن الأصوليين – الذين يعارضون ذلك.
لكن هذا الإطار الذي يقوم على مبدأ العلم مقابل الدين غير دقيق لأنه يخفق في فهم التعقيد التشريعي لهذه المسألة ويحجب السياسة التي أحب أن أسميها “حروب الهلال”.
بدلاً من ذلك، أدت ثنائية العلم والدين إلى تغذية تيارات فكرية رجعية وأصولية، وسمحت للهيئات الدينية المتحالفة مع الحكومات الاستبدادية في المنطقة بارتداء عباءة المدافعين عن الدين، ومنعت المهاجرين المسلمين في الشتات من التعامل بشكل كامل مع بعض الأسئلة المتعلقة بالهويّة.
رمضان هو الشهر التاسع من التقويم القمري الإسلامي، وخلال هذا الشهر، يلتزم المسلمون بالصيام من الفجر حتى غروب الشمس يشمل الامتناع عن الأكل والشرب وممارسة الجنس.
والصوم هو الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، وفي حين أن صيام شهر رمضان بأكمله إلزامي، فإن صيام اليوم الذي يسبقه مباشرة واليوم الذي يليه مباشرة ممنوع منعًا باتًا، لذلك، يعد تحديد تاريخ بداية ونهاية شهر رمضان بشكل دقيق أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة للمسلمين الذين يحيون الشهر.
كيف يتم تحديد تاريخ بداية الشهر القمري؟ هذا سؤال شرعيّ وليس علمي تقدم له التقاليد المختلفة إجابات مختلفة. بالنسبة للبعض، بما في ذلك بعض التقاويم الهندوسية، يبدأ الشهر الجديد في اليوم التالي لاكتمال القمر. وفي التقويمين الصيني والعبري، فإن اليوم الأول من الشهر هو اليوم الذي يولد فيه القمر الفلكي الجديد في منطقة زمنية معينة.
كان لدى شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام مناهج مختلفة لتحديد الشهر القمري (وتحديد ترتيب الأشهر حيث كانت إعادة ترتيب الأشهر أمرًا شائعًا إلى حد ما). جلب ظهور الإسلام بعض النظام لهذه الفوضى الزمنية، وبالإضافة إلى النص القرآني الصريح على عدم خلط الأشهر، فقد ورد عن النبي محمد ﷺ أنه قال: “صُوموا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ فَإِنْ غُمًّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدّة ثَلَاثين”.
اتباعًا لهذه التعليمات، يخرج المسلمون في مساء اليوم التاسع والعشرين من الشهر القمري لتحري الهلال بالعين المجردة، الذي يستهل شهرًا جديدًا. وعلى الرغم من هذه القاعدة الواضحة، سرعان ما ظهرت الخلافات بين المسلمين الأوائل حول حسابات التقويم القمري واستمرت طوال التاريخ الإسلامي.
ركّزت هذه الخلافات على الجوانب السياسية والتشريعية لرؤية الهلال وليس على المواقف المختلفة تجاه العِلم. ولقد برز سؤالان: الأول كان مصداقية المتحرّين، فإذا أفاد بعض أفراد طائفة معينة برؤية الهلال، فهل تكون رؤيتهم ملزمة للآخرين، الذين إما ذهبوا لتحرّيه ولم يروا الهلال أو لم يفعلوا أصلاً ذلك؟ شدّد العلماء على الطبيعة الجماعية للصيام، وأصروا على أن المجتمع يجب أن يبدأ ويُنهي صيامه في نفس اليوم.
لمعالجة هذا القلق بشأن المصداقية، أكدوا أن الرؤية مهمة حتى لو أبلغ عنها فرد واحد من المجتمع، طالما أنه مسلم مستقيم، وبالتالي جدير بالثقة. وبينما ظلت مسألة الثقة ذاتية، وبالتالي فتحت الأبواب أمام أفراد المجتمع نفسه لقبول أو رفض إبلاغ معين عن الرؤية، فإن وجود السلطات الإسلامية حسَم هذه المسألة إلى حد كبير. وبمجرد أن قبل القاضي تقرير الرؤية الإيجابي، أُعلن عن حلول الشهر الجديد.
أما القضية الثانية على المحك فهي حجم المجتمع الذي يجب الحفاظ على وحدته. في البداية، كان مطلوبًا من جميع المسلمين اتباع حساب تقويمي واحد. وفي أحد الأعوام، ورد أن أصحاب النبي محمد ﷺ في المدينة المنورة ذهبوا لرؤية الهلال مساء يوم 29 من رمضان لكنهم لم يروا الهلال لذلك قرروا إكمال صيام اليوم الثلاثين. وفي صباح اليوم التالي، أبلغ المسافرون الذين توقّفوا بالمدينة المنورة سكانها أنهم رأوا الهلال في الليلة السابقة. فأمر النبي أصحابه بالإفطار.
توسّع المناطق التي يقيم فيها المسلمون واستحالة نقل التقارير عن المشاهدات بين هذه الأماكن المختلفة خلال نفس اليوم وظهور أنظمة سياسية متعددة، كل ذلك يعني أنه لم يعد بإمكان المسلمين أن يكونوا متحدين في صيامهم. وقد أصبح هذا واضحًا بعد وقت قصير من وفاة النبي.
وبعد سنوات قليلة، كان أحد أصحابه في بلاد الشام حيث بدأ السكان صيامهم يوم السبت، وعند عودته إلى المدينة المنورة علم أنهم لم يروا الهلال في تلك الليلة لذلك بدأوا صيامهم يوم الأحد، فأمرهم ابن عباس، أحد كبار علماء أصحاب النبي في المدينة، بترك رواية هذا الصحابي ورؤية الهلال بعد 29 ليلة. وقد أصبح من عادة المسلمين اتباع الحسابات التقويمية المختلفة وليس بسبب أي خلاف “علمي” حول الرؤية والحساب.
لم يتأثر علماء المسلمين اللاحقون بتطور الحسابات الفلكية، من بينها رسالة تقي الدين السبكي (1284-1355) في الأشهر “العلم المنشور في إثبات السحور” حيث يستكشف الفقيه البارز مسألة ما إذا كان الحساب يمكن أن يحل محل الرؤية.
ويسوق ثلاث حجج لصالح الرؤية: أولًا، الحسابات تشير فقط إلى إمكانية الرؤية، لكن الشرع جعل بداية الشهر الجديد مشروطة بالرؤية الفعلية. وقال السبكي إن طريقة تحديد موعد بداية الشهر الجديد التي اشترطها النبي لا تعني أن علماء الفلك مخطئون عندما يتأكدون من إمكانية رؤية الهلال الجديد، وإنما يعني ذلك أن الشرع فصل هذه الحقيقة الفلكية عن المسألة الشرعية الخاصة بدخول شهر جديد.
ثانيًا، الاعتماد على الحسابات الفلكية يترك الأمر في أيدي القلة، في حين أن “الحكمة الإلهية والشريعة حددت أول الأشهر بعلامة يمكن لجميع الناس الوصول إليها: رؤية [الهلال] أو إكمال الثلاثين يومًا”.
وأخيرًا، لم تكن هذه الحسابات، في معظم الحالات، نهائية حيث “لم يتقن هذا العلم سوى عدد قليل من الناس، وتكون الحسابات في بعض الأحيان معقدة للغاية، وبالتالي خاطئة، وقد تكون مقدمات بعض الحسابات تخمينية”. واتفق السبكي مع غيره من الفقهاء على أنه يجب على الناس أن يعصوا الحاكم إذا اتبع الحساب للدلالة على أول الشهر دون رؤية الهلال.
لكن لا ينبغي تفسير هذا الموقف على أنه عداء للعلم ذلك أن النقطة الأساسية التي طرحها السبكي هي أن السؤال المطروح ليس علميًا، بل هو سؤال تشريع إيجابيّ. إن تقسيم الزمن إلى وحدات مختلفة هو مسألة تشريعية، حتى لو كان يعتمد على تكرار بعض الظواهر الطبيعية. كما أنه لم يرفض الحسابات العلمية تمامًا، زاعمًا على سبيل المثال أن ادعاءات رؤية الهلال يجب رفضها، حتى عندما يطلقها مسلمون مستقيمون إذا كانت الحسابات العلمية تعتبرها مستحيلة.
مثل معاصريه، بدا السبكي أكثر انزعاجًا من سياسات الحسابات التقويمية. ودعا إلى الاعتماد الجزئي على الحسابات الفلكية للحد من الخلافات خارج نطاق المجتمع الواحد، وأصر على الرؤية لإبقاء الأمر في أيدي الكثيرين داخل المجتمع. وأصر كذلك على أنه في إقليم واحد (أو بلد)، إذا رأى البعض الهلال يجب على الجميع أن يصوموا.
وفيما يتعلق بمسألة الحجم، قال إن الرؤية يجب أن تتجاوز سيطرة الحكام الأفراد، ولا ينبغي استخدامها كوسيلة لتحديد حدود السلطة السياسية. وطالما أن المحافظات تتقاسم الأفق، فيجب عليها أن تبدأ وتنتهي صيامها معًا، بغض النظر عن قوتها السياسية. لكن التأخير في الإبلاغ يعني أن كل مقاطعة كان عليها أن تقوم بالرؤية الخاصة بها، وأنه حتى بالنسبة للمقاطعات التي تتقاسم الأفق فإن الصيام لا يبدأ أو ينتهي بالضرورة في نفس اليوم.
جلب القرن التاسع عشر مجموعة من التطورات السياسية والعلمية والتكنولوجية التي غيرت مصطلحات الخطاب. ومن بين أمور أخرى، أصبحت الحسابات الفلكية أكثر يقينًا، وحلت التلسكوبات محل العين المجردة كوسيلة أكثر كفاءة للرؤية، كما أدت التلغرافات والسكك الحديدية والبواخر والصحف والتقويمات المطبوعة التي نقلت هذه المعلومات بسرعة غير مسبوقة إلى تضخيم قوة المركز السياسي ومدى تأثيره.
بينما تبنى الفقهاء هذه التكنولوجيا الجديدة بسهولة، فقد أثارت أسئلة سياسية إضافية. شهد مطلع القرن العشرين انتشار الفتاوى الفقهية في الرؤية والتكنولوجيا حيث قبِل كبار الفقهاء، ومن بينهم بخيت المطيعي ورشيد رضا، استخدام التلسكوبات في الرؤية ونقل أخبار الرؤية عبر التلغراف. وقد أدى ذلك إلى ظهور عدد كبير من الأسئلة المتعلقة بحدود الجسم السياسي وتوازن القوى داخله.
وفي سنة 1903، أكد رضا أن بداية شهر رمضان المنصوص عليه في الصحف المصرية يطبق داخل مصر فقط، ولا يجوز أن يتبعه القراء في البلدان الأخرى، الذين يجب عليهم تقصي الهلال بأنفسهم إذ يجب على سكان كل بلد أن يصوموا معًا ويفطروا معا. وفي سنة 1910، استدعت السلطات المصرية المطيعي، الذي كان آنذاك رئيسًا لمحكمة الإسكندرية، للسؤال عما إذا كان يجب أن تتبع العاصمة الرؤية الإيجابية من قبل السلطات الإقليمية الصغرى.
في هذه المرحلة، بات واضحًا أن العلاقة بين البلدان المختلفة، وليس مسألة ما إذا كانت الحسابات الفلكية كافية، تحتل قلب الجدل السنوي حول بداية شهر رمضان ونهايته. وفي الواقع، كانت هذه هي القضية المركزية منذ أواخر القرن التاسع عشر.
في سنة 1873، على سبيل المثال، تم نقل رؤية إيجابية لهلال رمضان في القاهرة إلى بورسعيد عبر التلغراف، ولكن نظرًا لعدم وجود أحد في الخدمة عند وصول الأخبار، تم إرسالها فقط في الصباح. بالنسبة لسكان المدينة لم يكن من الواضح ما إذا كان قد فاتهم اليوم الأول من الصيام (نظرًا لأن أخبار الرؤية وصلت إلى المدينة من العاصمة أثناء الليل) أو ما إذا كان شهر رمضان سيبدأ فقط في اليوم التالي (نظرًا لأنه لم يكن لديهم رؤية إيجابية في المدينة ولم يكن من الواضح لماذا يجب أن يتوافق صيامهم مع القاهرة، المدينة التي تبعد 100 ميل غربًا). هذه المسائل الفنية والتشريعية والسياسية هي التي ميزت النقاش لعقود من الزمن.
لم يتم إعادة صياغة سؤال رؤية الهلال بين العلم والدين إلا في العقود الوسطى من القرن العشرين. وأحد الأمثلة المبكرة على هذا التأطير الذي يسلط الضوء على أسباب هذا التحول أطروحة سنة 1939 حول الحساب الصحيح للأشهر القمرية لأحمد شاكر على خلفية الخلاف التقويمي بين الحكومتين المصرية والسعودية في ذلك الوقت بعد أداء فريضة الحج في كانون الثاني/ يناير 1939. لماذا ظهر فجأة هذا الخلاف، الذي كان حتى الآن سمة بارزة في التاريخ الإسلامي، كمشكلة يجب حلها؟
أولاً، أدى التقدم التكنولوجي إلى اختصار الوقت اللازم لسفر الحجاج، وبالتالي استلزم تحديد الأيام التي يجب أن يقضوها في مكة مسبقًا. ثانيًا، يتطلب التطور الرأسمالي قدرًا أكبر من القدرة على التنبؤ والتحكم بشكل أفضل في المستقبل، وكلاهما مستحيل مع الرؤية، الأمر الذي يتطلب الانتظار حتى اليوم التاسع والعشرين من كل شهر لتحديد ما إذا كان اليوم التالي هو اليوم الثلاثين أم الأول من الشهر القمري. ومع تعميم يوم العمل، والحاجة إلى التخطيط للإجازات والتغييرات في يوم العمل هذا خلال شهر رمضان، لم يعد عدم اليقين هذا مقبولاً.
ثالثًا، أدى اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى زيادة الدعوات إلى وحدة المسلمين. بعد ما يقارب ثلاثة عقود من محاولة إعادة تأسيس الوحدة الإسلامية (الرمزية) في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية، أصبح الفشل المستمر في صيام نفس اليوم في جميع أنحاء العالم الإسلامي، والذي أصبح أيضًا أكثر وضوحًا بفضل سرعة انتقال الأخبار، إحراجًا كبيرًا. وأخيرًا، ساهم صعود القومية المناهضة للاستعمار في تصاعد انتقادات الرؤية، بسبب عداء الحركة القومية للتقاليد باعتبارها حاجزًا أمام التنوير.
وفي هذا السياق بالتحديد تم اعتبار الحسابات الفلكية هي الطريقة العلمية لتحديد بداية الشهر القمري الجديد. وجاء في رسالة السبكري أنه “خلال فترات ما قبل الإسلام وأوائل الإسلام، لم يكن لدى العرب معرفة علمية موثوقة في علم الفلك”.
وهذا النقص هو الذي يفسر النص النبوي على استخدام البصر كأساس للعبادات. وزعمت أن الرؤية “كانت أفضل معيار وأدق مقياس لتحديد الدورة الزمنية للممارسات والعبادات الدينية”، لكن ظهور العلم الحديث قدم مقياسًا أكثر دقة: وهو الحسابات الفلكية. “وعندما يستأصل المجتمع الأمية ويكتسب مهارات الكتابة والعد والمعرفة على نطاق أوسع، فلابد أن يعتمد على الحسابات – وهو الطريق الوحيد الذي “يمكن التحقق منه بالتأكيد”.
العديد من دعاة الاعتماد على الحسابات الفلكية يفعلون ذلك بحسن نية: فهم يرغبون في جني ثمار اليقين والقدرة على التنبؤ. بالنسبة لأولئك الذين يقيمون في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وخاصة في الشرق الأوسط، فإن الاعتماد على الحسابات يوفّر وسيلة للخروج من التلاعب السياسي بالرؤية.
ولعقود من الزمن، بدا أن نتائج الرؤية تعتمد على القرب السياسي وليس الجغرافي. وليس من غير المألوف، على سبيل المثال، أن تكون نتائج رؤية حلفاء السعودية في شمال إفريقيا متوافقة مع المملكة الغنية بالنفط، في حين أن بعض جيرانها في الخليج لديهم نتائج رؤية مختلفة.
وهذه السنة، على سبيل المثال، أعلنت السلطات السعودية والمصرية بداية شهر رمضان يوم الإثنين 11 آذار/ مارس، في حين أعلن مكتب المرشد الأعلى الإيراني أن يوم الثلاثاء 12 آذار/ مارس هو أول أيام الشهر الفضيل. وتتجلى المشكلة بشكل أكثر وضوحًا في العراق حيث يبدأ المسلمون السنة والشيعة صيامهم في أيام مختلفة.
بالنسبة للمسلمين الأوروبيين والأميركيين، فإن فوائد الاعتماد على الحسابات متعددة. فهي توفر وسيلة لتوحيد المجتمعات في طقوسهم. والقبول العالمي لهذه الطريقة من شأنه أن يسمح للمهاجرين المسلمين في أوروبا وأمريكا بمواءمة صيامهم مع بلدانهم الأصلية ومجتمعاتهم الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن اليقين والقدرة على التنبؤ بالحسابات يسمحان للأفراد والمؤسسات بالتخطيط للمناسبات الدينية.
هذه الاهتمامات رغم مشروعيّتها إلا أنها ذات طبيعة اجتماعية وسياسية وليست علمية. ومعالجة هذه المخاوف تتطلب أن يقوم المسلمون في الشرق الأوسط بمحاسبة السلطات الدينية والسياسية. ويتطلب ذلك وضع الضوابط والتوازنات اللازمة التي تحمي من التلاعب السياسي بالرؤى.
أما بالنسبة للمسلمين الغربيين فإن هذه المخاوف تتطلب معالجة أعمق بهدف بناء علاقات مجتمعية أكثر صلابة. الأول التفاوض على الهوية، إذ يجب على المهاجرين أن يتصالحوا مع حقيقة أن لديهم وطنًا جديدًا، ومجتمعًا جديدًا يصومون معه، بدلاً من اتباع التقويم والمسجد السعودي أو المصري أو الباكستاني أو السنغالي أو الإندونيسي.
والثاني التفاوض داخل المجتمع الإسلامي الأوسع للاتفاق على طرق التحقق من صحة وإحصاء الرؤى: وهي خطوة تتطلب بناء الثقة. ثالثًا، التفاوض مع الهياكل السياسية والاجتماعية لتوسيع حقوقهم الدينية.
مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن بعض المشاكل المذكورة أعلاه، سواء كانت تتعلق بالمسلمين في البلدان ذات الأغلبية المسلمة أو في أوروبا الغربية وأمريكا، قد تظل دون حل. والسبب واضح ومباشر: إن “عدم القدرة على التنبؤ” بالتقويم القمري هو أحد جوانب الإسلام العديدة التي تضعه على خلاف مع الرأسمالية. وقد يتعين على المسلمين حجز قاعة لمدة يومين للصلاة في حالة عدم توفر مسجد، أو أخذ يوم إجازة إضافي من العمل أو الذهاب إلى العمل في أول أيام العيد.
هذه قضايا طويلة الأمد، وفي هذه الأثناء، من المرجح أن تظل مسألة كيفية تحديد بداية الشهر القمري ونهايته دون حل، لكن اللجوء إلى العلم كحل لا يزال يمثل مشكلة لأنه يسخر من أولئك الذين يريدون الحفاظ على تقليد الرؤية والذين يصرون على أن السؤال تشريعي وليس علمي.
لنأخذ على سبيل المثال دار الإفتاء المصرية، وهي الهيئة الاستشارية الإسلامية، التي نشرت مجموعة من “الفتاوى التأسيسية” في سنة 2013، بما في ذلك فتاوى حول بداية الأشهر القمرية. تعترف الفتوى بيقين الحسابات وتخلص إلى أن مثل هذه الحسابات يجب أن “يُنظر إليها في النفي، وليس في التأكيد”. وهذا يعني الاعتماد على الرؤية، إلا إذا كانت تتعارض مع الحساب الفلكي الدقيق. فالفتوى تراعي العلم، دون أن تغفل طبيعة السؤال. ولا يمكن رفض مثل هذا الموقف ببساطة باعتباره مناهضًا للعلم.
مثل هذا الفصل له عواقب فهو يمنح مؤسسات مثل دار الإفتاء، التي وافقت على إعدام ما لا يقل عن 1500 مصري في الفترة من 2013 إلى 2015، سلطة الادعاء بأنها تحرس التقاليد العلمية الإسلامية. إن مواقف هذه المؤسسة بشأن مسائل المعارضة السياسية والحريات المدنية والعدالة الاجتماعية، وسكوتها وتورطها في “الحرب على الإرهاب”، والتحالفات السياسية لقادتها، بعيدة عن التدقيق والنقد بسبب تأطير العلم مقابل الدين.
والنفور من العلم الناجم عن هذا التأطير لا يقتصر على مسألة رؤية الهلال. وفي حين كان علماء ما قبل الحداثة يعتبرون الدين والعلم مجالين متميزين للمعرفة، فإن نظراءهم المعاصرين يختلفون معهم. ويروج البعض لما يسمى “الإعجاز العلمي” للقرآن، ويعيدون تفسير بعض الآيات على أنها تتنبأ بالاكتشافات العلمية الحديثة.
ويرفض آخرون، الذين يطلبون المعرفة العلمية من المصادر الدينية، النظريات العلمية ولا سيما نظرية التطور، التي تعتبر غير إسلامية. ومن الأفضل للمجتمعات الإسلامية أن تتعامل بجدية أكبر مع الأسئلة الكامنة وراء حروب الهلال، فهي أكثر بكثير من مجرد بدايات الاحتفالات.
المصدر: نيولاينز