ترجمة وتحرير نون بوست
يبدو فيلم “في ألسِنة اللهب” للمخرج الباكستاني زرار خان في بدايته فيلم رعبٍ بموسيقى تصويرية مخيفة وقفزات تخويف غير متوقّعة ومشاهد شبحية، ولكن بالنظر عن كثب يتبيّن أنه يسلّط الضوء على الأهوال اليومية التي تعيشها المرأة في المجتمع الباكستاني من مراقبة الرجال لها باستمرار والعنف المنزلي وأعمال العنف العشوائية إلى توقّع أن تقمع ما تمر به من صدمة.
يقدم هذا الفيلم – الذي تطارد فيه رؤى الموتى امرأة شابة بعد وفاة رب أسرتها – نظرةً حميمة وواقعية للتحديات التي تواجهها ملايين النساء الباكستانيات من الطبقة العاملة والوسطى. فاز هذا الفيلم خلال السنة الماضية بالجائزة الكبرى في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وعُرِض لأول مرة في جميع أنحاء العالم في مهرجان كان، ثم عُرض خلال مهرجان تورونتو السينمائي الدولي في دور السينما وأصبح أول فيلم رعب تدخل به باكستان رسميًا مسابقة الأوسكار.
تطغى أعمال الكوميديا الرومانسية والدراما العائلية على مشهد السينما الباكستانية لكن بدأت السينما والتلفزيون الباكستاني في الآونة الأخيرة خوض تجربة أعمال الرعب. تتناول هذه الأفلام تعقيدات الحياة في باكستان المعاصرة وما يرافقها من قلق ومخاوف، مثل الخطاب المتصاعد حول الحركة النسويّة، والخوف من التأثيرات الغربية، وتطور نظام الأسرة ودور الدين في الحياة اليومية. لكن أهم هذه القضايا هو الإيمان بالسحر الأسود والتدجيل، المحرّمين في الإسلام ولكن لا أحد يجرأ على التشكيك فيهما، في ظل غياب قوانين تجرمّ هذه الممارسات بينما يخشى الناس التنديد بها خشية أن يصبحوا هدفًا لهذه الطقوس.
هذا الاتجاه شبيه بما شهدته الدول الغربية خلال عقد 2010 الذي ميّزته التغيّرات والتحوّلات الاجتماعية، مثل بروز منصات التواصل الاجتماعي والموجة النسوية الرابعة واندلاع الاضطرابات السياسية مثل الربيع العربي ورئاسة دونالد ترامب.
ساعدت أفلام الرعب في التعاطي مع هذه المخاوف المنتشرة وأدت إلى ظهور بعض الأعمال الأكثر تميزًا في هذا النوع من السينما بما في ذلك أفلام مثل “لعنة وراثية” و”منتصف الصيف” و”الساحرة”. وحسب ماتياس كلاسن في كتابه الصادر سنة 2021 بعنوان “دليل شخص عصبي للغاية لأفلام الرعب”، تترك هذه الأعمال مسألة فهمها للمشاهدين من خلال التوصل إلى تفسيراتهم الخاصة لهذه الحكايات الأخلاقية.
إلى جانب فيلم “في ألسِنة اللهب”، صدر السنة الماضية فيلم رعب قصير للمخرج عثمان مختار بعنوان “غولابو راني” لقي استحسان النُقّاد على موقع يوتيوب نظرًا لأن الاستوديوهات في باكستان كانت مترددة في عرض أفلام الرعب على الشاشة الكبيرة. موظفًا تاريخ باكستان الغني بالفلكلور وقصص الأشباح، يروي الفيلم قصة شاب بإمكانيات متواضعة يحاول الالتحاق بكلية خاصة للنخبة حيث يتعين عليه أن يتعامل مع التنمر المستمر من قبل أقرانه حتى يجد نفسه ممسوسًا بروح تسعى للانتقام من معذّبيها.
طرح هذا الفيلم – الحاصل على العديد من الجوائز في جميع أنحاء العالم بما في ذلك جائزة أفضل فيلم رعب قصير في مهرجان “إندي إكس فيلم” في لوس أنجلوس – قضيّتين اجتماعيتين هما ثقافة التنمر وتغيّر الطبقات الاجتماعية والاقتصادية في باكستان.
تزايدت معدلات التنمر في المدارس – سواء التنمر الجسدي أو الإلكتروني – وتم تسليط الضوء على هذه الظاهرة السنة الماضية في مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع لأربع فتيات يضربن طالبة أخرى في مدرسة ثانوية راقية في لاهور.
مع التوسّع الحضري السريع الذي شهدته البلاد في العقدين الماضيين، ارتقى الباكستانيون من الطبقة العاملة في السلم الاجتماعي إلى الطبقة الوسطى لكنهم كانوا أكثر تحفظًا اجتماعيًا ودينيًا من فئة الطبقة الوسطى التي ظهرت في الثمانينيات والتسعينيات، وكانوا أكثر ميلًا إلى اعتناق معتقدات خرافية، وذلك على حد تعبير عمارة مقصود في كتابها الصادر سنة 2017 بعنوان “الطبقة الوسطى الباكستانية الجديدة”.
لكن هذه الاختلافات أدت أيضًا إلى نشوء مخاوف طبقية، وأصبح العثور على انتماء حقيقة واقعة بالنسبة للملايين من الباكستانيين من الطبقة الوسطى الجديدة. وأدى هذا أيضًا إلى ارتفاع معدلات التنمر، وهو صراع كُشف عنه الستار فيلم “غولابو راني”.
قدّم الرعب وسيلة لتصوير محنة الفقراء والمشردين في باكستان التي نادرًا ما يتم تسليط الضوء عليها في السينما في البلاد، حيث عانت البلاد على مدى السنتين الماضيتين من إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية والسياسية في تاريخها، كما تفاقمت الفيضانات في جميع أنحاء البلاد، إلى جانب نقص الوقود والكهرباء، وعدم الاستقرار الحكومي بسبب التضخم الشديد، وتراجع قيمة العملة، وانخفاض الاحتياطيات الأجنبية بشكل خطير. وبينما تشعر الطبقة الوسطى العليا بضغط التضخم، فإن الطبقة الوسطى الدنيا معرّضة لخطر الوقوع مرة أخرى في براثن الفقر.
تدور أحداث فيلم الرعب الكوميدي القصير “جن محل” الذي صدر السنة الماضية حول رجل بلا مأوى سُمِي على اسم الإمبراطور المغولي شاه جاهان أُجبِر على العيش في مقصورة قطار مهجورة مع عائلته بسبب الأزمة المالية لعمليات الإغلاق الناجمة عن جائحة كورونا، حتى انتقلوا إلى منزل قديم مهجور يعتبره السكان المحليّون مسكونًا، لدرء الشكوك حول التعدي على ممتلكات الغير والسكن غير القانوني، استفادت الأسرة من تأثير الضحكة الصاخبة للجدة العمياء وخصلات شعرها البيضاء مع قصة “البيت المسكون”. ولكن في النهاية بعد أن كُشفت الحقيقة أخيرًا ومع تهديد أصحاب البيت الشرعيين بتسليم الأسرة إلى الشرطة، سلّط مونولوغ شاه جاهان الضوء على واقع ملايين الباكستانيين.
سطع نجم أفلام الرعب في باكستان في الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، عندما شهدت لوليوود أولى المحاولات بفيلم “زيندا لاش” (الجثة الحية) في سنة 1967. حظيت السينما الباكستانية، التي أسسها أولئك الذين هاجروا بعد التقسيم في سنة 1947، بفرصتها عندما قيّدت الحكومة استيراد الأفلام الهندية وازدهرت حتى السبعينيات، عندما أدى السخط الاجتماعي والاقتصادي وفترة الأسلمة في ظل حكم الجنرال ضياء الحق إلى خنق الإنتاج الإبداعي. لكن مع الانتعاشة البطيئة التي شهدتها صناعة الإعلام في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تطوّرت عروض المسلسلات على التلفزيون مما مهّد الطريق لنشوء السينما ببطء.
عادت أفلام الرعب مرة أخرى للساحة في سنة 2007 مع فيلم “زيبحخانا” (مسلخ) للمخرج عمر خان المتأثر بشدة بأفلام الرعب الأمريكية الكلاسيكية مثل “مجزرة منشار تكساس” و”ليلة الموتى الأحياء”.
تدور أحداث الفيلم حول مختل عقلي مسلّح يرتدي البرقع يقوم بمعاقبة المراهقين الذين يسيئون التصرف بسبب أسلوب حياتهم الليبرالي – الذي يشمل ممارسة الجنس وشرب الكحول وإقامة الحفلات وتعاطي المخدرات. باستخدام السخرية والتهكّم، يهدف الفيلم إلى معالجة الجدل الدائر حول أنماط الحياة التقدمية التي تهدد النسيج المحافظ للمجتمع الباكستاني، وقد حقق الفيلم نجاحًا جزئيًا لأنه رفض الانقسامات البسيطة بين “الإسلام الراديكالي مقابل الصوفية المعتدلة أو اللطيفة”، التي عادة ما تجذب الفئات الأكثر تديناً في المجتمع. وبدلاً من ذلك، فقد حقق الفيلم إنجازًا نادرًا يتمثل في تسليط الضوء على قيم وأساليب حياة مختلف الطبقات الاجتماعية والدينية في باكستان المعاصرة.
عزف الفيلم على الوتر الحساس للشباب الحضري من الطبقة الوسطى وأصبح عملًا كلاسيكيًا بين التقدميين وألهم جيلًا جديدًا من صانعي الأفلام لتجربة هذا النوع من الأفلام. وكان أبرزهم المنتج عمران رضا كاظمي الذي أخرج فيلم “سيا” (أسود) سنة 2013 الذي تناول مواضيع السحر الأسود وطرد الأرواح الشريرة من خلال قصة زوجين شابين يتبنيان فتاة صغيرة بعد تجربة الإجهاض ليتبين أنها ممسوسة بالجن.
تطرّق الفيلم بمهارة إلى مفاهيم حول الإجهاض والحزن والخلافات الزوجية – وهي قضايا لها صدى لدى الطبقات الوسطى المتنامية – وأظهر كيف يمكن توظيف الرعب في خدمة الجماهير.
منذ ذلك الحين، صدرت العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي تمزج بين الخرافات القديمة والفولكلور والأساطير والمعتقدات الخارقة للطبيعة مع القصص المعاصرة التي تركز على الحياة الأسرية. فعلى سبيل المثال، عرض عمل “سيا” للكاظمي الذي تم تحويله إلى سلسلة مختارات السنة الماضية قصصًا تدور حول عائلات تسعى إلى إعادة التواصل مع أقاربها المتوفّين لتسوية نزاعات الميراث، وزوج يستعين بممارسي السحر الأسود لعلاج اضطراب مزاج زوجته، وصحفي يأمل فضح قصة شبح شعبية في مدرسة مهجورة، وحادث دهس يترك الجاني بعد أن لاذ بالفرار مسكونًا بروح الضحية.
يستكشف الكُتّاب أيضًا القلق والمخاوف بشأن السحر الأسود من خلال الدراما التلفزيونية ويسلّطون الضوء على عدد لا يحصى من الطرق التي يؤثر بها الإيمان بالسحر الأسود وممارسته سلبًا على الأفراد والعائلات. فعلى سبيل المثال، يصور مسلسل “بانديش” – وهو أحد هذه الأعمال التي نالت استحسان النقاد – مصائب عائلة مكونة من ثلاث شقيقات يتعاملن مع اللعنات والتعويذات التي يلقيها عليهن أحد معارفهن السابقين.
ويروي فيلم “عين الشر” قصة رجل يلجأ إلى السحر الأسود بدافع الغيرة عندما تختار حبيبته الزواج من شخص آخر، في حين أظهر “كالا جادو” كيف تُعذَّب امرأة على يد عائلة زوجها باستخدام السحر الأسود.
في فيلمه الوثائقي “كشف الأسرار الدفينة لكالا جادو” الصادر في سنة 2022، حاور المخرج عديل والي رئيس كُتّاب بعض مسلسلات الرعب التلفزيونية الشهيرة في باكستان لمعرفة سبب اكتساب هذا النوع من الأعمال اهتمامًا في السنوات الأخيرة.
وبصرف النظر عن زيادة اهتمام الجمهور بها، قال الكُتّاب إنهم أنفسهم أرادوا تسليط الضوء على مسألة استحواذ الحكايات الخارقة للطبيعة وطقوس السحر الأسود على عقول الناس. وقال رئيس: “هناك دائمًا هذا الخوف وعدم اليقين في قلبك. أنت تفكر دائمًا: هل هذا حقيقي أم لا؟ وقد أردت معرفة ما إذا كان بإمكاني العثور على إجابة لهذا السؤال”.
منذ “نهضة أعمال الرعب” في باكستان، حصلت الاستوديوهات على الضوء الأخضر لإنتاج المزيد من البرامج التلفزيونية التي تتناول موضوعات خارقة للطبيعة. بدأت أنواع الأفلام السائدة أيضًا في دمج عناصر الرعب في الأفلام العائلية أو أفلام الكوميديا الرومانسية.
ومن الأمثلة الحديثة على ذلك فيلم “داغا باز ديل”، الذي يوصف بأنه كوميديا عائلية عن الحب الذي يقهر الصعاب على الرغم من أن البطلة في الفيلم ممسوسة بروح. كما بدأت دور السينما عرض أفلام الرعب العالمية. ففي وقت سابق من شهر كانون الثاني/ يناير، تفاجأ رواد السينما بازدحام قاعات السينما في كراتشي التي تعرض فيلم الرعب الإندونيسي “سيجين”.
قال الباحث في الدراسات الإعلامية علي نوبل أحمد إن هناك حاليًا المزيد من الانفتاح على ظلام الرعب في باكستان مضيفًا أن “الجمهور يريد شيئًا يبدو أكثر واقعية وأكثر قتامة قليلاً، ومشاعر القلق والخوف التي تثيرها أفلام الرعب تبدو تجربة أكثر واقعية”.
المصدر: مجلة نيولاينز