ساعدت التكنولوجيا عالم السينما على الاستمرار بالتقدم والتطور منذ بداية القرن العشرين، ودفعت به إلى أقصى الحدود، وذلك بدءًا من الأفلام الصامتة وإدخال اللون على أفلام الأبيض والأسود والمؤثرات المدهشة، وحتى الموجة الحاليّة التي يواجهها العالم على شكل تقنية الواقع الافتراضي التي تعتبر خطوة جريئة وسلعة خطرة من خبراء صناعة السينما.
ففي يومنا الحاضر، يتم دفع أطر السينما المستطيلة وشاشتها التقليدية إلى زوايا أكثر واقعية وحسية، ومما لا شك فيه أن التقنيات الحديثة التي توفرها التكنولوجيا لعالم السينما حولت صناعة الأفلام إلى تجربة مليئة بالإمكانات الإبداعية والتحديات على مستوى مختلف تمامًا، إذ إنها تسمح للمشاهد بالتجول داخل فيلمه المفضل والتفاعل مع أحداثه عن قرب.
قدمت جائزة أوسكار خاصة للمخرج والمؤلف المكسيكي أليخاندرو جونزاليز إيناريتو عن فيلمه الذي استخدم فيه تقنية الواقع الافتراضي، والذي رأى فيه النقاد الكثير من البراعة الحديثة ومؤشرًا لمستقبل السينما وطريقة إنتاج الأفلام وعرضها، مع العلم أن هذه المرة الأولى التي تمنح فيها الأكاديمية هذه الجائزة منذ أن قدمتها إلى فيلم الرسم المتحركة الرائد توي ستوري الذي أدى في النهاية إلى تخصيص فئة لأفلام الرسوم المتحركة عام 1996.
فيلم “كاريني وأرينا”
هو فيلم قصير مدته ست دقائق ونصف ويصف الحالة الإنسانية للمهاجرين واللاجئين، معتمدًا على قصص حقيقية، يهدف إلى دمج الجمهور بأحداث الفيلم بطريقة تبدو أقرب للواقع الحقيقي، حتى يشعر المشاهد بنفسه جزءًا من الرحلة القاسية التي يعيشها اللاجئين.
بالتحديد، تدور أحداث الفيلم حول اللاجئين الذين وصلوا إلى أمريكا الوسطى والمكسيك، في محاولة منهم لدخول الولايات المتحدة، يعرض الفيلم التجربة المرعبة التي يمر بها اللاجئون وتضعك داخل الأحداث منذ لحظة وصول المهاجرين إلى الصحراء الواقعة على الحدود بين أمريكا والمكسيك والتي تكون عبارة عن أراضٍ شاسعة ومغطاة بالرمال، كما تشعرك تقنية الواقع الافتراضي بالرمال من تحت قدميك وبالغبار من حولك، إلى جانب مجموعة من المهاجرين الخائفين والجوعى الذين بقوا منتظرين أسابيع في الصحراء، وحتى اللحظة التي تظهر فيها المروحيات المحملة برجال الشرطة المسلحة بالكلاب والبنادق والتي تبدأ باعتقال كل من حولك بالقوة.
يوضح الفيلم الظروف التي يعتقل بها اللاجئون مثل فصل الأطفال عن أسرهم وحرمانهم من الطعام وتحول لون شفاهم إلى اللون الأزرق من شدة البرد والخوف
أما عن سبب اختيار المخرج إيناريتو لهذه القضية فقال: “كان هذا المشروع ينمو في ذهني خلال السنوات الأربعة الماضية، وقابلت العديد من اللاجئين من المكسيك وأمريكا الوسطى، وكانت قصص حياتهم تلاحقني، لذلك دعوتهم للتعاون معي في هذا المشروع”، وكان هذا واضحًا من خلال المشاهد التي وضحت الظروف التي يعتقل بها اللاجئون مثل فصل الأطفال عن أسرهم وحرمانهم من الطعام وتحول لون شفاهم إلى اللون الأزرق من شدة البرد والخوف.
وأفصح إيناريتو أنه استخدم هذه التقنية كمحاولة للتغلب على سيطرة فكرة الإطار، التي تسمح للمشاهد بمراقبة الأمور فقط دون أن تتوفر له المساحة كي يعيش تجربة المهاجرين بكل جوارحه، ويضيف “استخدمت أحدث أنواع التكنولوجيا للتعبير عن قصص الأشخاص الذين يعاملون بأدنى مستوى في المجتمع، والواقع الافتراضي هو التعبير عن الحقائق القبيحة”.
كيف يرى خبراء عالم السينما هذه التقنية الحديثة؟
من وجهة نظر النقاد وتعليقًا على فيلم “كاريني وأرينا” يقول البعض إن هذا العمل يعتبر انتصارًا سينمائيًا ونجاحًا في تجسيد معاناة اللاجئين دون تكلف، فهو يخبر العالم ما حقيقة الشعور بهذا الكم من الخطر والإهانة عندما يكون السلاح في وجهك ولا تملك أي حق من حقوقك المدنية ولا قيمة لإنسانيتك، ويضع المشاهد في منتصف الأحداث التي تجري في العالم.
كذلك، عبر البعض عنه بأنه “هجين من لعبة فيديو والمسرح الحي” الذي يتحدى الوسائل النظرية والتقليدية في عرض مسألة سياسية بطريقة فنية وأجبر الجمهور على إسقاط هذا الموضوع في حياتهم الخاصة ليصبح لديهم تصور أوضح عما يعانيه المهاجرون.
يقول إيناريتو: “السينما عكس الواقع الافتراضي، لكنني فضلته عن السينما، لأنه يجمع بين الفيلم الخيالي والوثائقي، ويقدم مزيجًا مختلفًا من التعابير التي يصعب عليّ أن أقدمها بالإطار الكلاسيكي
خاصة أنها تسمح للجماهير بالانتقال إلى عوالم جديدة وتفتح أمامهم تجربة حسية وانفعالية بزاوية 360 درجة، ولكن بالمقابل، لم تلق هذه التقنية إعجاب المنتج السينمائي ستيفن سبيليرغ الذي أعرب عن قلقه في مهرجان كان السينمائي لعام 2016، مشيرًا إلى أن هذه التكنولوجيا الجديدة يمكن أن تفقد الفيلم جمالية السرد.
ولختام هذا الجدل يقول إيناريتو: “السينما هي الإطار والعدسة وخاصية التعديل وموقع الصورة والزمان والمكان”، ويكمل “والواقع الافتراضي هو عكس كل هذا، لكنني فضلته عن السينما، لأنه يجمع بين الفيلم الخيالي والوثائقي، ويقدم مزيجًا مختلفًا من التعابير التي يصعب على أن أقدمها بالإطار الكلاسيكي”.
وعلى الرغم من وجهات النظر المختلفة، فإنه لا يمكن إنكار أو تجنب الثورات التكنولوجية وقدراتها على خلق مساحة إدراكية عالية بين الجمهور والفيلم، وبنفس الوقت من الصعب انتزاع عنصر الرواية التي تقوم عليه الكثير من الأفلام في السينما.