لم يكتفِ جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف المنازل على رؤوس أهالي قطاع غزة، والتسبب بقتلهم وتهجيرهم، فعندما قرر التوغل بريًا نصب لهم فخًا حين أقام ما يُعرف بـ “الممرات آمنة”، للنزوح من الشمال إلى الجنوب بدعوى الحفاظ على أرواح المدنيين، لكن كانت هذه المسارات عبارة عن مصائد اعتقال وتعذيب لآلاف النازحين الهاربين من رصاصات ونيران الحرب.
أنشأ الاحتلال الإسرائيلي سجنًا مخصصًا لهؤلاء المعتقلين، وهو “سديه تيمان” الذي أطلق عليه اسم “غوانتنامو النقب” أسوة بالسجن الواقع جنوب شرق كوبا وتستعمله أمريكا لتعذيب من تصفهم بـ “الإرهابين” حد زعمها.
منذ بداية عمليات التوغل البري في قطاع غزة والاعتقالات التعسفية والعشوائية للغزيين لم تتوقف، حتى أنها جاءت تحت خانة الإخفاء القسري، إذ رفضت سلطات الاحتلال الإفصاح عن أي معلومات عن هؤلاء المعتقلين أو عن مصيرهم، ولكنها أجبرت على إفراج عدد منهم في مراحل متلاحقة، رغم أنها ادعت سابقًا بأنهم “مقاتلون” لدى المقاومة الفلسطينية.
أين يقع معتقل سديه تيمان؟
يبعد السجن عن قطاع غزة حوالي 30 كيلو مترًا في صحراء النقب قرب بئر السبع قاعدة حقل اليمن أو “سديه تيمان” العسكرية التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي التي أسسها البريطانيون في الحرب العالمية الثانية، لكن بعد السابع من أكتوبر، تحولت قاعدة “سديه تيمان” لأكبر معتقل لاحتجاز الفلسطينيين من غزة، حيث يواجهون انتهاكات تفوق ما شهدته معتقلات أبو غريب وغوانتانامو، لدرجة دفعت إسرائيليين أنفسهم لتشبيهه بمعسكرات الاعتقال النازية.
ووفق ما كشفته لقطات الأقمار الصناعية أظهرت عددًا من المباني الجديدة بالإضافة لما يشبه خيامًا ضخمة (حظائر) بأماكن مختلفة في القاعدة العسكرية الإسرائيلية.
شهادات المفرج عنهم من “سديه تيمان”
أنصت موقع “نون بوست” لغزيين أفرج عنهم من سجن “سديه تيمان”، إذ يقول إسماعيل عبد المنعم – 25 عامًا – وهو من شمال القطاع، أصيب في يده بعد قصف منزلهم ما اضطره إلى اللجوء إلى منزل أحد أقاربهم خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ثم قررت عائلته النزوح مجددًا إلى الجنوب كما أمرهم الاحتلال، وعندما كان في طريقه في شارع صلاح الدين، أشار إليه جندي إسرائيلي من بعيد عبر أشعة الليزر المصوبة تجاهه ووجه إليه أمرًا بالتقدم نحوه، ليتم تعصيب عينيه وتقييده برفقة العشرات الآخرين.
يقول عبد المنعم:”تركونا حوالي ثلاث ساعات مكبلين “بالمرابط البلاستيكية”، وأعيننا معصوبة، وفي حال تحرك أحدنا أطلقوا الرصاص عشوائيًا لترهيبنا، بعدها أمرنا بالجلوس أرضًا، وإن سقط أحدنا أو حاول الاستلقاء من التعب ضربوه بالبساطير”.
يضيف عبد المنعم:”أثناء الاعتقال، سمعنا صوت رجل مسن يتم استجوابه تحت التعذيب وهو يردد “ما بعرف شي، كل أولادي ماتوا”، ثم أخبرهم أنه مريض قلب فانهالوا عليه بالضرب ثم اختفى صوته دون أن نعرف مصيره”.
بعد ساعات طويلة من الانتظار، اشتد الألم في يد عبد المنعم جراء إصابته السابقة من القصف الذي استهدف منزل أسرته، فخشي أن يطلب مسكنًا أو طبيبًا، خوفًا من الضرب المبرح أو الإهانات التي يمكن أن يتعرض لها. وبعد الإفراج عنه زاد وضعه الصحي سوءا، مما اضطر الأطباء إلى بتر يده المصابة بعد الإفراج عنه بشهر.
ذكر عبد المنعم أنه بقي رهن الاعتقال والتعذيب مدة شهر، إلى أن جاء ضابط إسرائيلي وأخبره ومجموعة من المعتقلين “سيتم ترحيلهم إلى المحكمة العسكرية” ليفاجئوا بعد رفع العصبة عن أعينهم أنهم أمام معبر “كرم أبو سالم” الواقع بين غزة والأراضي المحتلة.
ومن السجن ذاته، أفرج قبل شهور قليلة عن الصحافي ضياء الكحلوت الذي اعتقل من بيته شمال قطاع غزة، ويصف تجربته داخل “سديه تيمان”، قائلا:”قضيت فيه 33 يومًا بعدما نادى الجنود على أهالي المنطقة بالخروج إلى الشارع حينها قاموا بتعريتنا، وبعد ساعات أمروا الرجال من هم فوق الـ 60 عاما الذهاب إلى مستشفى كمال عدوان، بينما نحن الشباب اقتادونا في شاحنات إلى موقع زيكيم وهناك انهالوا علينا بالضرب وحين عرفوا هويتي الصحفية باتوا ينادوني “جورناليست” بسخرية وحين أرد عليهم يصرخون ووضعوا لاصق على فمي”.
وتابع:” بعد ساعات وضعونا في معتقل قضيت فيه فترة اعتقالي، لم أعلم اسمه في البداية لكن كل شيء فيه كان يشبه سجن غوانتنامو الذي قرأت عنه العشرات من القصص حتى فهمنا من الإذاعة التي كان ينصت إليها الجنود أن المكان الذي نتواجد فيه هو سديه تيمان”.
لفت الكحلوت أيضًا إلى أن جنود الاحتلال كانوا ينقلون الأسرى من عنبر لآخر بهدف الضغط النفسي وإزعاجهم وهم مقيدو الأيدي ومعصوبي العينين، مشيرًا إلى أنه أجبر 25 يوما الجلوس على ركبتيه لمدة 18 ساعة، مما تسبب له بتقرحات جلدية وآلام في العظام.
وذكر أنهم كانوا يتعرضون للضرب المبرح بأدوات قاسية حال مخالفتهم للتعليمات كأن يحرك أحدهم جسده، ويستمتع الجنود بإهانة الأسرى ويجبرونهم على قول “علم إسرائيل حي، عاشت دولة إسرائيل”.
في ذات السياق، يقول عصمت منصور المختص في الشأن الإسرائيلي لـ “نون بوست” إن هذا النوع من السجون يرافق قوات الاحتلال حين تقرر إعداد حملات عسكرية حيث تفتح معسكرات أو أماكن معينة وتخصصها للمعتقلين لأسباب احترازية أو لمشاركتهم في القتال، بحسب ادعائها.
وبحسب مراقبته، فإن تلك المعتقلات كـ “سديه تيمان” تكون البنية التحتية فيها غير ملائمة للمعايير الإنسانية الأساسية، حيث يلقى الأسرى بشكل عشوائي، وعاملون بوحشية وإذلال ودون أي قوانين أو معايير حقوقية، إذ يخضعون لأوامر الضابط الإسرائيلي ومزاجيته، ولا رقابة أيضًا على تلك السجون سواء دولية أو داخلية حكومية إسرائيلية.
كما لفت منصور إلى أن السجون التي تنشأ في الحرب تكون أجواءها عدائية، إذ تتحول إلى معسكرات شبيهة بأبو غريب وغوانتنامو، حيث القصص والشهادات التي تصل قليلة وتكون من أشخاص أفرج عنهم أو أطباء وموظفين إسرائيليين يتفاخرون بالقصص الوحشية.
“سديه تيمان أشد دموية من سجن غوانتنامو”
كشف تحقيق لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، أن 27 فلسطينيا من سكان غزة توفوا في مراكز احتجاز عسكرية إسرائيلية منذ بداية الحرب على القطاع، وكشف التحقيق عن رسالة بعثها طبيب عسكري إسرائيلي إلى الوزراء والمستشارة القضائية الإسرائيلية جاء فيها “كلنا تحولنا لشركاء في خرق القانون”.
كما أشارت صحيفة “هآرتس” أن المعتقلين بين 600 و800 أسير في الوقت الراهن، بينما نفَّذ الاحتلال منذ بداية الحرب حوالي 8 آلاف حالة اعتقال بين الفلسطينيين، وتجاوز عدد الأسرى حتى نهاية فبراير/شباط الماضي 9100 أسير، بينهم 3558 معتقلا إداريّا، و793 صنفوا “كمقاتلين غير شرعيين”، من معتقلي غزة.
وفي نهاية ديسمبر الماضي، أدلى جندي احتياط خدم في قاعدة سديه تيمان بشهادته لإذاعة إسرائيلية، حول ظروف اعتقال الفلسطينيين. الجندي الذي رفض الكشف عن اسمه، قال إنه بمجرد وصول المعتقلين من غزّة، يتم توزيعهم على أقفاص حديدية في العراء، ويتم وضع نحو 70 إلى 100 شخص في كل قفص ضيق، بحسب أعمارهم ما بين 18 و60 عامًا، بالإضافة لقفص مخصص للعجائز الذين تصل أعمارهم نحو 75 عاماً.
في حين، قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في بيان له، إن الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين من قطاع غزة لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي يتعرضون إلى جرائم قتل عمد وإعدام تعسفي خارج نطاق القانون والقضاء، بما في ذلك القتل تحت التعذيب.
وأوضح أن سجون ومراكز احتجاز الاحتلال الإسرائيلي تحولت إلى نسخ أشد دموية من سجن غوانتنامو، بما تشهده من أشكال تعذيب مشينة، بما في ذلك المفضي إلى القتل، وسوء المعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية، والحرمان من الحد الأدنى من الحقوق الأساسية، وذلك على الرغم من الإدانات الدولية المتعددة والمطالب بضمان حقوق الأسرى والمعتقلين وسلامتهم.
وأعرب البيان أيضًا عن فزعه وصدمته إزاء توالي الكشف عن جرائم قتل عمدية نُفذت بحق أسرى ومعتقلين فلسطينيين، فيما قضى آخرون جراء التعذيب الشديد وسوء المعاملة خلال احتجازهم في معسكر “سديه تيمان” وغيره من مراكز الاحتجاز والمنشآت العسكرية الإسرائيلية.
كما قال الأورومتوسطي إن الأشد خطورة وصدمة هو إصرار جيش الاحتلال الإسرائيلي على نزع الإنسانية عن الفلسطينيين في قطاع غزة، ودون إيلاء أي اعتبار لإنسانيتهم وآلامهم وكرامتهم، بما في ذلك الأسرى والمعتقلون، وتنفيذ جرائم ترتكب ضدهم على نحو وحشي وسادي، وتعذيبهم وقتل بعضهم ومن ثم إخفاء جثثهم دون حتى تبليغ عوائلهم بمصيرهم أو نشر أي أسماء ومعلومات حولهم.
اليوم وبعد مضي 6 أشهر على حرب غزة، تتوالى الانتهاكات الإسرائيلية في قائمة يطول حصرها، أمام محاكم حقوقية ومجتمعات مدنية ودولية لم تستطع إيقاف الجناة عن ارتكاب المزيد من الجرائم.