ترجمة وتحرير: نون بوست
وصل سعد الحريري إلى بيروت ليلة الثلاثاء تزامنا مع احتفال لبنان بعيد استقلاله، علما وأن استقالته التي أعلن عنها في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر من الرياض، والتي تراجع عنها، لم تضع حدا لمشواره السياسي. في المقابل، تعد هذه المرحلة بمثابة المنعطف الحاسم في تاريخ الحاشية التي سيطرت على الساحة السياسية اللبنانية طوال 25 سنة.
يشكل صعود وانهيار آل الحريري جزءا هاما من تاريخ لبنان، الذي جعلته رقعته الجغرافية وتاريخه يتخذ مكانا في صلب جل التوترات التي هزت الشرق الأوسط. ويمثل آل الحريري رجلين، الأول وهو الأب، الذي يدعى رفيق، مؤسس السلالة، والذي يحظى بمكانة مميزة. والثاني، نجله سعد، الذي دُفع نحو الواجهة على الساحة، والذي لم يستطع الحفاظ على إرثه. وقد تعرض سعد الحريري للعديد من الانتقادات وصل بعضها إلى حد إجراء مقارنه بين حرفية الأب والعيوب والأخطاء التي يتسم بها وريثه. في الأثناء، كانت الظروف التي واجهها سعد الحريري، والتي تعد رهينة التنافس الإقليمي، تتطلب حقا رجلا خارقا للتعامل معها.
تغيرت ملامح مستقبل آل الحريري ومعها مستقبل سعد الحريري في 14 من شباط/فبراير سنة 2005، تحديدا عندما فجرت سيارة مفخخة رتل رفيق الحريري الذي كان مارا على كورنيش بيروت. بعد ذلك، وقع الاختيار على نجله الأصغر خليفة له، الأمر الذي شكل في حد ذاته مفاجأة. فقد هتفت الجماهير في مكان الحادثة، للابن البكر، بهاء الدين الحريري، إلا أن ذلك لم يحل دون اختيار سعد الحريري، بعد أيام، لتولي مهام قيادة السلالة.
في هذا الإطار، ذكرت الصُحفية السابقة في “وكالة فرانس برس” وصحيفة “المستقبل” التي يمتلكها آل الحريري، ربى كبارة، أن “كلا من العاهل السعودي، الملك عبد الله، وجاك شيراك قد أيدا سعد الحريري”. وأضافت الصحفية أن “أرملة رفيق الحريري، وزوجته الثانية، نازك الحريري، مالت بدورها لصالحه”. ويتصف الابن البكر، بهاء الدين الحريري، بالضعف. فضلا عن ذلك، كان والده يكن له الضغينة، حيث حمله جزءا من مسؤولية مقتل شقيقه الأصغر، حسام، الذي توفي في سنة 1990، خلال تنافسهما في خضم سباق سيارات من نوع ” بورشه” في شوارع ولاية بوسطن. وفي ذلك الوقت، لم يكن سعد الحريري قد تجاوز 35 سنة. وقد عرف عن سعد أنه شخص مستهتر ولطيف في الآن ذاته. وفي حين كان يدير الفرع السعودي للشركة العائلية بنجاح، كانت خبرته في السياسة اللبنانية المعقدة محدودة للغاية، أي أنه لا يحمل الكثير من الزاد السياسي لكي يتولى إدارة نظام كامل كان مرتكزا على أكتاف رجل واحد.
في ظل شهرته في مجال المقاولات والأشغال العامة، ورث رفيق الحريري علاقات واتصالات بالغة الأهمية على الساحة السياسة الفرنسية، على غرار الصداقة الوثيقة التي جمعته بجاك شيراك، الذي كان يشغل وقتها منصب محافظ مدينة باريس
إعادة إعمار بيروت
كان ظل والده يجتاح كل مكان تقريبا. وقد ولد رفيق الحريري، الذي كون نفسه بنفسه، سنة 1944، وينحدر من عائلة سنية متواضعة من مدينة صيدا. وخلال نهاية الحرب الأهلية مع بداية التسعينات، برزت في قلب المشهد اللبناني السياسي وجوه جديدة أغلبها من القياديين المشاركين في الحرب على غرار، سمير جعجع، وميشال عون، ووليد جنبلاط، ونبيه بري، علاوة على رفيق الحريري الذي اقتحم الساحة اللبنانية سالكا طريقا آخر غير السياسة، ألا وهو المال.
على غرار العديد من المستثمرين اللبنانيين، عمل الشاب، أصيل مدينة صيدا، على تكوين ثروته انطلاقا من السعودية. وقد اشتعلت أسعار النفط بعد الأزمة النفطية الأولى سنة 1973، مما جعل المملكة تصبح بمثابة الملاذ بالنسبة للأشخاص الذين عرفوا كيفية كسب ثقة الأمراء السعوديين، فضلا عن الذين شاركوا في عملية تحديث البلاد. وفي ذلك الوقت، سارعت المملكة لبناء طرق سيارة، ومباني عامة، وقصور.
من جهته، عرف رفيق الحريري، الذي كان يدير شركة متخصصة في الأشغال العامة، كيف يكسب ثقة البلاط الملكي. وسرعان ما أضحى الحريري رجل المشاريع الكبرى التي كلفه بها العاهل خالد بن عبد العزيز آل سعود، ثم من بعده الملك فهد آل سعود. والجدير بالذكر أنه وعلى اعتباره رئيس أحد فروع الشركة الفرنسية “أوجيه”، وضع رفيق الحريري يده على العقود الكبرى في الأشغال العامة الواحد تلو الآخر. وخلال سنة 1979، اشترت الشركة الفرعية أسهم الشركة الأم، التي أضحت تعرف باسم شركة “أوجيه انترناشونال”. وفي ظل شهرته في مجال المقاولات والأشغال العامة، ورث رفيق الحريري علاقات واتصالات بالغة الأهمية على الساحة السياسة الفرنسية، على غرار الصداقة الوثيقة التي جمعته بجاك شيراك، الذي كان يشغل وقتها منصب محافظ مدينة باريس.
من جهة أخرى، شارك رفيق الحريري، الذي كان يعد رجل السعوديين بامتياز، في تجهيز اتفاق الطائف الموقع في السعودية سنة 1989، الذي وضع حدا للحرب تحت رعاية العرابين، سوريا حافظ الأسد والمملكة السعودية. عقب ذلك، خدمت عملية إعادة هيكلة المؤسسات بعد الحرب الأهلية مصالح أبناء الطائفة السنية الذين يقع اختيار وزير أول من بينهم، متقدمين بخطوة على منصب رئيس الجمهورية الذي يكلف به مسيحي ماروني.
بفضل المليارات التي يمتلكها، تمكن رفيق الحريري من شراء مخلصين له ونزع سلاح خصومه
في الواقع، عزز اتفاق الطائف الحضور السوري في لبنان، وجعل من حزب الله الشيعي الميليشيا الوحيدة المسموح لها بالاحتفاظ بسلاحها، في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل لا تزال تحتل جنوب البلاد. في الأثناء، لم تتوقف هذه القوى المتحالفة، أي الرياض ودمشق، قبل أن تدخل في صدام، عن لعب دور مؤثر على مصير لبنان ومصير آل الحريري. مستفيدا من مهارته في التعامل مع الآخرين ومن مصادره المالية الضخمة، تولى رفيق الحريري مشروعا ضخما أكبر من المشاريع التي اكتسب من خلالها ثروته، حيث عين رئيسا للحكومة اللبنانية سنة 1992.
بعد مضي 16 سنة من الحرب الأهلية، أضحى لبنان أشبه بالأطلال. فقد أضحت بيروت التي كان يطلق عليها لقب “باريس الشرق” مدينة مدمرة ومقسمة نتيجة ندب عميق من مخلفات الحرب التي فرقت كل الطوائف فيما بينها. وفي ظل غمامة من دخان سيجاره، أضحى هذا الملياردير وزيرا أولا، مستهلا مسيرته السياسية بحيوية متناهية. وأجاد رفيق الحريري إدارة كل شيء منطلقا من مسقط رأسه، صيدا جنوبا، وصولا إلى مدينة طرابلس، كبرى المدن السنية في الشمال.
علاوة على ذلك، وبفضل المليارات التي يمتلكها، تمكن رفيق الحريري من شراء مخلصين له ونزع سلاح خصومه. وقد وصفه الوزير اللبناني السابق والمتخرج من المدرسة المتعددة التكنولوجية، شربل نحاس، بأن “شخصيته تشبه شخصية الكاتب الفرنسي بلزاك”، إذ أنه “متعطش للانتقام الاجتماعي، كما كان قلبه يجمع بين مشاعر الإعجاب والامتعاض في آن واحد من الطبقة البرجوازية القديمة في لبنان، التي انتدب منها بعضا من موظفيه”.
“فساد ناجع”
جمع رفيق الحريري بين الوسط العام والخاص. ويظهر ذلك جليا من خلال المزج بين أمواله الخاصة والمال العام. من جهتهم، شبه أخصائيون في علم الاجتماع أسلوبه في الحكم بأنه أنموذج يعكس نظرية “الفساد الناجع”، نظرا لأنه قد نجح في إعادة إنعاش الاقتصاد اللبناني. وفي الأثناء، كانت نظرية الحريري تهدف إلى إعادة إعمار مركز مدينة بيروت. وقد اقتنت شركة ” سوليدير”، التي يعد الحريري أكبر مساهم فيها، بأسعار زهيدة مركز المدينة الذي تدمر لإعادة بناءه بشكل متطابق مما در عليها أرباحا ضخمة. وخلف الواجهات ذات الطابع المعماري العثماني، تحولت الأسواق العتيقة إلى مراكز تجارية ذات محلات فاخرة، مما يذكرنا بالطابع المتوسطي لمدينة دبي أكثر من كونها مدينة شامية قديمة.
تعلم خليفة رفيق الحريري من خلال التجربة الصعبة التي مر بها أن الروابط المميزة مع السعودية ستقتضي دفع ما يقابل ذلك، وقد تجلى ذلك من خلال زيارته لدمشق بأمر من الرياض، حيث تصافح مع بشار الأسد المتهم بالتخطيط لقتل والده
كثيرا ما كان لبنان في قلب التنافس بين القوى الإقليمية، حيث لا تعد السياسة في هذا البلد مجرد جزء من لعبة “المونوبولي”، ولكنها تعتبر أيضا لعبة خطرة كلفت هذا الملياردير، صديق الأمراء، الكثير. وفي هذا السياق، وجد سعد الحريري، الذي كان حليفا للنظام في الرياض والنظام في دمشق، نفسه في موقف حرج عندما أضحت مصالحه على المحك. فقد رفض في سنة 2004 تعديلا دستوريا يسمح للمرشح اللبناني الذي اختارته دمشق، إميل لحود، بالترشح لولاية رئاسية جديدة. نتيجة لذلك، هدده بشار الأسد، خليفة والده حافظ الأسد في سوريا، “بتدمير لبنان” كليا، قبل أن تنتهي مسيرته السياسية بين حطام سيارته المدرعة التي تم تفجيرها.
جعل الموت المأساوي من رفيق الحريري شهيدا، فيما أشعل اغتياله موجة من المظاهرات الضخمة المطالبة برحيل قوات الاحتلال السوري. وفي هذا السياق، بادرت كل من سوريا وإيران بترك أفضل أوراقهما الرابحة ضمن اللعبة السياسية اللبنانية، والمتمثلة في حزب الله الشيعي، الذي حافظ على صفته على اعتباره ميليشيا مسلحة بتعلة محاربة إسرائيل، قبل أن يتحول إلى القوة المسيطرة على الساحة السياسية اللبنانية.
على العموم، وجد سعد الحريري نفسه مجبرا على مواجهة هؤلاء الخصوم في صلب المشهد السياسي اللبناني. وقد ورث الابن الثاني لرفيق الحريري جزءا من ميراث والده الذي وزعه بين أبنائه الخمسة، علما وأن ثلاثة منهم يعدون من زوجته الثانية، نازك الحريري. فضلا عن ذلك، ورث سعد الحريري قسما من إمبراطورية والده التي تتكون من مؤسسات عقارية على غرار “سوليدير” وعملاق المقاولات والأشغال العامة، شركة “سعودي أوجيه”، بالإضافة إلى تلفزيون المستقبل وشركات اتصالات. علاوة على ذلك، تولى سعد الحريري قيادة الطائفة السنية اللبنانية، التي تضم تيار المستقبل الذي يشكل مركز التحالف المضاد لسوريا المنطوي تحت اسم ” تحالف 14 آذار”، الذي ثار في مظاهرات كبرى سنة 2005 عرفت “بثورة الأرز”.
في خضم هذه التراجيديا الشكسبيرية، حيث يعرف السياسيون غالبا بعضهم البعض شخصيا، يلعب سعد الحريري دور “هاملت”. وفي الأثناء، كان وريث رفيق الحريري مشتتا بين تلبية رغبته في الانتقام من أولئك الذين يعتبرهم مجرمين على غرار، نظام بشار الأسد وحزب الله، وبين المتطلبات التي تفرضها الحسابات السياسية الإقليمية. عقب توليه رئاسة الحكومة سنة 2009، تعلم خليفة رفيق الحريري من خلال التجربة الصعبة التي مر بها أن الروابط المميزة مع المملكة السعودية ستقتضي دفع ما يقابل ذلك. وقد تجلى ذلك من خلال زيارته لدمشق بأمر من الرياض، حيث تصافح مع بشار الأسد المتهم بالتخطيط لقتل والده.
من المؤكد أن استقالة الحريري فضلا عن نهاية زمن علاقاته المتميزة بالمملكة، من شأنهما أن يضعا حدا لنشاط شركة سعودي أوجيه ونظام المحسوبية الذي رسخه رفيق الحريري من قبله
انهارت الأعمال
من المعلوم أن سعد الحريري تنقصه الكثير من الكاريزما. وغالبا ما كان يستقبل زائريه ويتحدث معهم على الأريكة التي علق فوقها مباشرة صورة تذكارية لوالده. وفي هذا السياق، صرح محلل سياسي لبناني أن “سعد يتحدث ببطء، في حين أن توليه منصب قائد طائفة، لا يعد سوى أمرا شكليا”. في الوقت عينه كان خصومه يسخرون منه، حيث اعتبروه وزيرا أولا “يتم التحكم فيه عن بعد”. فعادة ما كانت الأوامر تصدر من الرياض ليقوم الحريري بتنفيذها في لبنان، مع العلم أنه لم يكن يقضي الكثير من الوقت في بلاد الأرز. ففي الحقيقة، وبين شهري حزيران/يونيو سنة 2009 وكانون الثاني/يناير سنة 2011، قضى الحريري 200 يوم خارج لبنان، قضاها بين التزلج في سويسرا والتنقل بين مقر سكناه في فرنسا، حيث يمتلك الجنسية الفرنسية، وسردينيا وخاصة السعودية التي يحظى بالجنسية فيها على حد السواء.
في سياق ذي صلة، أكد صاحب أحد الكتب الرائعة عن السيرة الذاتية لرفيق الحريري ، نيكولا بلانفور، أنه “يجب الاعتراف بأن سعد الحريري قد ورث عن والده وضعا صعبا للغاية”. وأضاف بلانفور، أنه “من جهة، يعادي سعد سياسيا حزب الله، في الوقت الذي يعجز فيه عن اتخاذ أي إجراء. ومن جهة أخرى، وجد سعد نفسه مجبرا على الدخول في توافقات ليفتح أسواقا عمومية لشركاته بهدف إنقاذها. إضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن سعد الحريري لا يعتبر سياسيا جيدا، إلا أنه لا يمكن انكار حقيقة أن الوضع الذي يواجهه يصعب تخطيه”.
من جانب آخر، كان سعد الحريري محاصرا بين تحالفه مع السعودية، التي يعتمد عليها اقتصاديا، وبين السيطرة المتنامية لحزب الله على الساحة السياسية اللبنانية. وبعد أن أظهر قوته من خلال احتلاله لمدينة بيروت خلال شهر أيار/مايو سنة 2008 لبضع ساعات، أضحى حزب الله ميليشيا قوية للغاية في لبنان. وفي حين أنه لا يمارس سلطة مباشرة في البلاد، يستطيع حزب الله أن يلعب ورقة الفيتو الخاصة به إذا اقتضت الضرورة.
على الصعيد المالي، تتراكم الصعوبات في طريق سعد الحريري، حيث أن علاقته بالقادة الجدد في المملكة لا تعد وثيقة خلافا لما كانت عليه خلال أيام والده. علاوة على ذلك، لم تعد العقود مدفوعة، وفي الوقت ذاته، غالبا ما تشهد الكثير من التأخير. وللتوضيح أكثر، أفاد الوزير السابق، شربل نحاس، قائلا: “نظرا لأن شركة “سعودي أوجيه” لديها مصاريف تشغيلية هامة في ظل تشغيلها للعديد من الموظفين، فقد وجدت نفسها في خطر عندما عانت من نقص في السيولة”.
عقب عودته إلى السلطة سنة 2016، حاول سعد الحريري إعادة تنظيم وضعه المالي. ولكن الانتصارات التي حققتها كل من إيران وحزب الله في المنطقة، وتحديدا في العراق وسوريا، كانت مصدرا للقلق بالنسبة للسلطة الجديدة في السعودية أكثر من حاشية الحريري. ومن المؤكد أن استقالة الحريري فضلا عن نهاية زمن علاقاته المتميزة بالمملكة، من شأنهما أن يضعا حدا لنشاط شركة سعودي أوجيه ونظام المحسوبية الذي رسخه رفيق الحريري من قبله. فضلا عن ذلك، سيكون ذلك إيذانا بتلاشي إشعاع بريق عشيرة كانت تشكل ثقلا في لبنان وتلعب دورا كبيرا في تحديد مصيره على امتداد 30 سنة.
المصدر: لوفيغارو