لا يساور الشك متابعاً للشأن السوري في أن روسيا نجحت، من خلال إعلان موسكو الذي تلته مؤتمرات الآستانة، في ترويض القوى الإقليمية الفاعلة في سوريا، وتخطي عقباتها من خلال تحويل بعضها، لدول شريكة أو بالأحرى وكيلة لتبادل الأدوار معها في عملية الحل، كتركيا وإيران، وبالتالي إحداث تمزق واضح المعالم في صفوف فصائل المعارضة، لا سيما المدعومة من تركيا.
أيضاً، برعت روسيا، بتدخلها العسكري وبإعلان موسكو ومن ثم مؤتمرات الآستانة، في كسب الشرعية الدولية، كدولة ممسكة بزمام الأمور في سوريا، وتمكنت من إقصاء أو تقليص دور دول أخرى، كدور قطر الذي بات شبه معدوماً حسب ما توضحه المؤشرات، ودور المملكة العربية السعودية الذي أمسى موازياً، نوعاً ما، للرؤية الروسية في الحل، لعدة عوامل أهمها؛ إخفاق المملكة في بلوغ طموحها في تحقيق نفوذ يقزم النفوذ الإيراني في سوريا، واحتكامها للتوافق الاقتصادي مع روسيا حول الإبقاء على ثبات أسعار النفط في ظل التدهور الاقتصادي الملموس الذي تمر به، مع التوصل إلى اتفاق لتزويد روسيا السعودية بمنظومة الدفاع الجوية الروسية المعروفة باسم “أس 400″، وغيرها من العوامل التي جعلت تحقيق النفوذ في سوريا سياسة دُنيا بالنسبة للسعودية.
ما تحاول روسيا تحقيقه اليوم، من خلال عقد مؤتمر سوتشي، هو، على الغالب، إتمام الدرجة الأخيرة من سلم عملية التسوية الخاصة بالأزمة السورية، من خلال تجميع الفصائل، بشتى مشاربها، حول مشروع وطني يصب في صالح رؤيتها
وعلى الأرجح، دفعت هذه العوامل التي تُقيّم في إطار السياسة العليا للمصلحة القومية السعودية، لموافقة روسيا في تحركها لعملية الحل، والتنسيق، من خلف الكواليس، مع الإمارات، عبر رجلها خالد المحاميد، ومصر لعقد مؤتمر الرياض 2 الذي يفرز، إن صح التعبير وكما هو واضح للعيان، المعارضة التي قد تقبل بالرؤية الروسية للحل، عن غيرها، تحضيراً لبيان ختامي تنتقل به المعارضة إلى سوتشي، حسب ما ادعى المحلل السياسي المقرب من المعارضة بسام جعارة.
ولا أخفي موافقتي لهذا الادعاء الذي ظهر مؤخراً من خلال تقارب السعودية وروسيا، وميول الإمارات التي عزفت عن بناء نفوذ واضح في بداية الثورة السورية، إلى بناء نفوذ هناك عبر التوافق مع روسيا، عملاً بالموجة الجيبية التي تعني الكمون في خضم الأحداث، ومن ثم الانطلاق بعد فترة من الزمن. ولعل تداول الساحة أنباء عن توافق روسي ـ إماراتي حول لعب دحلان دوراً في رص صفوف المعارضة وفقاً لرؤية علمانية غير محاكية للطموح التركي، أو معارضة تقبل بالوضع الحالي بعيداً عن المطالبة بتغييرات جذرية، وتأكيد أكثر من تيار سوري معارض، لا سيما تيار الغد المحسوب على الإمارات، موافقته لذلك، خير دليل على رجوح هذا السيناريو. كما أن تجاهل دعوة بعض الشخصيات التي قد ترفض عملية التسوية الجارية في سوتشي، واضطرار 8 من هذه الشخصيات إلى تقديم استقالاتهم، مؤشر آخر للأمر.
إن ما تحاول روسيا تحقيقه اليوم، من خلال عقد مؤتمر سوتشي، هو، على الغالب، إتمام الدرجة الأخيرة من سلم عملية التسوية الخاصة بالأزمة السورية، من خلال تجميع الفصائل، بشتى مشاربها، حول مشروع وطني يصب في صالح رؤيتها. وتتمحور الرؤية الروسية اليوم حول استغلال نفوذها الذي تنامي في سوريا، بعد تدخلها عسكرياً في مسار الصراع السوري، في صياغة حل سياسي يضمن لها نفوذاً ملموساً مقارنة بالدول الفاعلة الأخرى، وبالأخص الولايات المتحدة.
ولتحقيق ذلك، تُجري روسيا تُحركات دراماتيكية تستند بشكلٍ أساسي على توافقها مع الدولتين الضامنتين، تركيا وإيران، عبر اجتماع وزير خارجيتها مع وزراء خارجية البلدين في أنطاليا، الأحد 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، بغرض مناقشة مسائل مرتبطة بالأزمة السورية، لا سيما ملف مشاركة الأكراد في مؤتمر “الحوار الوطني” في سوتشي، وقضية حل الأزمة السورية ما بعد القضاء على “داعش”.
تم تأجيل عقد مؤتمر سوتشي، بسبب مطالبة تركيا عدم مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي، غير أن روسيا لم تتجاهل المعارضة الكردية، بل أبقت عليه، مخافة أن يسير في سياق منفصل، ودعته في إطار أحزاب بدون الاعتراف بالإدارة الذاتية
ومثلما تناقش الأمور الدبلوماسية وفقاً لقواعد الربح والخسارة ونطاق النفوذ من خلال وزراء الخارجية الذين عادةً ما يمهدون الطريق لرؤساء بلدانهم لرؤية أجندة الحوار، ووضع النقطة الأخيرة، يلتقي رؤساء الأركان لتنسيق التحركات العسكرية الميدانية، ومناطق الانتشار العسكري، ونقاط التماس، وغيرها، وهذا ما جمع رؤساء أركان كلاً من روسيا وتركيا وإيران، الثلاثاء 21 تشرين الثاني/نوفمبر، في سوتشي، بغرض تمهيد الوضع الميداني لعملية الانتقال السياسي.
وفي حين تدعي بعض الآراء الوقورة أن استقبال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، جاء في إطار إكسابه الشرعية في ظل مسار مؤتمر “الحوار الوطني”، أخالف هذا الرأي، وأرجح سيناريو حرص بوتين على الاتفاق مع الأسد على محددات عملية التسوية، بما يضمن عدم الإخلال بها بعد القمة الثلاثية التي تجمع به مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والإيراني، حسن روحاني، الأربعاء 22 تشرين الثاني/نوفمبر، والتي يُتوقع أن تتفق على رحيل الأسد، وليس النظام، خلال العملية الانتقالية أو بعدها، وإعداد دستور جديد لسوريا. ويكاد تأكيد البيان الصادر عن مؤتمر رياض 2 الذي أوضح أعلاه هدفه، والذي يحضره مراقبون روس، على ضرورة رحيل الأسد، يشير إلى احتمال قبول روسيا برحيل الأسد، لتأمين عملية الانتقال السياسية من دون عقبات داخلية ودولية.
وتأتي اتصالات بوتين المكثفة مع زعماء المنطقة والعالم، وعلى رأسهم الرئيسين الأمريكي والمصري، والعاهل السعودي، والأمير القطري، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى جانب تبادل وزير خارجيته، سيرغي لافروف، مع نظيره الأمريكي، ريكس تيليرسون، تفاصيل المؤتمر والرؤى، في طور الحراك الدبلوماسي الحريص على تحويل مخرجات سوتشي إلى محددات مقبولة في مؤتمر جنيف.
وبالوصول إلى ملف المعارضة الكردية، تم تأجيل عقد مؤتمر سوتشي، بسبب مطالبة تركيا عدم مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي، غير أن روسيا لم تتجاهل المعارضة الكردية، بل أبقت عليه، مخافة أن يسير في سياق منفصل، ودعته في إطار أحزاب بدون الاعتراف بالإدارة الذاتية. كما لم تتجاهل روسيا دعوة أطراف كردية معارضة للاتحاد الديمقراطي.
استطاعت روسيا، عبر سلسلة محادثات الآستانة، تقزيم دور الدولتين الإقليميتين الأكثر نفوذاً في سوريا، تركيا وإيران
وتقبل تركيا بوفد كردي متنوع، يضم أحزاب المجلس الوطني إلى جانب أحزاب الإدارة الذاتية، فهي تعلم بأنه لا يمكن لها رفض المعارضة الكردية بالكامل، مخافة ميلهم إلى خطط انفصالية فعلية قد تكون مدعومة من قبل الولايات المتحدة، ولعلها مررت نقطة انضمام الاتحاد الديمقراطي، بغية كسب ملف آخر ربما يتجسد في التحرك نحو محيط عفرين أو عفرين ذاتها. إلى جانب ذلك، تؤمن تركيا بأن مشاركة أحزاب كردية معارضة للإدارة الذاتية قد تؤتي أكلها في موازنة ميزان القوى في المناطق الكردية السورية لصالح حل يخلو من عملية الانفصال أو الحكم الذاتي الكامل.
يبدو من المنطق تُوقع خروج مؤتمر سوتشي الذي يضم 33 منظمة وتيار سياسي، بوثيقة مشابهة لإعلان موسكو، تمهد الطريق لخطوات عملية في عملية التسوية، كخطوات مختصة بالعملية الانتقالية والدستور وشكل الدولة وغيره، وإجراء عملية فرز أوسع للفصائل الموافقة على رؤية موسكو الفصائل غير الموافقة، ومن ثم نقل هذا الاتفاق كمبادرة إلى جنيف الذي يُتوقع أن يعقد في 28 من الشهر الجاري، لإكسابه الشرعية الدولية بدون عراقيل. فبخصوص النقطة الأخيرة، تعلم روسيا جيداً أنه يصعُب عليها تطبيق هذه الاتفاقات على المدى الطويل من دون كسب الصبغة الشرعية، وبالأخص في ظل رفض عدد من الدول الكبرى، فرنسا وبريطانيا، حل الأزمة السورية خارج إطار الشرعية الدولية التي قد تمنحهم فرصة لوضع بعض النقاط التي تكفل مصالحهم، نسبياً، على صعيد استراتيجي.
في المحصلة، استطاعت روسيا، عبر سلسلة محادثات الآستانة، تقزيم دور الدولتين الإقليميتين الأكثر نفوذاً في سوريا، تركيا وإيران، وبالأخص بعد اللعب بالورقة الكردية لتهديد الأمن القومي التركي، والواضح هو أنها تمضي، بصبغة الدولة المهيمنة على الملف، من خلال تنسيق جهودها مع العناصر السورية الداخلية والفواعل الإقليمية والدولية، صوب وضع الحجر الأخير من عملية التسوية.
ويبقى التحدي الأكبر أمام روسيا هو التوصل مع واشنطن إلى حلٍ يُبقي على وحدة سوريا، ويكفل لواشنطن وحلفائها حصة من النفوذ السياسي والاقتصادي، والحماية الأمنية، ويُبقي لواشنطن على السيطرة الحدودية في الجنوب الشرقي والشمال الشرقي، وفي ذات السياق، يدفع هذا التحدي روسيا إلى بذل كل جهد لتحويل جميع العناصر لقوى تابعة أو مشاركة لها، لتقوية يدها وأوراقها ضد الولايات المتحدة. وإن نجحت روسيا في إنهاء القضية السورية وفق ذلك، فإن نظرية إلكسندر دوغين “رأس بوتين” حول انتصار القوة البرية “روسيا” على القوة البحرية “الغرب” في سوريا للمرة الثالثة بعد حرب الشيشان الثانية وأوسيتيا في جورجيا تصبح واقع.