يحبس العالم أنفاسه ترقبًا لرد طهران المحتمل على استهداف “إسرائيل” سفارتها في العاصمة السورية دمشق مطلع الشهر الحاليّ، الذي أسفر عن مقتل 7 بالحرس الثوري الإيراني، بينهم الجنرال محمد رضا زاهدي، أحد أبرز قياديي الفيلق، وسط تقارير تشير إلى أن الرد قد يكون وشيكًا.
وكانت صحيفة “فايننشال تايمز” الأمريكية، قد نقلت الجمعة 12 أبريل/نيسان 2024، عن مصدر مطلع لم تسمه أن واشنطن أبلغت حلفاءها أن انتقامًا إيرانيًا من “إسرائيل” قد يكون وشيكًا، محذرة من أن الضربة ربما تكون ذريعة لتوسعة دائرة الصراع في الشرق الأوسط.
🔵 الرئيس الأميركي، #جو_بايدن، يقول إنه يتوقع أن تهاجم #إيران إسرائيل "عاجلا وليس آجلا"، ويحذرها من المضي قدما في ذلك.
🔵 عندما سأله صحفيون عن رسالته لإيران، قال بايدن: "لا تفعلوا"، مؤكدا التزام واشنطن بالدفاع عن #إسرائيل. وأضاف "سندعم إسرائيل. سنساعد في الدفاع عن إسرائيل ولن… pic.twitter.com/M3YkcxGUSD
— قناة الحرة (@alhurranews) April 13, 2024
وتخيم حالة من القلق المصحوب بالتجييش العسكري والسياسي على كل من تل أبيب وواشنطن، إزاء الرد الإيراني المتوقع، وسط تقليل البعض من حجم وتأثير هذا الرد خاصة بعد افتقاده لعنصر المفاجأة، إثر تسريب موعده المحتمل الذي كشفت عنه الصحيفة الأمريكية.
وفتح خطاب الوعيد الساخن، وإعلان إيران نيتها الانتقام لاستهداف قنصليتها في دمشق، الباب على مصراعيه أمام السيناريوهات المحتملة لحجم وطبيعة هذا الرد، وسط تحذيرات إقليمية ودولية من تبعات تلك الخطوة إذا تجاوزت خطوطها الحمراء.. فما خيارات طهران الانتقامية المحتملة؟
الرد لم يعد خيارًا.. طهران في مأزق
لم يكن زاهدي الذي قتل في عملية القنصلية الأخيرة، القيادي الإيراني الوحيد الذي استهدفته قوات الاحتلال، رغم أنه ربما يكون الأبرز منذ استهداف قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في بغداد مطلع 2020 على أيدي القوات الأمريكية، إذ تلقت طهران منذ بداية حرب غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي ضربات موجعة على أيدي “إسرائيل”، أسقطت عددًا من كبار قادتها في الحرس الثوري داخل سوريا خلال الأشهر الست الماضية.
ففي يناير/كانون الثاني الماضي، استهدف الاحتلال عبر غارة جوية على مبني بحي المزة غرب دمشق، مسؤول استخبارات الحرس الثوري وفيلق القدس في سوريا، حجت الله أميدوار، وهي الضربة التي اعتبرها البعض حينها خسارة كبيرة للحرس الإيراني.
وقبلها في ديسمبر/كانون الأول الماضي استهدفت ضربة صاروخية إسرائيلية مسؤول الإمدادات لقوات الحرس الثوري في سوريا العميد رضا موسوي، أحد الأذرع الرئيسية التي كان يعتمد عليها سليماني والذي رافقه في الساعات الأخيرة قبل أن يُقضى عليه إثر ضربة جوية في العاصمة العراقية بداية 2020.
وأوقع هذا الاستهداف المتتالي لجنرالات الحرس الثوري على أيدي الإسرائيليين، طهران، في مأزق وحرج كبير أمام الشارع الإيراني من جانب والمجتمع الإقليمي والدولي من جانب آخر، حيث تعرضت صورتها الخارجية كإحدى القوى المؤثرة إقليميًا للتشويه وبات عليها الرد حفاظًا على ماء الوجه الذي تعكر بفعل تلك الضربات دون رد.
#عاجل | الخارجية الإيرانية: الكيان الإسرائيلي يحاول بشكل خطير توسيع دائرة الحرب ويضحي بالأمن والسلم لتحقيق أهدافه pic.twitter.com/LoS1PnROUn
— قناة الجزيرة (@AJArabic) April 2, 2024
ونسفت عملية استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، الإستراتيجية التقليدية التي كان يتميز بها مسار المواجهة بين طهران وتل أبيب، فبعد سنوات طوال انطوت خلالها تحت ستار “حروب الظل”، دخلت المواجهة بتلك العملية مرحلة جديدة ربما تكون أكثر سخونة، بعدما بات اللعب على المكشوف ودون أي مقاربات سياسية.
وإزاء هذا الموقف الحرج توعد رؤوس الهرم الديني والسياسي في طهران دولة الاحتلال بالرد والانتقام على تلك العمليات النوعية، البداية كانت مع المرشد علي خامنئي الذي كتب عبر منصة إكس منشورًا باللغة العبرية، قال فيه “بعون الله، سنجعل الصهاينة يأسفون على جريمتهم العدوانية ضد القنصلية الإيرانية في دمشق”، أعقبه تصريح للرئيس إبراهيم رئيسي أكد فيه أن الضربة الإسرائيلية “لن تمر من دون رد” وأنه على تل أبيب أن تُعاقب على مهاجمتها القنصلية الإيرانية في دمشق.
كما دخل الحرس الثوري على خط التهديد هو الآخر حين توعد بـ”تحقيق المطلب الوطني بمعاقبة العدو الصهيوني المجرم بما نجعله يندم لارتكابه الجريمة الجبانة الأخيرة في دمشق”، أما وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، فاعتبر أن رد بلاده المحتمل على قصف “إسرائيل”، “دفاعًا مشروعًا لمعاقبة المعتدي”، واصفًا إياه بـ”الضرورة”.
وأمام هذا السيل الجارف من الوعيد، وخطاب التهديد المتصاعد، لم تعد إيران تملك رفاهية الاختيار، إذ ليس أمامها إلا الانتقام لعملية القنصلية الأخيرة، في محاولة لرد اعتبارها واستعادة صورتها التي تعرضت لتشويه غير مسبوق خلال الأشهر الست الماضية، لكنها في الوقت ذاته مقيدة بمقاربات عدة تجبرها على عدم توسيع دائرة المواجهة مع “إسرائيل” والولايات المتحدة، الأمر الذي يضعها في مأزق آخر أمام سيناريوهات الرد المحتملة.
سيناريوهات الرد
ينقسم الرد الإيراني المتوقع إلى قسمين: من حيث المصدر، ومن حيث الإستراتيجية.
من حيث المصدر
قد يكون الرد عبر طهران بشكل واضح، وهنا تدخل إيران بشكل علني في حرب مباشرة مع “إسرائيل”، الأمر الذي قد ينطوي عليه تبعات وتداعيات ربما لا ترغب البلدان فيها في هذا التوقيت، وعليه قد يكون هذا الخيار مستبعدًا في الوقت الراهن إلا إذا كان الرد هامشيًا ضعيفًا لا يرتقي إلى درجة استفزاز دولة الاحتلال، خاصة إذا نجم عنه إصابات مباشرة.
أما الخيار الثاني فقد يكون الرد عبر وكلاء إيران في المنطقة، كما هو الحال منذ بداية الحرب على غزة، إما عبر حزب الله في لبنان وإما عبر الحوثيين في اليمن أو عبر وكلائها في العراق، وهي الأذرع التي دخلت من خلالها طهران في الحرب بشكل غير مباشر طيلة الأشهر الست الماضية ونجحت في تحقيق الكثير من الأهداف في مرمى الإسرائيليين، وهو الخيار الأكثر ملاءمة وموضوعية.
من حيث الإستراتيجيات، وينقسم إلى 4 مسارات:
– استهداف مقار عسكرية وسياسية في داخل “إسرائيل” دون وقوع أضرار، والاكتفاء بإحداث تلفيات في المباني المستهدفة وتجنب إيقاع خسائر في الأرواح، وهو ما استعدت له تل أبيب خلال الساعات الماضية.
– استهداف مصالح الكيان المحتل في البحر والخليج العربي، مثل حقول الغاز والسفن التجارية، وذلك عن طريق الميليشيات الإيرانية بشكل مباشر أو عبر وكيلها الحوثي، وهو ما بدأت إرهاصاته تلوح في الأفق، حيث أعلن الحرس الثوري الإيراني استيلائه على سفينة تجارية في الخليج العربي يُقال إنها تابعة لـ”إسرائيل”.
– استهداف قواعد عسكرية إسرائيلية وأمريكية في المنطقة، كما فعلت قبل ذلك في 28 يناير/كانون الثاني الماضي حين استهدفت جماعة عراقية مدعومة من طهران، عبر طائرة مسيرة، تمركزًا لجنود أمريكيين بالقرب من موقع البرج 22 على الحدود السورية الأردنية، ما أسفر عن مقتل 3 من أفراد الخدمة الأمريكية وأصابة 25 آخرين.
لحظة الاستيلاء على سفينة يرجح أنها مملوكة لرجل أعمال إسرائيلي ومصادر عسكرية عبرية تتهم #إيران بالعملية pic.twitter.com/E51lJcxAjg
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) April 13, 2024
وتستند طهران في هذا الخيار إلى اعتبار أن واشنطن شريك أساسي في عملية القنصلية كما يقول قادتها، وهو السيناريو الذي قد يغير خريطة الصراع في الشرق الأوسط ويشعل المنطقة بأكملها، إذا تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تضع سمعة أمريكا على المحك، وعليه ربما يكون خيارًا بعيدًا إلى حد ما، رغم إبلاغ طهران حكومات عربية بأنها قد تستهدف القواعد الأمريكية حال تدخلت واشنطن بعد أي هجوم إيراني على “إسرائيل”، وفق ما نقل موقع “أكسيوس” عن مسؤولين أمريكيين.
– الرد بالمثل عبر استهداف القنصليات والسفارات الإسرائيلية في الخارج، وهو السيناريو الذي ربما يوقع طهران في أزمة سياسية مع الدول التي تحتضن تلك المقار الدبلوماسية فوق أراضيها، وبالفعل بدأت تل أبيب في التعامل مع هذا الاحتمال عبر تفريغ بعض سفاراتها في الخارج من العاملين بها، كما حدث مع سفارتها في هولندا.
توقيت الرد.. علامة استفهام
تكتسب الردود الانتقامية أهميتها وتأثيرها من عنصر المفاجأة الذي يمنحها الزخم والحضور الفعال، ويصيب الخصوم بحالة من الارتباك والفوضى وفقدان التوازن، ما يسفر عن حدوث إصابات مباشرة وبالغة، وهو ما حدث مع عملية طوفان الأقصى، وكذلك استهداف مقر القنصلية الإيرانية في دمشق.
ومن ثم فإن أي رد محتمل فاقد لهذا العنصر يتحول بشكل طبيعي إلى رد هزلي، وهو ما يفسر حالة السخرية التي صاحبت تسريبات صحيفة “فايننشال تايمز” الأمريكية بشأن موعد الرد الإيراني المحتمل وتوقيته بشكل دقيق في غضون يوم أو يومين حسب الصحيفة، ما دفع الاحتلال إلى اتخاذ الحيطة الكاملة والاستعداد لكل السيناريوهات، الأمر الذي يجهض الرد قبل حدوثه.
وهنا باتت طهران في مأزق آخر بسبب التوقيت:
– إما أن تلتزم بسياستها القديمة في عدم الانتقام الفوري على ما تتعرض له من ضربات، سواء على أيدي الأمريكان أم الإسرائيليين، وانتظار التوقيت والمكان المناسبين لتنفيذ ضربتها الانتقامية، في محاولة لتوفير عنصر المفاجأة الذي يلعب دور البطولة في مثل تلك العمليات.
– وإما الرد سريعًا حتى لو تم تسريب التوقيت، حفاظًا على ماء وجهها وسمعتها التي تلطخت بسبب استهداف كبار قادتها ومقر قنصليتها في دمشق، وهي العمليات التي تتطلب الانتقام السريع غير المؤجل، وإلا تفقد الدولة هيبتها وربما نفوذها.
ربما يكون تسريب وقت الرد الذي نشرته الصحف الأمريكية وردده الرئيس جو بايدن بنفسه نوعًا من الحرب النفسية التي تشنها طهران ضد تل أبيب وواشنطن، لإرباكهما واستنزافهما، كما جاء على لسان المستشار العسكري للمرشد الإيراني علي خامنئي، الجنرال يحيى رحيم صفوي، لكن يبقى هذا الاحتمال قيد التخمين غير المستوثق والقراءات الغيبية التي ستكشف حقيقتها الساعات القادمة.
وفي الأخير، فإن إيران ورطت نفسها بخطاب الوعيد والتهديد المتصاعد الذي تبنته بعد عملية القنصلية، وعليه فما عاد أمامها من سبيل إلا الرد، إما في غضون ساعات وإما أيام، وهو ما تشير إليه كل التقديرات السياسية والعسكرية، لكن طبيعة هذا الرد ونوعيته وتأثيره، هو ما سيرسم ملامح طهران خلال المرحلة المقبلة، إما دولة قادرة على الانتقام لتساقط قادتها واحدًا تلو الآخر، بما يحفظ ماء وجهها، وإما الإبقاء عليها كـ”قنبلة صوتية” لا تجيد إلا لغة الجعجعة والتهديدات الفارغة.