“لا تكن كالمنافقين يحسبون أن بمقدورهم أن يطمسوا خداعهم بالصراخ بكلمات القرآن” – الشاعر الإيراني حافظ- بهذه الكلمات ابتدأ فيلم “رجم ثريا-The Stoning Of Soraya” المقتبس عن رواية حقيقية بنفس الأسم للصحفي الفرنسي ذات الأصل الإيراني “فريدون صاحب جم”، عن إمرأة إيرانية نفذ فيها الإعدام بالرجم في العام 1986.
هذا المقال ليس سردًا للفيلم أو الرواية، إنما هو انفجار مشاعر محتقنة لإمرأة تعيش واقع مظلم، عاشته “ثريا” من قبل، وتعيشه ملايين النساء يوميًا في كافة بقاع الوطن العربي، لعل صرخاتنا تجد مستقرًا لها تسكن إليه.
الجزء الأول (قبل تنفيذ الجريمة): نباح كلاب.. مؤامرات رجال
أن يكون كل شيئًا مُستعبَد، أن يكون المرء بكيانه، بأحلامه، ملبسه، مأكله، نطقه للكلمات، نبرة صوته، نظراته، كل ما يخصه ملك شخص آخر، شخص أورثت إليه القوة والسلطة للتحكم في كل شيء، وإذا أُبدي ذلك الشخص المُستعبَد اعتراضه على ذلك الإستعباد والتحكم، ينقلب عليه المجتمع بكافة أطيافه، ينهال عليه بالضرب والسب، يزجّره على فعل اعتراضه، واللطفاء منه.. يربّتوا على كتفه مرددين: أصمت.. وارضى بما كُتِب لك.
“إن هذا العالم هو عالم الرجال”، جملة نطقها علي زوج ثريا ليعلن لأولاده حقهم في امتلاك كل شيء، واستعباد كل إمرأة ستمر في حياتهم، أخواتهم الصغيرات ينظرن في رعب لأمهن ثريا وما يحدث لها من والدهن، ثم يلتفتن لأشقائهن ولسان حالهن يقول: “سنكبر قليلًا وسنعيش تلك المأساة بحذافيرها”.
هذا المشهد تسبب في تمزيقي، من جهة حين أفكر كيف يمكن لأفكار ابتدعها بشر أن تسبب كل تلك المعاناة؟ كيف تتعايش الفتيات والنساء في الوطن العربي كل يوم مع كونهن كائنات واجبة الضرب والقتل إن تفوهن بكلمة فوق الحد المقبول، إن فكرن أنه بإمكانهن اختيار شكل ملبسهن، دراستهن، إن حاولن التفكير اصلًا، إن ضحكن، إن مارسن حياتهن بشكل طبيعي كما يمارسه أي إنسان، أي قسوة سمحت لكائن من كان أن يتلذذ بعذاب الآخرين هكذا؟! وبأي حق يُفرض علينا نحن النساء هذا التسلّط؟
ومن جهة أخرى، لأني أفهم ما مرّت به ثريا من استعباد، أنا إمرأة تعيش في مجتمع عربي سلطوي ذكوري، يرى أن النساء ملكية خاصة لرجاله، بل ترى بعض نسائه وجوبية تلك الملكية! وهذا يجعلنا نلتفت لمفهوم “الذكورية” وأنها ليست فقط متعلقة بأدمغة الرجال، ولكن هناك أيضًا نساء يمارسن الفكر الذكوري على بعضهن، ودائمًا يرددن: “كلنا اتربينا كده”.
هل يتصرف بعض رجال الدين بالشرع كما يحلو لهم، وفقًا لأهوائهم الخاصة، يبيحون هذا ويحرمون ذاك، طالما الحالة تخدم مصلحتهم أو مصلحة أشخاص يهمهم أمرهم؟
كل هذا يصيب المرء بالإضطراب، غالبية النساء في الوطن العربي منذ مولدها وحتى شيبها تتعرض للترهيب والعنف والتحرش والإعتداءات، بدءاً من بيتها وسط أهلها، مرورًا بالشارع، والعمل، وانتهاءًا ببيت الزوجية، ثم بعد ذلك وبكل بجاحة، يخرج علينا من يقول أن النساء هم مصدر الشرور والشهوات في العالم!
ثريا تذهب لبيت خالتها زهرة ممزقة الشفاه إثر صفعة من زوجها، “ّإذًا فهو الطلاق” تخبرها خالتها، فترد أنه لن ينفق عليها هي واولادها قرش واحد.. ثم ينتهي المشهد بقول ثريا أنها لن تترك بناتها يعانين من تحرش الرجال في البيوت التي سيخدمن بها مثلما تعرضت لذلك في صغرها.
من منتصف الفيلم تبدأ المؤامرة ضد ثريا، يتدخل زوجها (علي) والملا (حسن) شيخ القرية، ومحافظ القرية، لإقناعها بالعمل في بيت رجل توفت زوجته توًا، ولا يوجد من تخدمه هو وابنه.
توافق ثريا لحبها لهذه العائلة، ولأن زوجة الرجل كانت صديقتها المقرّبة، ولأنها تحتاج إلى المال لتصرف على أبنائها في حين طلاقها من زوجها، تبدأ من هنا إحاكة المؤامرة ضدها، واتهامها بالزنا مع الرجل الذي تخدم في بيته، يجب علينا هنا أن نتوقف لنستعرض تناقض المجتمع الذكوري الأبوي السلطوي عامةً، والمجتمع الإيراني خاصةً.
من البداية وافقوا على عمل ثريا لدى الرجل في بيته، بل هم من اقترحوا الفكرة، وافق رجل الدين أن تدخل إمرأة إلى بيت رجل غريب وتبقى ببيته لوحدهما فترة من الوقت كل يوم! أليس الدين ينهى عن اجتماع رجل بأمرأة في مكان بمفردهما؟ سيجيب البعض أن ابن الرجل كان يظل بالبيت لفترة كبيرة، ولكن ابنه فتى بعقله بعض الإختلال ويكاد لا يدرك أي شيء، فوجوده مثل عدمه.
هذا يوجهنا للتساؤل الآتي: هل يتصرف بعض رجال الدين بالشرع كما يحلو لهم، وفقًا لأهوائهم الخاصة، يبيحون هذا ويحرمون ذاك، طالما الحالة تخدم مصلحتهم أو مصلحة أشخاص يهمهم أمرهم؟ أين “الأوامر اللاخلاف في أمرها” ويجب تنفيذها كما هي؟ الأمر الأكثر خطورة من ذلك، الجماهير التي تتعلق بطرف عباءة رجال الدين، يسوقونهم كما يسوقون الأنعام، يقول رجل الدين: هذا الأمر لا خلاف عليه ومرفوض رفضًا تامًا في الدين، فيردد الجماهير نفس العبارة وينفذون الأمر، ثم يخرج عليهم نفس رجل الدين غدًا ليخبرهم أن نفس الأمر أصبح ممكن الحدوث، وغير مرفوض تمامًا، فتعود الجماهير تردد نفس الكلام ويصبحوا أكثر مرونة مع الأمر.
تُنتهك المرأة بصورة علنية وتبريرية في مجتمعاتنا
يذكرني هذا باستراتيجية السيطرة على الجماهير كما تنبأ بها جوررج أورويل في روايته “1984”، كيف استطاعت الحكومة بقيادة “الأخ الأكبر” تطويع الأفكار والسيطرة على الجماهير لصالحها، فكانت الحكومة تخرج ببيان في يوم عن أن دولة ما هي دولة عدوة ويجب محاربتها، تنشر الجرائد، ويتحدث الإعلام عن فساد تلك الدولة، ثم في يوم آخر ينقلب كل شيئ، فجأة تصبح تلك الدولة العدوة دولة صديقة، تسحب الجرائد التي تحدثت بالأمس عن شرور تلك الدولة ويتم استبدالها بجرائد تتحدث عن عظمتها وتحالفها منذ الأمد مع الحكومة.
قلت أنها إستراتيجية تنبأ بها جورج أورويل لأنها ببساطة تحدث في عصرنا هذا، والدليل على ذلك ما حدث في السعودية في الآونة الأخيرة، من قرارات حكومية ودينية تحلّل قيادة المرأة، بعد أن كان ذلك يعدّ فعل شيطاني تضرب فيه المرأة السعودية في الشوارع وتحبس إن قامت به.
الأمر الآخر الذي لفت انتباهي، عند اتهامهم لثريا بالزنا لم يأتوا على ذكر أن الرجل الذي قامت بالزنا معه شريك معها في ذلك، أسقطوا عليها التهمة بمفردها، وقالوا أنها أغوته لذلك فهي تستحق أن يُصَبّ عليها كامل الغضب والعذاب، لم يلتفتوا حتى لإشراكه في العقاب، هذا يجعلنا نقفز قفزة زمنية إلى المجتمع المصري الآن وتعامله مع جريمة التحرش الواقعة على المرأة المصرية، واتهامه لها بإنها السبب فيما تعرضت له من أذى وانتهاك، وأن الرجل المصري ضحية للغلاء المعيشي الذي يترتب عليه صعوبة الزواج مما يجعله متحفز دائمًا جنسيًا تجاه أي أنثى تعترض طريقه، موجهًا الإتهام لجسد المرأة التي تتمادى في إظهاره متعمدة حتى تلفت الأنظار لها!
نعم هذا هو الواقع الآن منذ مئات السنين وحتى القرن الحادي والعشرين، وهكذا تُنتهك المرأة بصورة علنية وتبريرية في مجتمعاتنا.
الجزء الثاني (تنفيذ الجريمة): “الشيطان بأم عينه زار هذه القرية”
“عندما يتهم الزوج زوجته، عليها أن تثبت برائتها، هذه مسؤولية الزوجة حسب القانون والشرع، بينما إذا اتهمت الزوجة زوجها، عليها أن تثبت إدعائها”.
هذا كان رد إبراهيم محافظ القرية على ثريا حينما صرخت باكية بأن زوجها من اتهمها بالزنا، فعليه أن يثبت ذلك بالأدلة، هكذا كان القانون في إيران، وهكذا يتم تطويع الشرع لفرض الهيمنة الأبوية وخدمة المصالح الشخصية.
أراد علي تطليق ثريا دون الإنفاق عليها وعلى بناتها ليتزوج بأخرى تصغره بعشرين عامًا، أحاك المؤامرة، أطلق الشائعة، ألصق التهمة بها، انهال ضربًا على زوجته أمام كل من بالقرية، وقفوا متفرجين يمصمصون الشفاه، لم يستحقوا أن يُبذل أي مجهود حتى يصدقوا الشائعة، لقد ابتلعوا همهماتهم مرددين “زانية”.. وذهبوا كلٌ إلى بيته ليكملوا غزل الشائعة على طريقتهم الخاصة.
سيكولوجية التأثير على الجماهير، كيف تحمسهم كلمة، وكيف كلمة أخرى تجعلهم يتخبطون، هذا يحدث دائمًا في المجتمعات المنغلقة ضئيلة الوعي، المسيطر عليها الفكر الأبوي، لا أقصد هنا المجتمعات المتدينة فقط
أُصدر الحكم برجم ثريا
الكل يتجهز لتنفيذ الجريمة، يركض الأطفال كأنهم في عيد لجمع الحجارة، يتبارون أيهم يجمع حجارة أكثر.. وحجارة أكبر، ثلاثة رجال يبدأون في حفر حفرة عميقة لوضع ثريا بها، يُشذب المُلا حسن لحيته عند الحلاق استعدادًا للحدث الكبير، يصلي المحافظ إبراهيم داعيًا الله أن يباركه ويساعده لتنفيذ الحكم،
حُبست ثريا في بيت خالتها زُهرة، حاوط المنزل مليشيات الثورة المعنيين بتنفيذ الحكم، تجلس ثريا أمام فتياتها، تحفر قبلاتها عليهن، تودِع روحها وذكرياتها لديهن، “هل أنتِ خائفة؟” تسألها زُهرة.. فتقول: “ليس من الموت، ولكن من لحظة الموت.. بالحجارة، ومن الألم”، ينفتح الباب ويدخل الرجال لأخذ ثريا.
“الله أكبر.الله أكبر” ترددها الذئاب البشرية وثريا تسير وسطهم رافعة الرأس، يخبطون الحجارة ببعضها كإعلان لقرب تنفيذ الحكم، “سيعود للقرية سمعتها مع كل حجارة تُرمى بها” هكذا يردد المُلا حسن في خطبته، تُقيد ثريا بالحبال، تُلقى في الحفرة، ويُردم عليها التراب حتى منتصفها، ثم تبدأ مبارة إلقاء الحجارة عليها.
يتضح من مشهد الرجم هذا أن هناك قاعدة يرتكز إليها حكم الرجم في إيران، أن يبدأ المقربون من المرأة برجمها أولًا، كوسيلة للتبارك في تنفيذ حكم الله، ونزع العار الذي ألصق بهم، ثم يأتي بعدهم دور بقية الرجال، يمسك والدها حجرين ويلقي أولهما عليها.. فلا يصيبها، يلقي الآخر، أيضًا لا يصيبها، تصرخ إمرأة عجوز من الخلف أن هذه علامة من الله أنها بريئة، فيصمت الكل يفكرون: هل من الممكن أن يكون ذلك صحيحًا؟
يجعلنا هذا نلتفت مرة أخرى إلى سيكولوجية التأثير على الجماهير، كيف تحمسهم كلمة، وكيف كلمة أخرى تجعلهم يتخبطون، هذا يحدث دائمًا في المجتمعات المنغلقة ضئيلة الوعي، المسيطر عليها الفكر الأبوي، لا أقصد هنا المجتمعات المتدينة فقط، ولكن هناك بعض المجتمعات التي تدعي التقدمية والتحرر في ظاهرها يقع عليهم مثل هذا التأثير، لا يستطيعون تفنيد الحقائق وتحليلها، يتلقوا الكلام من فم أحدهم فيصدقونه كما هو.
استغرق العالم ما يقرب من عشرة أعوام ليعلموا بقصة ثريا، نشر “فريدون” روايته في العام 1994، حكى في مقدمة الرواية أن إيران اتهمته بأنه “شن حربًا على الله” بهذه الرواية، فكل من يظهر الحقيقة ويقول “لا” في وجه الطغاة كافر يجب قتله
يلتفت علي زوجها إلى تخبط الناس، فينتزع الحجارة من أبيها ويأخذ دوره في الرمي، تصيب الحجارة ثريا في منتصف جبهتها، يهلل أهل القرية، ويصفقون له كمن أحرز مكسبًا في مسابقة ما، ثم يأتي دور الملا حسن، ثم أبنائها، ثم هاشم.. الزوج الذي أُتهمت بفعل الزنا معه! الرجل الذي اتهمهها بإغوائه وممارسة الجنس معه، الرجل الذي غفر أهل القرية له فعل الزنا لأنه رجل فقط، بل وكرّموه بإعطائه فرصة لرمي من مارس معها الجنس بالحجارة، هذا مجتمع مختلّ ببساطة، معاييره مختلة، عقله مختل، قسوته هي المعيار لكل شيء.
تسابق الذئاب في نهش ثريا، صبوا عليها غضبهم ووحشيتهم وضعفهم، غمر الدم ثوبها الأبيض فأحاله إلى الأحمر. هناك لحظة يمر بها المرء عند تعرضه المستمر لألم بعينه، تتوقف فيه حواسه كلها عن العمل، ويتبقى لديه الخيال الذي يتمكن من إخراجه من الألم الذي يعيشه، تصمت كل الموجودات حول ثريا، ترى بعين خيالها نفسها وبناتها يسرن في حقل أخضر، يتقافزن كالغزلان بحرية، يضحكن دون أن تُسلّط عليهن سياط المجتمع.. ثم تموت.
الجزء الثالث (بعد تنفيذ الجريمة): “العالم كله سيعرف”
في آخر مشهد يجعلنا ننزف قهرًا، يفاجئ (علي) الجميع بأن زواجه قد أُلغي، الزواج الذي دفعت ثريا من روحها ودمائها ثمنًا لإتمامه، ألغي بكل بساطة، وتحسّر (علي) على زفافه المُلغى ثم مضى لإكمال حياته بصورة عادية، ثم فجأة تضح الصورة أن كل هذا كان مؤامرة لإتمام ذلك الزواج وأن ثريا بريئة! أتراجع عن قولي عن أنه مشهد يجعلنا ننزف قهرًا، إنه يجعلنا نشمئز تقززًا من كل هذه النطاعة.
وفي النهاية تصرخ زُهرة “العالم كله سيعرف”، بعد أن حكت للصحفي “فريدون صاحب جم” كل شيء.. نعم العالم كله سيعرف.
استغرق العالم ما يقرب من عشرة أعوام ليعلموا بقصة ثريا، نشر “فريدون” روايته في العام 1994، حكى في مقدمة الرواية أن إيران اتهمته بأنه “شن حربًا على الله” بهذه الرواية، فكل من يظهر الحقيقة ويقول “لا” في وجه الطغاة كافر يجب قتله.
تريلر الفيلم
لم تنتهي جرائم إيران بحق المرأة ولن تنتهي، في العام 2014 أُعدمت “ريحانة جباري” باتهامها بقتل ضابط مخابرات سابق كان يحاول اغتصابها، لم تلتفت المحكمة والمحققين إلى أي أدلة حول اتهام “ريحانة” بتعرضها للإغتصاب، بالطبع! فعلى المرأة أن تثبت إدعائها حين ترمي رجل بتهمة، وعليها ايضًا أن تثبت برائتها عند رمي رجل لها بتهمة.
لم تنتهي جرائم المجتمع العربي بحق المرأة، ولن تنتهي إلّا بانتزاع الحق نزعًا، عزائنا الوحيد في قوتنا، صرخاتنا الرافضة للقمع، حكينا لكل انتهاك نمر به، ومقاومتنا المستمرة.. ومقاومتكن المستمرة.