ما فتئ عديد المسؤولين التونسيين يؤكّدون تغلغل الفساد في مؤسسات الدولة وسيطرته عليها ما أدّى إلى اضعافها وفقدانها لقوّتها، أخر هؤلاء المسؤولين الرسميين، كان رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (دستورية) شوقي الطبيب، الذي أكّد تفشي الفساد” في عدد من المؤسسات العمومية التونسية، منتقدا عدم تقديم “عدد هام من الوزارات” ملفات فساد إلى القضاء طيلة العام الماضي.
أرقام مفزعة
شوقي الطبيب أكّد أمس خلال ندوة صحفية نظمتها الهيئة لتقديم تقريرها السنوي لعام 2016، أن أغلب الشركات والمؤسسات العمومية التي تحتكم على موارد مالية هامة قد “نخرها الفساد”، وأكّد الطبيب أن الهيئة التي يرأسها قد أحالت 94 ملف فساد على القضاء بين مايو وديسمبر العام الماضي بعد فرز قرابة 14 ألف ملف في خزائن الهيئة. وورد على هيئة مكافحة الفساد التونسية خلال السنة الماضية فقط 9027 ملفا، من بينها 958 أحيلت إليها من رئاسة الحكومة، حسب ما كشفه تقرير الهيئة الذي عُرض أمس والذي يعدّ التقرير السنوي الأول لها منذ إحداثها في 14نوفمبر 2011، وأوضح التقرير أن نسبة العرائض التي قدمها أشخاص بمفردهم تمثّل 66 % من العرائض التي وردت على الهيئة.
نظرت الهيئة في 5308 ملفًا منذ 2011 تعلقت بجرائم فساد واعتداء على المال العام خلال حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي
وتتعلق جل الملفات المحالة على القضاء، حسب شوقي الطبيب بالشركات والمؤسسات العمومية التي يشتبه بوجود شبهات فساد كبيرة داخلها، تتعلق باستغلال نفوذ واختلاسات وارتشاء، ومن بين هذه المؤسسات العمومية التي “نخرها الفساد”: الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، وشركة الكهرباء والغاز، وشركة الخطوط التونسية، والصناديق الاجتماعية، ومؤسستا الإذاعة والتلفزيون.
وأكّد رئيس الهيئة أنّ الجرائم والتجاوزات المتعلقة بالفساد التي تمّ رصدها في الماضي ماتزال متواصلة في الحاضر، وتتعلق هذه التجاوزات بالإنتدابات والشراءات العمومية، مشيرا إلى أنّ بعض المسؤولين يتصرّفون في أموال اؤتمنوا عليها وكأنّها أملاك خاصة، على حدّ تعبيره، وقبل ذلك قال الطبيب، إن الفساد شمل جميع أوجه الحياة في تونس، وأضاف في تصريحات لاحقة أن من وصفهم بـ “بارونات الفساد” اخترقوا القضاء والإعلام ووزارة الداخلية والأحزاب والجمارك وحتى مجلس النواب من أجل الإفلات من المحاسبة.
وأنشأت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس بعد الثورة من أجل النظر في التجاوزات التي وقعت في ظل نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي سواء على المؤسسات أو على الأفراد، بالإضافة إلى حالات الفساد التي وقعت بعد الثورة، وهي هيئة دستورية مستقلة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي. ومن المتوقع أن تعوض هذه الهيئة بـ”هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد”، وفق ما نص عليه الفصل الـ130 من الدستور التونسي. ولم يحدد الدستور موعد تركيز هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.
رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (دستورية) شوقي الطبيب
وحسب التقرير ذاته، فقد “نظرت الهيئة في 5308 ملفًا منذ 2011 تعلقت بجرائم فساد واعتداء على المال العام خلال حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (1987 /2011) ورثتها عن لجنة تقصي الحقائق (مستقلة أحدثت في 2011)، تم إحالة 47 ملفًا منها على هيئة الحقيقة والكرامة (دستورية مستقلة) المعنية بالعدالة الانتقالية“. كما سجلت الهيئة “1729 شكاية فساد مالي وجرائم اقتصادية وتعلقت 140 شكاية منهم بالصفقات العمومية ووصلت نسبة الشكايات ضد الأشخاص العاديين 37 ℅ بينما 21 ℅ منها ضد مؤسسات عامة وخاصة”، حسب ذات التقرير.
وفي نهاية يونيو/حزيران الماضي، أشارت دائرة المحاسبات (هيئة رقابة حكومية)، أن 27 مؤسسة حكومية من بينها المجلس الوطني التأسيسي، والمعهد الوطني للإحصاء، والشركة الوطنية للنقل بين المدن، أساءت التصرف في المال، وبها شبهات فساد مالي، وفق تقرير رقابي عن أعمالها لمدة أربع سنوات بين 2010 و2014.
خسائر كبيرة
قبل يوم من عرض هذا التقرير، قال رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقى الطبيب، إن نسبة الخسائر التي تتكبدها الدولة التونسية جراء تفشي مظاهر الفساد وغياب آليات الحوكمة المتعلق بالصفقات والشراءات العمومية تقدر بألفي مليون دينار في السنة (نحو 820 مليون دولار). وكان الطبيب قد اتهم في وقت سابق، ما أسماه “الإدارة العميقة بعرقلة أي نفس إصلاحي في مؤسسات الدولة وأجهزتها لمكافحة الفساد، ووضع الحواجز أمام عمل الهيئات المستقلة”، وقال “الطبيب” حينها، إن “الإدارة العميقة تضع العراقيل والحواجز أمام أي نفس إصلاحي في مؤسسات الدولة والهيئات المستقلة لمكافحة الفساد”، والمقصود بالإدارة العميقة حسب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، “الإدارة المستفيدة من عمليات الفساد، ولا ملامح واضحة لها”.
في يونيو الماضي، بدأت الحكومة حملات توقيف ومصادرة أملاك وأموال لعدد من رجال أعمال يشتبه بتورطهم في قضايا فساد
وتعدّ مكافحة الفساد من بين الأولويات الرئيسية لحكومة الوحدة الوطنية التي استلمت مهامها في أغسطس 2016، إذ كانت من بين المبادئ التي تضمّنتها وثيقة قرطاج التي كانت قاعدة على أساسها تأسست حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الشاهد، وفي شهر يونيو الماضي، بدأت الحكومة حملات توقيف ومصادرة أملاك وأموال لعدد من رجال أعمال يشتبه بتورطهم في قضايا فساد وتهريب وتهديد أمن الدولة العام.
غياب استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد
منذ سنة 2012، بدأ الحديث عن وضع استراتيجية وطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد في تونس، لكن منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، بقي الموضوع مجرد شعارات، فإلى الأن تفتقر تونس إلى استراتيجية واضحة لمكافحة هذه الظاهرة التي ساهمت في مزيد تعقيد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لتونس.
وحسب “مؤشر مدركات الفساد” للعام 2016، الصادر عن “منظمة الشفافية الدولية” في يناير/كانون الثاني الماضي، فقد تصدرت تونس المرتبة السابعة عربيًا والـ 75 عالميًا بـ 71 نقطة في مؤشر الفساد للعام 2016، مقارنة بحصولها على المرتبة الـ 76 بمجموع 38 نقطة في العام 2015، وسبق أن حذّرت مجموعة الأزمات الدولية مؤخرًا من استشراء ظاهرة الفساد والرشوة وتفاقم الاقتصاد الموازي، منبهة إلى اتساع الفوارق الاجتماعية واستفحال التهميش الجهوي (بين المحافظات).
احتجاجات مناهظة للفساد في تونس
وذكرت منظمة “مجموعة الأزمات الدولية”، في أحدث تقرير لها حول تونس، أن حوالي 300 “رجل ظل” يتحكمون في أجهزة الدولة بتونس ويعرقلون الإصلاحات، وأن بعضهم يعطل تنفيذ مشاريع تنموية بالمناطق الداخلية ويحرك الاحتجاجات الاجتماعية فيها. وحذرت المنظمة في تقريرها الذي حمل عنوان “الانتقال المعطَّل: فساد وجهوية في تونس” من أن مظاهر “الإثراء من المناصب السياسية والإدارية والمحسوبية والسمسرة” أصبحت “تنخر” الإدارة والطبقة السياسية “العليا” في تونس (الأحزاب، البرلمان..)، وأن عموم المواطنين أصبحوا يعتبرون أجهزة الدولة أجهزة “مافيوزية“.
يمثّل الفساد المنتشر في البلاد، أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة التونسية في ديسمبر 2010
وشددت “مجموعة الأزمات الدولية”، على ضرورة أن يشمل “التصريح بالمكاسب” أعضاء البرلمان و”ديوان رئاسة الجمهورية”، وعلى أن تودع الأحزاب السياسية تقاريرها المالية لدى دائرة المحاسبات حتى يتمّ “إضعاف شبكات الإثراء من المناصب“. وحسب التقريرفإن “الفاعلين الاقتصاديين الذين مولوا الحملة الانتخابية لبعض الأحزاب السياسية” التي وصلت إلى الحكم بعد انتخابات 2014، أصبحوا “يؤثّرون مباشرة في تعيين الوزراء وكتاب الدولة وكوادر الإدارة المركزية والجهوية والمحلية بما في ذلك الديوانة وقوات الأمن الداخلي“.
ويمثّل الفساد المنتشر في البلاد، أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة التونسية في ديسمبر 2010، بعدما ذاق الشعب التونسي ذرعا من الفساد الذي كان السمة الأبرز لهذا البلد العربي والعائلة الحاكمة، الطرابلسية، التي تمسك بزمام الأمور في البلاد من أبسط شيء إلى أعلاه.