تُعتبر الجوامع والمساجد في مدينة إسطنبول تُحفًا فنية ومعمارية عريقة ومميزة من نواحي كثيرة، لذلك يتهافت السياح والزائرون لزيارتها واستكشافها وتجربة الصلاة فيها والاستمتاع للفن البصري فيها أو السماعيّ من قراءة القرآن والتسابيح والأذكار وأصوات الأذان الشجية والجميلة. وقد سميت مدينة اسطنبول يومًا بمدينة المآذن لكثرة عدد مآذن جوامعها التي يشهد الكثير منها على عظمة الدولة العثمانية العتيدة والتي أولت اهتمامًا ضخمًا بالجوامع.
تحوي إسطنبول بين جنباتها العديد من الجوامع التي لا يعرفها الكثير ممن يأتون لزيارتها أو ربما حتى ساكنيها، نظرًا لأنّ عددًا آخر من الجوامع حظي بالشهرة وجذب الانتباه لسببٍ أو لآخر إلا أنّ المتجول بين أنحاء المدينة والمتتبع لتاريخها سيكتشف عشرات الجوامع التي يحمل تاريخها وقصص بنائها العديد من التفاصيل الممتعة.
جامع آيا صوفيا الصغير
بُني الجامع الذي كان كنيسةً أرثوذكسية بالأصل عام 536 للميلاد تحت اسم “سركيوس وباخوس The Church of Saints Sergius and Bacchus” بأمر من الإمبراطور جستنيان الأول، تكريمًا للقديسيْن الاثنين اللذين حملت الكنيسة اسمهما. ويقع في منطقة الفاتح ما بين حيي “كاديرغا” و”جان كورتاران” على بُعد مسافة قصيرة من جامع السلطان أحمد ومتحف آيا صوفيا.
ترجع قصة بناء الكنيسة إلى أنّ جستنيان الأول حاول الانقلاب على عمه جستن الذي كان الامبراطور وقتها، فحكم عليه عمه بالإعدام قبل أن يأتيه فيه حلمه القديسان سركيوس وباخوس ويطلبوا منه الصفح عن حياة جستنيان، فقام الأخير ببناء كنيسةٍ تحمل اسمهما بعد تولّيه الامبراطورية بعد وفاة عمه بسنوات.
يختلف الشكل المعماري للبناء كثيرًا عن متحف آيا صوفيا على الرغم من حملهما الاسم ذاته، فقد بُنيَ على شكل مثمّن ذي قبة، واتبع الهيكل الخارجي للبناء الأسلوب المعتاد عليه في الفترة البيزنطية، أي استخدام الطوب والبلاط السميك، أما من الداخل فوُضعت أيضًا النقوش البيزنطية المتعارف عليها، التي تم إزالتها بعد تحويل المكان لجامع.
بقيت الكنيسة بعد الفتح العثماني للقسطنطينية على حالها دون أنْ تمسّ حتى عهد السلطان بايزيد الثاني، أي بعد ستين عامًا من الفتح، إذ تمّ تحويلها آنذاك لجامع على يد مدير قصر الباب العالي حسين آغا، الذي تجد قبره في ساحة الجامع اليوم.
جامع لاليلي القديم
بُني الجامع ما بين الأعوام 1759-1763، كأحد المعالم المعمارية الحديثة آنذاك على يد المعماريّ محمد طاهر آغا وبطلبٍ من السلطان مصطفى الثالث. ويختلف التصميم الخارجيّ له عن بقية الجوامع التي بُنيت في ذلك الوقت، فالتأثر بالعمارة الأوروبيّة واضحٌ وجليّ لمن يراه من الخارج، وقد تمّ استخدام النموذج المعماري العثماني ممزوجًا بالنموذج الباروكيّ الفرنسيّ فيه.
والباروكيّة مصطلح يُطلق على أشكال كثيرة من الفنّ الذي ساد أوروبا بدءًا من القرن السادس عشر، ومعناه الحرفيّ “شكل غريب، غير متناسق، أو معوّج”. وأكثر ما يميّز المبانيَ المصممة على الطراز الباروكيّ هو الأشكال المنحنية والاستخدام المُتقن والمعقّد للأعمدة والمنحوتات واللوحات المزخرفة. لذلك رأى الكثيرون الجامعَ آنذاك نوعًا من أنواع البذخ والبهرجة غير الضرورية، لابتعاده عن نمط العمارة العثمانية الأصليّة.
وأيًّا كان رأيك عنه حينما تراه فممّا لا شكّ فيه أنّه مثيرٌ للإعجاب، خاصةً مآذنه المميزة عن بقية المآذن والتي تشبه نهايتها “بصيلة” زهرة التوليب، أو كما تُعرف باللغة التركية “زهرة اللالي”، ومن هنا جاءت تسمية الجامع.
أما من الداخل، فتصميم الجامع آخذٌ للأبصار، بهدوئه وسكونه، ستحبّذ أن تمضي وقتًا طويلًا فيه، تتأمل الأضواء والشبابيك، وتجلس لترتاح تحت قبّته الكبيرة الساكنة.
وفي حال دخلتَ أو خرجتَ من الباب الأماميّ للجامع، ستجد جانبًا ضريحًا وسبيل ماء يحملان اسم “السلطان مصطفى الثالث”، صُمّما أيضًا على طراز العمارة العثمانية الممزوجة بالباروكية الفرنسيّة الحديثة. وإنْ دقّقتَ النظر لأعلى الضريح فوق شبابيكه ستجد أيضًا بيوتًا قديمة للطيور، يبلغ عمرها 200 عامٍ تقريبًا.
جامع نور عثمانية
على التلة الثانية من تلال إسطنبول السبع، وعلى مقربة من جامع بايزيد والسوق المسقوف المعروفين، يقع جامع “نور عثمانية” أو “النور العثماني” كما يُسمى أحيانًا والذي بدأ بناؤه عام 1748 بأمر من السلطان محمود الأول وانتهى عام 1755 في عهد أخيه وخليفته السلطان عثمان الثالث، فحمل اسمه نسبة إليه.
يعتبر جامع نور عثمانية أول جامع عثمانيٍّ يُبنى على الطراز الباروكي الذي تحدثنا عنه فوق، ويتميز عن باقي جوامع السلاطين بباحتها الداخلية النصف دائرية، و مصلى على شكل حرف U. وقد بُني ضمن مجمّع يحوي بالإضافة للجامع تكيةً تقدم الطعام للمحتاجين ومقبرة ومدرسة وسبيل ماء، ودكاكين ومكتبة تضمّ ما يزيد على 5000 مخطوط و مطبوعٍ.
يقع الجامع في منطقة “تشمبرلي تاش” القديمة حيث النصب الحجري من العهد البيزنطي والآثار التاريخية كالحمام والمدرسة وما شابهها من الأثار التي تملكها الناس واستوطنوها. ويطلّ على إحدى أبواب السوق المسقوف.
جامع العرب
مما يجهله الكثيرون عن جوامع إسطنبول ومساجدها، أنّ أول جامع بُني في المدينة لا يعود للعثمانيين ولا زمنهم، وإنما بناه العرب المسلمون إزاء إحدى محاولاتهم العديدة لفتح القسطنطينية.
بحسب إحدى الروايات فقد حاصر الجيش الإسلامي بقيادة مسلمة بن عبدالملك بيزنطة عام 95 للهجرة أو 717 للميلاد، واستمر الحصار عامًا كاملًا لم يتمكنوا فيه وقتها من فتح القسطنطينية، .وإنما سيطروا على المنطقة القريبو من برج غلاطة فقط. وإثر ذلك تم عقد اتفاق بين الجيش الاسلامي والإمبراطور البيزنطي “ليون” ينص على بناء جامع في المنطقة التي تمت السيطرة عليها واستخدامه لأداء عباداتهم. وأدى المسلمون عباداتهم في جامع العرب مدة 7 أعوام تقريبًا قبل أن يعودوا لبلاد الشام.
بعد خروج المسلمين من المنطقة تحوّل الجامع إلى كنيسة من قبل رهبان الدومانيك الذين أضافوا منارة إليه لقرع الجرس، وبذلك أصبح الجامع كنيسة تابعة لروما الغربية وتحول اسمه إلى “كنيسة سان بالو”.
وبعد الفتح الإسلامي للقسطنطينية قام السلطان محمد الفاتح باستعادة الجامع وسمّي باسم جامع غلاطة، وفي عام 1492 استقبلت الدولة العثمانية العرب الذين تم ترحيلهم إجبارًا من الأندلس واستقروا في المنطقة القريبة من الجامع وبذلك حمل اسم جامع العرب.
صُمم الجامع على شكل مستطيل، ويقف على 22 عامودًا خشبيًّا، وله منارة واحدة ومكون من ثلاثة طوابق، صنع منبره من الرخام وجدرانه من القرميد والحجر، ويقال أنّ مئذنته تشبه تلك الموجودة في الجامع الأموي في دمشق.