بعد طول انتظار جاء الرد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع أبريل/نيسان الحاليّ، وراح ضحيته العديد من جنرالات الحرس الثوري، ورغم تمسك إيران بحقها في الرد، إلا انها لم توضح حجمه وطبيعته، لكنها شنت خلال الأيام القليلة الماضية حربًا نفسية واسعة النطاق، وأكدت عبر تفاهمات غير مباشرة مع الجانب الأمريكي، أنها لا تريد التصعيد وأن ردها سيأتي في سياق يراعي الحساسيات التي تعيشها المنطقة.
استخدمت إيران في عملية الرد على الهجوم الإسرائيلي أعدادًا كبيرةً من الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية التي حاولت استهداف العمق الإسرائيلي، ورغم غياب البيانات الدقيقة عن حجم الدمار الذي خلفه الرد الإيراني، فإن الخطوة الإيرانية مثلت تحولًا مهمًا في قواعد الاشتباك مع “إسرائيل”، إذ إنها المرة الأولى التي تهاجم فيها إيران “إسرائيل” مباشرة، دون الاكتفاء بردود وكلائها، رغم أنها أطلقت بعض الطائرات المسيرة عبر وكلائها في اليمن والعراق، عبر ما أسماه بيان الحرس الثوري “الرد المركب”.
كيف نفهم طبيعة الرد الإيراني؟
ركز الرد الإيراني على استهداف المنشآت العسكرية الإسرائيلية في الجولان وصحراء النقب وإيلات، دون التركيز على إيقاع إصابات مدنية، وهو توجه يعكس حرص إيران على حرمان “إسرائيل” فرصة الحديث عن الجانب الإنساني لهذا الهجوم، والأكثر من ذلك أن إيران وعبر تأكيدها على انتهاء الهجوم في بيان أصدرته البعثة الإيرانية بالأمم المتحدة، حاولت قطع الطريق على الولايات المتحدة وبريطانيا لاستثمار هذا الوضع لتوسيع الضغط عليها، خصوصًا أنهما انخرطا بشكل مبكر في عملية إسقاط العديد من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة عبر قواتهما الجوية قبل أن تصل إلى الأراضي المحتلة.
يمكن القول بأن عنصر المفاجأة يمثل العنصر الحاسم في المعارك، واستخدام إيران لمسيرات تقطع مسافات طويلة كي تصل، يمثل علامة استفهام كبيرة تقف حول الغاية من رد عسكري غير مجدٍ أو مؤثر في مسرح العمليات، فرغم امتلاكها ترسانة متطورة من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، فضلت استخدام تقنيات عسكرية من الجيل الثاني، والتي تحتاج إلى فترة طويلة كي تصل إلى حدود الأراضي المحتلة.
كما أن القوة التفجيرية للأسلحة التي استخدمتها إيران، تأتي في سياق حرصها على تحقيق أهداف سياسية ودعائية، دون التأكيد على إصابات عسكرية واسعة النطاق، وهو توجه يبدو واضحًا من خلال الإعلان المبكر عن الهجوم، وإبلاغ دول المنطقة به، عبر اتصالات أجراها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان مع نظرائه في المنطقة، من أجل قطع الطريق على أي أخطاء قد تحدث، كما حصل في أثناء عملية الرد على اغتيال قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني.
تدرك إيران أهمية عدم السماح لـ”إسرائيل” بتوظيف عملية الرد في سياق حربها على غزة، أو حتى في إمكانية أن يستغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا الرد، في إعادة الثقه به في الداخل الإسرائيلي، خصوصًا أنه يواجه ضغوطًا كبيرةً، وتحديدًا من اليسار الإسرائيلي الذي يطالب بوقف الحرب في غزة، والبدء بمسار سياسي ينتهي بإطلاق سراح الأسرى بين “إسرائيل” وحركة حماس، مع ضرورة التأكيد بأن نيتنياهو سبق وأن هدد إيران برد قاسٍ في حالة الهجوم على “إسرائيل”.
تحدٍ حقيقي
التحدي الحقيقي الذي ينتظر إيران هو طبيعة التعاطي الإسرائيلي مع هذا الرد، وفيما إذا كانت “إسرائيل” سترد بعملية عسكرية مقابلة، كما هدد المتحدث العسكري الإسرائيلي دانيال هاغاري عقب الرد الإيراني، بأن الجيش الإسرائيلي سيرد في طهران وأن “إسرائيل” نجحت في اعتراض معظم الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، وهناك أضرار جانبية حصلت في بعض المواقع العسكرية المستهدفة.
إن النقطة المهمة التي تجدر الإشارة إليها هي أن الرد الإيراني جاء في سياق يخدم الأهداف الإيرانية والإسرائيلية، فرغم تسويق إيران للهجوم على “إسرائيل” بأنه يأتي في سياق الرد على الهجوم على القنصلية الإسرائيلية في دمشق، فإن الطرفين حققا مكاسب سياسية مهمة من هذا الوضع، فإيران أعادت الثقة بخطاب المقاومة وجددت ثقة حلفائها بها، و”إسرائيل” ستحصل على مزيد من الدعم العسكري من الولايات المتحدة، فضلًا عن مزيد من الدعم الدولي في حربها على غزة.
إذ تدرك إيران أهمية الحفاظ على الوضع الراهن مع “إسرائيل”، رغم تعدد مسارات الخلاف التي تجمع الطرفين، وهي أهمية تدركها “إسرائيل” أيضًا، خصوصًا أن الحسابات الإستراتيجية بعيدة المدى لنتائج الصراع المستمر بين الطرفين في المنطقة، ستصب بالنهاية في صالح قوى إقليمية وعربية، هي في حالة خلاف مع البلدين، فالتقديرات العسكرية لما بعد الرد الإيراني على “إسرائيل” ستكون صعبة للغاية، لأن عملية انتقال المواجهة من مناطق الفراغ في العراق وسوريا واليمن، إلى داخل “إسرائيل”، وقد يكون داخل إيران في المرحلة المقبلة، يعني أن المنطقة ستكون أمام تحديات صعبة.
إن احتمال انتقال عمليات تبادل الضربات الصاروخية بين إيران و”إسرائيل” من داخل سوريا إلى عمق البلدين، مؤشر مهم للغاية – لكنه ليس السبب الرئيسي – على شبح الصراع المسلح الذي بدأ يلوح في الأفق على نطاق واسع بالمنطقة، وفي واقع الأمر، وبصرف النظر عن طبيعة الدور الذي من الممكن أن تلعبه الولايات المتحدة في ضبط مسارات الصراع الحالي، فإن التطورات الإقليمية والدولية الأخرى تشير إلى أن الظروف باتت مهيأة لإثارة الحرب ضد إيران.
ولا بد أن نؤكد هنا، على أن مفهوم الحرب في هذه الحالة لا يقتضي بالضرورة، ضرب طهران بالقنابل والصواريخ، بل إن مجرد إحساس صانع القرار السياسي الإيراني باقتراب الحرب منه أو من مناطق نفوذه، هو بحد ذاته إشعال لفتيل هذه الحرب، علمًا بأن التطورات الخارجية والداخلية المتعلقة بإيران، توحي بأن هناك شيئًا ما سيحدث.