مع تنامي القوة العسكرية للحوثيين وتعرض أنصار صالح لكثير من المضايقات من حليفهم الحوثي، ساد الاعتقاد لدى فريق من المحللين ووسائل الإعلام أن كفة الحوثيين هي الأرجح في ميزان القوة والسيطرة على زمام الأمور في العاصمة صنعاء والمحافظات الأخرى الخارجة عن سيطرة القوات الحكومية الموالية للشرعية، بما يوحي أن الحوثيين استطاعوا سحب البساط من تحت صالح، إضافة إلى ما أشيع عن قيام الحوثيين بوضعه تحت الإقامة الجبرية.
وبالاستقراء الفاحص لمعطيات الجانب المستتر من المشهد السياسي في صنعاء، نجد أن صالح رغم ما اجتزأه الحوثيون من سلطته، يمثل الكيان العميق الذي يسيطر على مجريات الأحداث خصوصًا في العاصمة صنعاء، كما أنه لا ينبغي إغفال أن صالح (الذي ظل طوال فترة حكمه الممتدة قرابة ثلث قرن يعد العدة تحسبًا لأي انقلاب مفترض قد يحرمه من الاحتفاظ بالسلطة) ما زال إلى اللحظة يمسك بخيوط اللعبة، رغم تظاهره المتعمّد بالوهن، لأسباب تقتضيها اللياقة السياسية.
معتمدًا في ذلك على جهاز مخابراتي قوي ومتغلغل في نخاع الدولة كما هو متغلغل في نخاع الحركة الحوثية منذ نشأتها، إضافة إلى جيش قوي ومدرب جيدًا بنيت عقيدته العسكرية على الولاء له ولنجله، علمًا أن ذلك الجيش ما زال إلى الأن بمنأى عن التأثر بالأذى، إضافة إلى امتلاك قوات الحرس الخاص كميات هائلة من الأسلحة النوعية في مخازن سرية خاصة ليس الحوثيون على علم بها، فضلًا عن السيطرة عليها، إضافة إلى شبكة أنفاق معقدة جنوب العاصمة صنعاء.
من الحقائق التي لا يمكن دحضها أو تجاهلها أن صالح استخدم ورقة الحوثيين مرارًا لتمرير أهداف وصفقات سياسية توارت كلها تحت لافتتهم
في المقابل لا يمكن الاستهانة بالقوة التي أصبح عليها الحوثيون في المرحلة الحاليّة، لكن ينبغي الإشارة إلى أن نفوذ الحوثيين ككيان قادر على إخضاع صالح هو اعتقاد غير دقيق، مع التأكيد أنهم يتمتعون بنفوذٍ عميق في عدد من المناطق المحيطة بأمانة العاصمة أو ما بات يعرف بـ”طوق صنعاء”، إضافة إلى أجزاء متفرقة في بعض المحافظات الشمالية التي عزز الحوثيون نفوذهم فيها مؤخرًا.
رغم ذلك أصبحت القوة المتنامية لتنظيم الحوثي تشكل صداعًا لحليفهم صالح، وقد برزت أعراضه خلال التصادمات المتكررة مع صالح والإهانات التي يتعرض لها أعضاء حزبه من الحوثيين، دون الرد عليها بالمثل من أنصار صالح، الأمر الذي خلق اعتقادًا أن صالح أصبح ضعيفًا جدًا إلى درجة أنه أصبح لا يستطيع حماية نفسه، ناهيك عن حماية أنصاره ومسؤولي حزبه.
وهي ذات الفكرة التي يجتهد صالح في تكريسها لاعتبارات سياسية، بالتوازي مع ما يقوم به جهازه المخابراتي الذي ينشط في إحراق شعبية الحوثيين بكشف مثالبهم وتوجيه موجة الغضب الشعبي تجاه الحوثيين وفشلهم في إدارة مؤسسات الدولة للحد من تنامي نفوذهم.
الحوثيون ورقة استخدمها صالح مرارًا
من الحقائق التي لا يمكن دحضها أو تجاهلها أن صالح استخدم ورقة الحوثيين مرارًا لتمرير أهداف وصفقات سياسية توارت كلها تحت لافتتهم، حيث استخدم صالح الحوثي بادئ الأمر في إضعاف الجيش التقليدي الذي كان تابعًا لأخيه غير الشقيق الفريق علي محسن الأحمر، بافتعال 6 حروب في صعدة مع مؤسس الحركة الحوثية حسين الحوثي الذي حل مكانه بعد مقتله شقيقه عبد الملك الحوثي، حيث تبين بعد ذلك أن الحوثيين كانوا يتلقون الدعم بالسلاح والعتاد من قوات الحرس الجمهوري التابع لصالح، من أجل إحداث توازن نسبي يطيل أمد الحرب لجولات إضافية لإنهاك الجيش التقليدي الذي كان صالح غير مطمئن لولاءاته.
وفي حرب صعدة الأخيرة استخدم صالح الحوثيين للتحرش بالسعودية التي تدخلت في حينها بعمليات جوية على صعدة، بهدف استجلاب الدعم السياسي والمالي من الجارة الغنية، وبعد ثورة 2011 استخدم صالح الحوثيين في الانتقام من خصومه السياسيين، حين مكنهم من التمدد في محافظات شمال اليمن تدريجيًا، وتحركت قواته تحت لافتة الحوثيين لإسقاط المحافظات تباعًا وصولاً إلى اجتياح صنعاء والانقلاب على الشرعية في 21 من مارس 2014.
تكريس فكرة أن الحوثيين يسيطرون على كل مفاصل الدولة ويبتزون مسؤولي حزب المؤتمر، تَدْرَأ عن صالح وحزبه جانبًا كبيرًا من السخط الشعبي الناقم على سياسية الانقلاب التي جرت البلاد إلى دركات الكارثة الإنسانية
حتى بعد سقوط صنعاء والانتقام من خصومه السياسيين، حاول صالح مرة أخرى استخدام الحوثيين كأداة ضغط على القيادة السعودية بعد تعيين الملك سلمان بأسابيع بعد ترتيبه لمناورة يقوم بها الحوثيون بمحاذاة الحدود السعودية، لابتزاز القيادة الجديدة باستخدام فزاعة الحوثيين، إلا أن الرد السعودي جاء بخلاف كل التوقعات بعد إطلاق عمليات عاصفة الحزم، ويبدو أن صالح لم يكن يتوقع مطلقًا أن القيادة الجديدة للملكة التي ما زالت منهمكة في ترتيب البيت الداخلي، ستُقْدِم على خيار الحرب في ذلك التوقيت.
صالح يبحث عن صفقة سياسية
من الملاحظ أن الرئيس السابق صالح يحاول اللعب على توازنات السيرك السياسي، على نحو يمكنه من اللعب بأكثر من ورقة في المرحلة الحاليّة، فمن ناحية يحافظ على إبقاء تحالفه مع الحوثيين الذين يستخدمهم كورقة ضغط على التحالف العربي، مستفيدًا من حاجتهم الماسة في الوقت الراهن للغطاء الذي يوفره تحالفهم معه.
وهذا الأمر يقتضي بالضرورة مدارة الحوثيين وتمكينهم في كثير من مفاصل الدولة، هذا الأمر وإن بدا في بعض جوانبه يصب في مصلحة الحوثيين، إلا أن صالح لم يعْدَم الحيلة في توظيف ذلك لمصلحته من عدة أوجه: فمن ناحية يكسب رضا الحوثيين ويعزز شعورهم بوقوفه إلى جانبهم ويمنحهم اطمئنانًا نسبيًا في استمرار تحالفهم معه حتى تضع الحرب أوزارها.
ومن ناحية ثانية فإن تكريس فكرة أن الحوثيين يسيطرون على كل مفاصل الدولة ويبتزون مسؤولي حزب المؤتمر، تَدْرَأ عن صالح وحزبه جانبًا كبيرًا من السخط الشعبي الناقم على سياسية الانقلاب التي جرت البلاد إلى دركات الكارثة الإنسانية، وتحميلهم – دون حليفهم صالح – تبعات ما يجري في جميع المناطق الخاضعة لسيطرة الحليفين.
وبالتالي فإن صفة الفساد التي ينعت بها الحوثيون قيادات حزب صالح تكون ألصق بهم، على اعتبار أن بيدهم وحدهم مقاليد السلطة، وإن كان للمؤتمر نصيب فسوف يتمترس خلف حجته التي تزعم أنه مغلوب على أمره، يذوق من نفس التعسف الحوثي الذي يذوقه الشعب، حسب المفهوم الذي تروجه الآلة الإعلامية لصالح بين فترة وأخرى.
لا يمكن إنكار وجود شقاق فعلي بين صالح والحوثيين نابع من تباين الخامة السياسية والأيديولوجية ومعادلة المصالح بينهما
ومن ناحية ثالثة، يستغل صالح ذلك الحيز المتوتر بينه وبين الحوثيين في مقابل مشاركته العسكرية التي تحكمها مقتضيات الإيقاع السياسي المرن، و”الرقص على رأس الأفعى”، لضمان بقائه على مسافة معقولة يستطيع من خلالها ضمان خط رجعة لكسب هامش تفاوضي مع التحالف العربي، في حال تمكن حلفاؤه الإماراتيون من إقناع المملكة السعودية بالقبول به حليفًا اقتضته المرحلة مقابل فض تحالفه مع الحوثيين، لا سيما أن صالح يدرك مخاوف بعض دول التحالف من أيلولة الحكم إلى الإسلاميين.
هروب إلى الأمام
بالتمعن أكثر، ربما نستطيع أن نلمح كيف يناور صالح من خلال توظيف خلافاته مع حلفائه الحوثيين، لإيجاد مناخ ملائم يغري السعودية بالتفاوض معه، وبموازاة ذلك فهو يوفر لنفسه المبرر أمام الرأي العام في حال نكث بتحالفه مع الحوثيين، يعصمه من الاتهام بخيانة حلفائه.
علمًا أنه لا يمكن إنكار وجود شقاق فعلي بين صالح والحوثيين نابع من تباين الخامة السياسية والأيديولوجية ومعادلة المصالح بينهما، لكن رغم ذلك، لا يمكن تجاهل وجود أكثر من علامة استفهام بخصوص ما يحمل صالح على تحمل كل تلك اللكمات المتكررة من جماعة الحوثي، والاكتفاء بترويجها إعلاميًا من خلال وسائل الإعلام التابعة له، مع أن المتتبع لسلوك صالح السياسي يعرف أنه ليس من عادته مطلقًا الاعتراف بالأمور التي تمس هيبته وهيبة حزبه، بل على العكس تمامًا، يحاول أن يتظاهر بالصلابة والحزم.
والتساؤل الآخر الذي يطرح نفسه: ما الذي يجعل صالح – العنيد – يتحلى بهذا القدر من الحلم إزاء صفعات الحوثيين، بغض النظر عن كونه قويًا أو ضعيفًا؟ لكن الأهم من ذلك هو ما الذي يدفعه للتباكي إعلاميًا والظهور بمظهر اليتيم على مائدة اللئيم، بدلًا من أن يخفي أَمَارَات ضعفه (كما كان يفعل في السابق)، التي من المفترض أنها تثير بواعث التشفي في نفوس خصومه؟
بالتالي يكون التفسير الأقرب لهذه “الولولة الإعلامية” من صالح بشأن اضطهاد الحوثيين لأعضاء حزبه، توحي أن صالح يحاول مغازلة دول التحالف العربي التي يرى أنها لن تلتفت لطلبه بالتفاوض في ظل التصاقه مع الحوثيين، للظفر بصفقة ما مع التحالف ولو على حساب الحوثيين.