سواء كنت يقظًا أو مغمض العينين، فأنت لا تحتاج إلى جهد لتعرف أنك في حرم مصنع أبو زعبل للأسمدة، فالانبعاثات الخارجة من مداخنه وفوهات خطوط إنتاجه ستجبرك أن تغمض عينيك وأنفك في آن واحد، بعدما كست الطريق أمامه بوشاح يختلط فيه اللون الأبيض بالأصفر، فضلاً عن الرائحة النفاذة التي تزكم معها الأنوف دون قدرة على المقاومة.
وقبل أن نصل إلى المصنع الواقع في منطقة الخانكة بمحافظة القليوبية (شمال القاهرة)، بما يقرب من 500 متر تقريبًا لاحظنا على الجانب المقابل قرية صغيرة يفصل بينها وبين المصنع ترعة الإسماعيلية، لفت نظرنا لونها الأبيض الشاحب الذي غطى جميع معالمها، حتى المدرسة التي تقع في أول القرية لم نتعرفها إلا من خلال العلم الذي يرفرف فوق جدرانها، فعبرنا الكوبري الذي يربط بينها وبين المصنع لعلنا نجد إجابة وتفسير لهذا اللون الشاحب الذي ظهرت عليه القرية.
وبالسؤال عرفنا أنها قرية “الباشا” وسميت بهذا الاسم نسبة إلى القيادي “إبراهيم شكري” رئيس حزب العمل السابق، تجولنا في شوارع القرية، واستقبلنا أطفالها بشيء من الترحيب والقلق في آن واحد، وكان السؤال الأول الذي وجهه الأطفال لنا: أنتم صحفيون؟ فتعجبنا من هذا السؤال وهل هو فطنة شديدة أم اعتياد على هذا المشهد بين حين وآخر، غير أننا فوجئنا بـ”أحمد” وهو طفل في الصف الخامس الابتدائي – كما أخبرنا لاحقًا – يخاطبنا: أنتم جايين عشان المصنع؟
وقبل أن نجيب على الطفل الذي فاجأنا سؤاله، إذ به يعرض المساعدة بشكل غير متوقع، “في هذا الشارع الست أنيسة ابنها عنده فشل كلوي بسبب المصنع، ممكن أذهب معكم لأعرفكم عليها وهي بتتكلم ومبتخافش”، بالطبع لم نرفض المساعدة خاصة أن معظم البيوت التي مررنا عليها كانت مغلقة الأبواب في ظل رائحة السماد النفاذة التي تظلل سماء القرية بجميع شوارعها، لذا كان العرض المقدم من الطفل فرصة لا تعوض.
رافقنا أحمد إلى منزل الحاجة “أنيسة” وبينما نحن في الطريق إذ بمجموعة من السيدات الواقفات على شرفة الطريق لفت نظرهن ملامحنا الغريبة عن القرية فبادرونا بالسؤال: أنتم مين؟ فأخبرناهم أننا صحفيون جئنا هنا لمساعدتهم، فإذا بإحداهن تقول: “لو كنتم جايين عشان المصنع اتفضلوا شوفوا البيوت شكلها إزاي وشموا – تنفسوا – الهواء وأنتم تعرفوا من غير سؤال”، وتابعت: حسبنا الله ونعم الوكيل، المصنع دمر صحة أبنائنا وأزواجنا، لن تجد بيتًا في عزبة الباشا إلا وبه مريض يعالج بسبب تلوث المصنع”.
فبادرنا بسؤالها: ما أكثر الأمراض انتشارًا هنا، فأجابت: حساسية الصدر للأطفال والفشل الكلوي والضعف الجنسي للرجال، حتى إن إحداهن عبرت عن ذلك بحرقة تكسوها السخرية: “لو استمر الوضع على هذا الحال فلن نجد رجالاً في العزبة بعد ذلك”، وتابعت: “أطفالنا في رمضان اللي فات كانوا هيموتوا مختنقين بسبب الانفجار اللي حصل في المصنع ومحدش تحرك من الحكومة”.
مصنع أبو زعبل من الداخل
ووصلنا إلى منزل الحاجة أنيسة، فإذ بامرأة ستينية العمر تجلس أمام بيتها تلاعب بعض الأطفال حولها، رحبنا بها وطلبنا منها أن تفتح قلبها لنا لدقائق معدودة، وقبل أن نكمل الحديث أخبرتنا أنها تعلم أننا صحفيون أو من التليفزيون، وجئنا للسؤال عن المصنع وتأثيره، فأجبناها بنعم.
“صرخنا كتير وسجلنا مع قنوات أكتر، قابلنا صحفيين ملهمش عدد، وعدونا عشرات المرات إنهم هيعلموا حاجة لكن زي ما أنت شايف، يبقى الوضع على ما هو عليه”، كانت هذه هي أولى كلمات الحاجة التي عزفت تجاعيد الزمن على وجهها أشجن مقطوعاته الحزينة، مؤكدة أنها فقدت الأمل في أن يصل صوتها إلى أي من المسؤولين ليخلصها مما أسمته “بركة الموت”.
وتابعت: عندي ولدان الكبير 49 عامًا كان يعمل بالمصنع ظل به نحو 20 عامًا وهو يغسل كلى منذ أكثر من 4 أعوام تقريبًا مرتين أو ثلاث أسبوعيًا، والثاني عنده 30 عامًا وهو الآن يعمل بالمصنع وينفق على البيت”، وأضافت “حاسه إن نهايته هتبقى زي أخوه”.
كما أضافت أن معظم شباب القرية يعانون من تلك الأمراض سالفة الذكر إذ أن الغازات المنبعثة من المصنع سواء كانت في صورة هوائية أو صلبة أو سائلة فإنها تصيب العاملين به وسكان القرى المحيطين بالمصنع بحزمة من الأمراض التي تقضي على حياتهم مع مرور الوقت، موضحة أن غالبية أطفال القرية مصابون بحساسية في الصدر، والبعض أصيب بالسرطان وتوفى.
“لو كنتم جايين عشان المصنع اتفضلوا شوفوا البيوت شكلها ازاي وشموا – تنفسوا – الهواء وأنتم تعرفوا من غير سؤال”
80% من الأهالي مرضى
حديث الحاجة أنيسة دفعنا إلى إجراء استطلاع رأي عشوائي عن أكثر الأمراض انتشارًا في القرية، وبعد سؤال نحو 50 مواطنًا ما بين رجل وامرأة من شوارع وعائلات مختلفة توصلنا إلى أن ما يقرب من 30 شخصًا أجاب بأن أكثر الأمراض هي الفشل الكلوي والحساسية والضعف الجنسي، بينما أشار 10 منهم إلى السرطان – الدم على وجه الخصوص – وأمراض الكبد، فيما نفى 10 آخرين إصابتهم بأي من تلك الأمراض.
أخذنا حديث أهالي قرية الباشا وتوجهنا به إلى عزبة مراد، تلك العزبة الواقعة في الجهة المقابلة خلف مصنع السماد مباشرة، وربما تكون الأكثر تأثرًا بسبب ملاصقتها للمصنع بصورة مباشرة، وفي طريقنا استقبلنا الحاج بدوي الذي أكد أنه كان أحد العاملين في المصنع لمدة تزيد على 20 عامًا، لكنه ترك العمل بعد أن أصيب بالفشل الكلوي جراء المواد المستخدمة في صناعة السماد بالداخل.
بدوي الذي رفض الإفصاح عن بيانات أكثر عنه أكد أنه إلى الآن تربطه علاقات قوية بعمال المصنع، حيث يقوم ببعض الخدمات لهم والتي تدر عليه دخلاً ينفق من خلاله على علاجه وأهل بيته، خاصة أنه يجري غسيل كلى مرتين في الأسبوع في مستشفى كليلة الواقع بجوار نقطة مرور أبو زعبل التي تنتمي إداريًا إلى منطقة مشتول السوق بمحافظة الشرقية.
وبعد لقائنا مع الحاج بدوي اصطحبنا إلى مستشفى كليلة التي يعالج بها، وبسؤال أحد أطباء المستشفى (أ. ج) عن أكثر الحالات التي ترد لهم أجاب: “90% من الحالات التي تصلنا هنا في المستشفى مصابة بفشل كلوي أو سرطانات في الدم وجميعها جراء التلوث الناجم عن مصنع السماد”.
وأضاف: في كثير من الأحيان لا يستوعب المستشفى الحالات التي ترد إليه لكثرتها خاصة في فصل الصيف فيضطر المستشفى إلى تحويلهم إما لمستشفى الزقازيق الجامعي أو العام أو إلى مستشفى الخانكة التابعة لمحافظة القليوبية الذي يستقبل مئات الحالات يوميًا، ليس بسبب مصنع أبو زعبل وفقط، بل هناك مصانع أخرى قريبة منه كمصانع الشبة والسيراميك وغيرها.
ويتذكر بدوي خلال حديثه بأنه في عام 2014 حدثت واقعة غريبة حين تسربت غازات كثيفة من المصنع فجر الإثنين 3 من نوفمبر 2014 تسببت في اختناق 90 مواطنًا بالعزبة – مراد – مما دفع أهالي القرية إلى تنظيم وقفة احتجاجية ضد المصنع وإدارته مطالبين بغلقه، لكن قوات الشرطة فضت هذه الوقفة بالقوة حينها ووقعت بعض الإصابات بين الأهالي دون أن تحل المشكلة حتى الآن.
الأتربة الكيماوية المنبعثة من داخل المصنع تصيب العاملين بالعديد من الأمراض
تدمير للصحة
وفي اتصال بالدكتور محمد عز العرب رئيس وحدة الأورام بالمعهد القومي للكبد، للاستفسار عن تأثير الانبعاثات الخاصة بمصنع سماد أبو زعبل على صحة العاملين أو الأهالي المقيمين بجواره، أكد أن المواد التي تنبعث عن مصانع السماد وعلى رأسها حامض الكبريتيك يؤدي إلى أمراض الجهاز التنفسي كالسعال وحساسية الصدر، كذلك يسهم في تهييج الأغشية المخاطية وأنسجة العيون وتآكل الأغشية التي تبطن الفم والحلق والمريء، وكل هذا يقود في النهاية إلى الأمراض السرطانية.
كما أضاف أن مركبات السماد يتداخل فيها بعض العناصر الكيميائية الخطيرة التي تحتوي على مواد شديدة الخطورة بالبيئة مثل أكاسيد الكبريت وأول وثاني أكسيد الكربون، وهي مركبات تدمر الحيوانات والنباتات ومواد البناء في نفس الوقت، كما أنها حين تختلط بجزئيات بخار الماء العالقة في الجو تكون ما يسمى بالأمطار الحمضية التي تؤدي إلى تآكل المعادن والأحجار كما تقود إلى أمراض الجهاز التنفسي فضلاً عن الفشل الكلوي حال الاقتراب منها استنشاقًا داخل المصنع أو تداخلاً مع الأطعمة في الخارج، وهو ما يفسر ظاهرة انتشار أمراض الكلى بين سكان المناطق القريبة من المصنع.
بسؤال نحو 50 مواطنًا بين رجل وامرأة من شوارع وعائلات مختلفة توصلنا إلى أن ما يقرب من 30 شخصًا أجاب بأن أكثر الأمراض هي الفشل الكلوي والحساسية والضعف الجنسي، بينما أشار 10 منهم إلى السرطان – الدم على وجه الخصوص – وأمراض الكبد، فيما نفى 10 آخرين إصابتهم بأي من تلك الأمراض
قتل الثروة الحيوانية والزراعية
“للعام الرابع على التوالي أزرع الأرض دون محصول، وإن كان فإنه لا يغطي كلفته”، كانت هذه كلمات “جلال” مزارع من عزبة مراد الملاصقة للمصنع، مضيفًا أن أرضه ما عادت صالحة للزراعة بالمرة ويفكر في بيعها بأبخس الأثمان، متابعًا: “المصنع خرب بيتي”.
الدكتور سليمان جمعة أستاذ التربة بالمركز القومي للبحوث الزراعية، أكد أن المواد المنبعثة عن مصانع الأسمدة وعلى رأسها زيادة معدلات النتروجين تؤدي إلى زيادة أعداد البكتريا الضارة في التربة وبالتالي تزداد نسبة النترات الملوثة وهو ما ينعكس على المزروعات والمياه الجوفية على حد سواء.
جمعة أشار أيضًا أن غازات أكاسيد النتروجين والكبريت المتصاعدة من مصانع الأسمدة تعد المكون الرئيسي للأمطار الحمضية، وعند تفاعلها مع جزيئات بخار الماء تتساقط على شكل حمض النتريك وحمض الكبريتيك، مما يتسبب في إحداث تغير في طبقة التربة الزراعية وموت النباتات سواء من جذورها بسبب تلوث مياه الري – خاصة أن معظم مياه الري في تلك المناطق من ترعة الإسماعيلية التي يصرف فيها المصنع مخلفاته كما سيرد ذكره لاحقًا – أو حرق أوراقها بسبب المواد الكاوية المستخدمة في تصنيع السماد.
أستاذ التربة بالمركز القومي للبحوث كشف أن المحصول الوحيد الذي من الممكن أن يقف أمام هذه الكميات الكبيرة من المواد الملوثة للتربة هو التين الشوكي، وهو ما أكده أكثر من مزارع التقينا بهم في القرى المجاورة للمصنع، فقد أشاروا أن التين الزراعة الوحيدة الناجحة في أراضيهم.
القرية بأكملها قلما تجد فيها رأس ماشية واحدة رغم أنه من المفروض أنها قرية زراعية في المقام الأول
حتى مشروعات الثروة الحيوانية لم تسلم من هذا الوباء الذي تسبب فيه مصنع سماد أبو زعبل، فالمياه المختلطة بحمض الكبريتيك والتي تشرب منها الحيوانات بمختلف أنواعها، فضلاً عن دخول هذه الأحماض في تكوين المزروعات التي تتربى عليها، كفيلة بالقضاء عليها فورًا، هذا ما أشار إليه الدكتور ممدوح الشيخ الأستاذ بكلية الطب البيطري جامعة الزقازيق.
حديث الشيخ صدق عليه “عبد المولى” ابن قرية “سمك” القريبة من المصنع الذي أكد أنه ألغى مشروع كان أقامه قبل سنوات خاص بتربية الدواجن، غير أن التلوث المحيط بالمنطقة تسبب في نفوق ما يزيد على 95% منها ما كبده الكثير من الخسائر التي دفعته إلى غلق المشروع، وهو نفس ما أشار إليه “متولي” المقيم بجواره الذي أكد أن القرية بأكملها قلما تجد فيها رأس ماشية واحدة رغم أنه من المفروض أنها قرية زراعية في المقام الأول.
نترات السماد المتناثرة تغطي جدران المصنع من الداخل
قرارات البيئة.. تناقضات ومخالفات
في خطاب موجه من الدكتورة فاطمة أبو شوك رئيس قطاع الإدارة البيئية بوزارة البيئة المصرية إلى شريف الجمسي سكرتير عام محافظة القليوبية – آنذاك – بتاريخ 1/4/2009 بشأن إبداء رأي جهاز شؤون البيئة التابع للوزارة في مشروع إعادة تأهيل مصنع الفوسفوريك التابع لمصنع أبو زعبل للأسمدة، أشار الجهاز موافقته وفق الدراسة التي قدمها ووصفها بأنها مطابقة للمواصفات البيئية.
الدراسة في صفحتها السادسة أكدت أن المصنع خارج الكتلة السكانية وهو ما يعد مخالفة واضحة للواقع، حيث وقوعه محاطًا بما يقرب من 4 قرى متنوعة ما بين شماله وجنوبه يعود بنائها وفق أصحابها إلى ما يزيد على 30 عامًا وبعضها يزيد على ذلك، يقطنها قرابة 100 ألف مواطن، فضلاً عن تجاوز آثاره البيئية إلى ما يزيد على مليوني آخرين في مدن الخنكة وأبو زعبل، بخلاف إطلاله على طريق رئيسي للمارة والسيارات على حد سواء، هذا بخلاف المناطق الزراعية التي تحيط به والتي تآكلت بسببه كما أشرنا سابقًا.
وفي الصفحة الرابعة عشر أشارت الدراسة إلى أن المصنع ليس لديه مخلفات صناعية، إذ إنه يعيد استخدام كمية الصرف الناتجة في نفس العملية الصناعية، ومن ثم فلا حاجة لجهات تصريف، كذلك لديه شبكة صرف صحي داخلي وليس بحاجة إلى تصريف خارجي أيضًا، وهو ما يتناقض مع التقرير الصادر عن الجهاز – شؤون البيئة – في 2012 الذي أدرج مصنع أبو زعبل للسماد ضمن قائمة المنشآت غير المطابقة للمواصفات البيئية وليس لديها خطة لتوفيق أوضاعها، حيث إنه يصرف مخلفاته الصناعية والصحية في ترعة الإسماعيلية الملاصقة له، مما يعني تلويث المورد المائي الوحيد للقرى المجاورة والمحيطة مما ينعكس على صحة الإنسان والحيوان وخصوبة التربة الزراعية في آن واحد.
وفي تقرير آخر صادر عن وحدة تنفيذ مشروع التحكم في التلوث الصناعي، التابع لجهاز شؤون البيئة، في 2013 تحت عنوان “جهود شركة أبو زعبل للأسمدة في توفيق أوضاعها البيئية”، توصل إلى أن الشركة تعد من الشركات الرائدة بمصر في مجال صناعة الأسمدة الفوسفاتية، وأنها المعنية بإنتاج حمض الفوسفوريك وسماد السوبر فوسفات الثلاثي في مصر، مما يتناقض مع التقرير السابق والذي لم تتجاوز مدة إصداره عامًا واحدًا عن التقرير الأخير.
الدراسة في صفحتها السادسة أكدت أن المصنع خارج الكتلة السكانية وهو ما يعد مخالفة واضحة للواقع، حيث وقوعه محاطًا بما يقرب من 4 قرى متنوعة ما بين شماله وجنوبه يعود بنائها وفق أصحابها إلى ما يزيد على 30 عامًا
التقرير قسم عملية تقييم الشركة أو المصنع على مرحلتين زمنيتين الأولى: منذ تدشين الشركة وخضوعها تحت سيطرة القطاع العام حيث واجهت مجموعة من المخالفات البيئية التي ظهرت بوضوح مع صدور قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994، حيث لم تكن هناك معايير بيئية أو قوانين منظمة عند إنشاء هذه المصانع، فكانت آخر وحدة إنتاجية تم إنشاؤها قبل الخصخصة عام 1984.
الثانية: بعد بيعها لصالح شريف الجبلي، وتحويلها من شركة تابعة لقطاع الأعمال طبقًا لقانون 2003 إلى شركة مساهمة طبقًا للقانون 109، في يوليو 2004، وهنا كشف التقرير أنها استعانت بالمعمل المركزي لجامعة عين شمس لتحديد القياسات البيئية اللازمة لتحديد الموقف البيئي الحقيقي لمصانع الشركة كخطوة أساسية في إعداد خطة توفيق الأوضاع البيئية في أغسطس 2004.
وأكدت نتائج القياسات حسبما أشار التقرير الصادر عن جهاز البيئة إلى أن الشركة تقدمت باستمارة المشاركة لمشروع التحكم في التلوث الصناعي المرحلة الثانية في يناير 2007 من خلال وزارة الدولة لشؤون البيئة لتمويل مشروعات الحد من انبعاثات الأتربة والانبعاث الغازية بالبيئة المحيطة بالمصنع وبيئة العمل، وتم تعيين خبير فني لإعداد دراسة المراجعة البيئية للشركة ولتحديد المشروعات المقترح تمويلها، حيث بلغ إجمالي المشروعات البيئية بالشركة 17 مشروعًا بإجمالي تمويل 22 مليون دولار، وذلك من خلال تنفيذ خطة توفيق الأوضاع البيئية للشركة والتي تم دراستها مع الوزارة.
التقرير خلص إلى أن مصنع أبو زعبل للأسمدة صديق للبيئة من خلال تمويله للعديد من المشروعات التي تعمل على الحد من الانبعاثات الغازية والأتربة، وهو ما يخالف التقارير السابقة التي تم الإشارة إليها، ما أعادنا مرة أخرى إلى حديث سابق مع أهالي القرى المحيطة بالمصنع عن شبهة علاقة بين إدارة المصنع ووزارة البيئة تدفع الأخير إلى تقديم تقارير إيجابية عن الأول.
هل هناك تواطؤ؟
في الوقت الذي يجمع فيه سكان قرى مراد والباشا وسمك وغيرها من القرى المجاورة والمحيطة بالمصنع على ضرورة التحرك الفوري للحد من هذا التلوث إما بالغلق أو التقنين، إذ بإحدى السيدات المقيمات في قرية الباشا تخرج بتصريحات مغايرة تمامًا وتطالب ببقاء المصنع، وهو ما كان في البداية مفاجأة.
وحين اقتربنا منها أوضحت الحاجة زينب مقصودها الحقيقي من وراء هذا التصريح، مشيرة أن أبناءها يعملون في المصنع وأنه يفتح بيوتهم، غير أنها كشفت النقاب عن بعض المعلومات التي ربما تحول التحقيق إلى مسار آخر، مؤكدة أن صاحب المصنع أنشأ المدارس التي لديهم ويتحمل كلفة تعليم أبناء قريتها، ويعطي رواتب شهرية للأسر هنا بمعدل 150 جنيهًا لكل أسرة، فضلاً عن بنائه المسجد الوحيد بالقرية، وحين سألناها عن المقابل أجابت: “عشان نسكت ومحدش يتكلم”.
السيدة التي يتجاوز عمرها الستين أقرت خطورة ما يتعرض له أبناءها من أضرار صحية بسبب المصنع لكنها في الوقت ذاته أشارت إلى أنه مصدر الدخل الوحيد، قائلة: “شوية يلوث ويبهدل الدنيا وشوية يهدأ وأهي ماشية هنعمل إيه بس”، غير أنها أعربت عن فقدانها الأمل في تغيير الوضع الحاليّ.
وحين اقتربنا منها لمعرفة دوافع هذا التشاؤم أشارت أنها ليست المرة الأولى التي يأتي صحفيون وإعلاميون لتناول قضيتهم ومع ذلك فلا جديد، ملمحة إلى عطايا تقدم من رئيس المصنع لبعض الإعلاميين لتناسي القضية من الأساس أو تجاهلها، مستعرضة حادثة رأتها شخصيًا، حين أقدم الإعلامي عمرو الليثي لتصوير حلقة سابقة عن المصنع وأضراره على سكان قريتها في 2010 غير أنه لم يبث الشريط إلا بعد ثورة 25 يناير 2011، معبرة عن ذلك بقولها: “ما فكرش يذيع الشريط إلا بعد سنة من تصويره تفتكر ضميره مصحيش إلا بعد سنة”.
حديث الحاجة زينب تطابق بصورة كبيرة مع كلام أبلغنا به بعض شباب قرية مراد الواقعة خلف المصنع بأن إدارة المصنع تلجأ في بعض الأحيان إلى تعيين بعض الأفراد من عائلات مختلفة بمقابل مادي معقول دون أن يمارسوا عملهم بشكل كامل كغيرهم وذلك في مقابل صمتهم وعدم التذمر أو تقديم الشكاوى ضد المصنع.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ كشف “محمد” مدرس يعمل بإحدى المدارس الملاصقة للمصنع بأن هناك شبهة علاقة بين إدارة المصنع ووزارة البيئة ومن ثم فقلما تجد أي تقارير تدين المصنع في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، ملفتًا إلى أنه أكثر من مرة كانت تقوم الوزارة بتركيب أجهزة رصد فوق المصنع – استجابة للضغوط هنا وهناك – غير أن بعض العاملين يتلاعبون بنتائجها دون تحرك من جهاز البيئة.
سيدة تؤكد أن صاحب المصنع أنشأ المدارس التي لديهم ويتحمل كلفة تعليم أبناء قريتها ويعطي رواتب شهرية للأسر بمعدل 150 جنيهًا لكل أسرة، فضلاً عن بنائه المسجد الوحيد بالقرية، وحين سألناها عن المقابل أجابت: “عشان نسكت ومحدش يتكلم”
وحين بحثنا في ملكية المصنع اكتشفنا أنها تعود إلى الملياردير المصري شريف الجبلي الذي يعد أكبر منتجٍ للأسمدة في مصر، وهو رئيس غرفة المواد الكيماوية باتحاد الصناعات المصرية، ورئيس مجلس الأعمال المصري الكوري والماليزي، وقبل كل ذلك هو ابن وزير الزراعة الأسبق مصطفى الجبلي وشقيق وزير الصحة السابق الدكتور حاتم الجبلي.
يمتلك الجبلي حاليًا 7 شركات منها مصنع أبو زعبل ومصنع العزل والحرارة ومصنع الأسمدة المخلوطة في إدكو بأسوان وبولي سيرف ومصنع أسمدة بالجزائر، كذلك له استثمارات في مجال الكيماويات في بعض الدول منها سوريا والجزائر.
مقارنة الاتهامات السابقة بالتناقض الذي كشفته تقارير وزارة البيئة وجهازها المختص برصد وتقييم الآثار البيئية للمصانع والشركات، ما بين 2009 ثم 2012 وصولاً إلى 2013، دفع “نون بوست” إلى التوجه لجهاز شؤون البيئة بالوزارة لتعرف حقيقة ما يقال من سكان القرى المجاورة للمصنع.
في البداية توجهنا إلى مكتب رئيس جهاز شؤون البيئة وقدمنا له الاتهامات كاملة من أجل الرد عليها وفق التقارير الأخيرة التي قام بها الجهاز بشأن تقييم المصنع، غير أن مدير المكتب حولنا إلى مسؤول الإعلام بزعم أن لديه التقارير الواردة في هذا الشأن، والذي بدوره أكد لنا عدم درايته بما واجهناه به، موضحًا أن دوره إصدار البيانات الإعلامية الصادرة عن الوزير أو رئيس الجهاز وفقط.
ومن مكتب مسؤول الإعلام توجهنا إلى مكتب مدير إدارة الرصد البيئي كونها المخولة بالرد على مثل هذه المسائل، وبالفعل التقينا بالدكتورة مديرة الإدارة غير أنها رفضت تزويدنا بأي تقارير بدعوى أنها مسألة أمن قومي ولا يجوز أن تخرج إلا لجهات رسمية أو تقديم طلب مسبق يتم الموافقة عليه من رئيس الجهاز شخصيًا.
وبمواجهتها بالاتهامات التي ساقها أهالي قرى أبو زعبل بشأن غض طرف الوزارة عن مخالفات المصنع، أشارت أن هناك اتفاقيات مبرمة مع المصنع من أجل توفيق أوضاعه غير أنها رفضت الإفصاح عنها لأسباب تتعلق بالأمن القومي، على حد قولها مرة أخرى، وبخصوص التناقض الواضح في تقارير الجهاز السابقة ومدى ما تحمله من علامات استفهام أشارت أنها غير مخولة بالرد عليها خاصة أن بعضها يعود إلى عدة سنوات.
ثم توجهنا بعد ذلك إلى المقر الإداري لشركة أبو زعبل للأسمدة الواقع في منطقة وسط البلد بمحافظة القاهرة، حيث التقينا بمديرة مكتب الدكتور شريف الجبلي صاحب الشركة، “أمينة” للرد على الاتهامات الموجهة من أهالي القرى المحيطة بالمصنع في منطقة أبو زعبل، بعد توجيهنا من قبل العلاقات العامة بالشركة التي أشارت إلى أنها المخولة بمثل هذه المسائل، فأنكرتها في بداية الأمر بالكامل، مشيرة أن المصنع يلتزم بالضوابط التي تقرها وزارة البيئة غير أنها أجرت اتصالا مع “عبدالسميع” الذي يقوم بالرد على استفسارات الصحفيين في غياب وجود متحدث إعلامي للشركة.
وبالاتصال به أشار إلى أن هناك عقود موقعة بين الشركة وجهاز البيئة لمراقبة مدى التزام مصنع الأسمدة بالمواصفات البيئية، مطالبا بالعودة إلى التقرير الصادر نهاية 2013 بداية 2014 والذي اكد أن المصنع صديق للبيئة على حد قوله، غير أنه رفض تقديم أي تقارير حديثة في هذا الشأن، وهو نفس موقف جهاز شئون البيئة.
وبسؤاله عن تدخل بعض العاملين بالمصنع لتغيير نتائج أجهزة الرصد البيئية الموضوعة فوق أسطح المصنع بحسب طلب الوزارة، كشف أن ذلك غير صحيح، وأن هذه الأجهزة مراقبة من جهاز شئون البيئة بصورة يومية، ولا يمكن التلاعب فيها، غير أنه أشار في نهاية الحديث إلى أن الفترة القادمة ستشهد مزيد من التنسيق مع الوزارة في هذا الشأن بما يضمن عدم تكرار الشكاوى مجددًا دون أن يكشف عن تفاصيل ذلك.
مجموعة لصور من داخل المصنع تعكس حجم الانبعاثات الكيماوية