خبر ملفق أو هكذا جرى اعتباره لاحقًا، ولكنه انتشر سريعًا كالنار في الهشيم بالعديد من وسائل الإعلام العالمية، مفاده وضع الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية ضمن قائمة الإرهاب الجديدة، والمعلنة من الدول الأربعة المعادية لقطر التي أضافت فيها منظمتين – إحداهما الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي – و11 شخصًا لقوائم الإرهاب.
ساعات من الاضطراب والغموض والتحفز غلفت تعليقات النشطاء على السوشيال ميديا، بسبب الخوف من توسع هستيريا الحرب الخليجية على تيار الإسلام السياسي، وامتدادها إلى رموز دينية لا تتخذ منهم حكومات بلدانهم موقفًا مناوئًا، بل تعترف بفضلهم في تزكية الروح الوطنية وترجيح كفتها على الانتماءات الأيدلوجية والعقائدية، وقبل أن تضع الحرب أوزارها وتمتد لغة التناحر إلى المستويات الرسمية، سارعت السفارة السعودية في تونس بنفي صحة خبر إدراج اسم الغنوشي ضمن قائمة الإرهاب الجديدة المثيرة للجدل.
استنكرت السفارة بشدة في بيان صحفي – حصلت وسائل الإعلام التونسية كافة على نسخة منه – الزج باسم الغنوشي في الأزمة، خصوصًا أن القائمة لم تتضمن أي إشارة إليه، ولكن المثير في البيان الذي نقلته الصحف التونسية عن السفارة أنها لم توضح خلاله ماذا يعنى إدارج كيان بشكل كامل على لائحة الإرهاب، وإسهاب العديد من وسائل الإعلام السعودية في التشديد على اعتبار كل من له علاقة بالكيان إرهابيًا.
وليس الإعلام السعودي وحده الذي صنف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على عمومه بالإرهاب، بل امتدت هذه النظرة إلى أبناء المؤسسة التشريعية في المملكة، وعبر عن نفس الرؤية محمد بن عبد الله آل زلفة العضو السابق بمجلس الشورى السعودي، الذي قال في تصريحات لوسائل إعلام دولية إنه طالما يتأسس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين على التطرف والتشدد فقياداته تحمل الفكر ذاته.
عبرت حركة النهضة في بيان لها عن استغرابها من إقحام الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين ضمن مثل هذه القوائم، ودعت إلى تحييد المؤسسات والعلماء المشهود لهم بالنزاهة والتسامح والتعلق بروح الاجتهاد عن التجاذبات والصراعات
الأمر الأغرب أن الحساب الرسمي لسفارة المملكة في تونس لم يحمل أي إشارة أو صورة من البيان الذي تم توزيعه على وسائل الإعلام بخصوص الغنوشي، وكذلك الحساب الرسمي لوزارة الخارجية السعودية، مما يزيد الصورة تشوشًا وارتباكًا وغموضًا، ورغم ذلك التزمت وسائل الإعلام العالمية بما وصل إليها من إيضاحات، وقدمت قناة “بي بي سي” الناطقة بالعربية اعتذرًا عن إدراج اسم الغنوشي ضمن القائمة الجديدة للإرهاب، وتبعتها في ذلك إذاعة “دويتشه فيله” الألمانية.
كيف رد الغنوشي على وضعه إعلاميًا ضمن لائحة الإرهاب؟
لم يخرج رد من راشد الغنوشي أبعد من المتوقع لفلسفته في التعامل مع هذه المواقف، وتكفلت حركة النهضة التونسية بالرد، مؤكدة في بيان لها أن مكتب رئيسها بصدد النظر في إمكانية متابعة عدد من وسائل الإعلام التي عمدت إلى الزج باسم الغنوشي ضمن قوائم إرهاب الدول المحاصرة لقطر، رغم كونه خارج الاتحاد حاليًّا ولا يمثله بأي صفة.
وأوضحت الحركة أنها شريك في الحكم بالجمهورية التونسية، وخلافًا لما جرى تداوله في بعض وسائل الاعلام، فلا علاقة لرئيس النهضة بالقائمة من قريب أو بعيد، ولم تطالب الحركة السعودية أو سفارتها بأي إيضاحات علنية، واكتفت باعتبار ما حدث محاولة يائسة لتشويه فكر ومسيرة الغنوشي النضالية الطويلة من أجل الحرية والديمقراطية ومقاومة الاستبداد والتطرف والإرهاب، مشددة على أنها ستحتفظ بحقها كاملًا في تتبع الأطراف المروجة لهذه الافتراءات، حسب وصفها.
ولم تنس الحركة في بيانها توجيه “كتف قانوني” للدول المحاصرة لقطر، وعبرت في نفس البيان عن استغرابها من إقحام الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين ضمن مثل هذه القوائم، ودعت إلى تحييد المؤسسات والعلماء المشهود لهم بالنزاهة والتسامح والتعلق بروح الاجتهاد عن التجاذبات والصراعات.
إسلاميو تونس والمغرب وقوائم الإرهاب الخليجية.. إلى أين؟
لا يمكن بأي حال – وفي ظل الفوبيا المستعرة من دول الحلف الرباعي تجاه تيار الإسلام السياسي – استثناء أي شخص أو حركة مهما كانت مظاهر الاعتدال تطوق الاتجاهات المعلنة داخليًا وخارجيًا، إلا أن الحالة التونسية تحديدًا من الصعب الزج بها في هذا الصراع الوجودي، بسبب قدرة حركة النهضة على الثبات في مسار التوافق السياسي مع التيارات الأخرى بتونس، وابتعادها عن الجدل الدائر تجاه التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ودفاعها الدائم عن المسارات العلمانية للدولة، لتفلت بذكاء ومهارة لم تتمتع بها حتى جماعة الإخوان الأم في مصر، من خيوط نسجت لها لإعاقة مسيرتها عبر توريطها في صراع مع الحداثة، للمزايدة عليها داخليًا ودوليًا.
لا يمكن فصل مخاوف الخليج ومصر من الإسلاميين، عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورئيسه الشيخ يوسف القرضاوي الذي يحتل عناوين الصباح والمساء في هذه الدول
الغنوشي هو الآخر وظف خبرة العمر وحكمة السنوات الطويلة في المنفى للتعامل المناسب مع التصريحات الصدامية والاستفزازية تجاه التيار الإسلامي من أطراف الأزمة الخليجية، واتخذ موقفًا وسطيًا خلال التطورات الأخيرة، ودعا أطراف الأزمة إلى مراعاة وشائج القربى والعودة إلى الوحدة والتعاون.
على الجانب الآخر تبقى أيضًا الحالة المغربية هي الأخرى بعيدة عن مطارق شواكيش قوائم الإرهاب الخليجية، فالخط الفاصل الذي يضعه حزب العدالة والتنمية مع حركة التوحيد والإصلاح، وتبني الموقف الرسمي المغربي في الأزمة الخليجية الذي اختار لعب دور الوساطة بدلًا من الانحياز إلى أي طرف، يضع التيار الإسلامي المغربي الذي يشارك في الحكم، بل ويقود الحكومة منذ 7 سنوات، في حماية الملك والدولة والشعب، وهي الصكوك التي لو فقدت داخليًا لاستطاع الرصاص الخليجي النفاذ منها، والوصول إلى جسد الإسلاميين وافتراسهم ماديًا ومعنويًا أينما كانوا.
لماذا يخاف الخليج من القرضاوي؟
يبدو أن السؤال والإجابة عنه قتلا بحثًا، ولكن الأحداث تدفع به دائمًا إلى الواجهة بين حين وآخر، فدول الخليج قاطبة باستثناء قطر وعمان ترتعد من شبح تمدد الإسلاميين فوق أراضيهم، وخصوصًا جماعة الإخوان المسلمين، خاصة أن أجندة الإسلام السياسي بالنسبة للخليج ومصر لا يمكن الوثوق بها، في ظل العلاقات الوثيقة للتيار الإسلامي مع تركيا وإيران اللذين ينافسان مصر السعودية والإمارات على النفوذ بالمنطقة.
ولا يمكن فصل مخاوف الخليج ومصر من الإسلاميين، عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورئيسه الشيخ يوسف القرضاوي، الذي يحتل عناوين الصباح والمساء في هذه الدول، وفي شخصه وأفكاره واتجاهاته الدينية والسياسية تُلصق مسؤولية كل كبيرة وصغيرة تحدث في المنطقة، لدرجة أصبحت معها العناوين والمتون التي تهاجم الرجل من أهم العلامات المميزة للصياغات الإعلامية لهذه المرحلة.
كل التداعيات المرتبطة بالأزمة الخليجية كإصدار قوائم الإرهاب، وثيقة بأصل المشكلة وهو الخلاف السياسي، مما يعني أن عودة العلاقات بين قطر والإمارات والسعودية إلى سابق عهدها سيرفع حتما أغلب الأسماء المرتبطة بقطر من هذه القوائم، ومنها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
وسبق إدراج القرضاوي في قائمة الإرهاب الأولى التي صدرت في شهر يونيو من العام الماضي، كما سبق لدولة الإمارات إدراج الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين نفسه عام 2014 ضمن قائمة إرهاب إماراتية، ضمت وقتها 83 تنظيمًا، لكن المثير أن القائمة الأخيرة للإرهاب التي شهدت أول توافق بين الدول الأربعة على تصنيف الاتحاد بأكمله منظمة إرهابية.
وطُرحت فكرة تجريم الاتحاد كثيرًا، ولكن تخوف العقلاء من مسئولي بعض هذه الدول، من استعداء مشاعر الدول العربية والإسلامية، كان يقف حائلًا أمام الإقدام على مثل هذه الخطوة، لا سيما أن الاتحاد يضم شبكة واسعة من الدعاة عبر العالم تصل إلى 95 ألف عضو، مما يعني أن وضع أسماء أعضائه وقياداته من كل الدول في خانة الإرهاب قد يفتح منعطفًا جديدًا في الأزمة الخليجية، لن تكون في صالح حلف الحصار على الإطلاق، خصوصًا أن بعض القيادات داخل الاتحاد تنتمي إلى دول تملك علاقات قوية مع الرباعي، ولن يضحى التحالف بهذه العلاقات أو يجعلها عرضة لمثل هذه المواقف الارتجالية الغاضبة وليدة الظروف وعلاقات الشد والجذب المستمرة مع التيار الإسلامي.
بعيدًا عما يمكن توقعه من أضرار بسبب ضم الاتحاد بأكمله للقائمة الأخيرة، هناك وعي كامل من الحكومات العربية، خصوصًا التي يشارك فيها أو يقودها إسلاميون، بحقيقة الاتهامات الخليجية للتيار الإسلامي، وهي سياسية بالأساس، كما لا يخفى علي هذه الحكومات والقطاعات السياسية الأخرى الفاعلة والمشاركة فيها أن خلف الحرب على اتحاد القرضاوي دفاعه المستميت عن سياسات الإمارة الثائرة على جيرانها.
وبالتالي كل التداعيات المرتبطة بالأزمة الخليجية كإصدار قوائم الإرهاب وثيقة بأصل المشكلة وهو الخلاف السياسي، مما يعني أن عودة العلاقات بين قطر والإمارات والسعودية إلى سابق عهدها، سيرفع حتمًا أغلب الأسماء المرتبطة بقطر من هذه القوائم، ومنها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي سيغير نتيجة لذلك الكثير من مواقفه تجاه خصوم قطر داخل الأزمة، ووقتها سينجلي غبار الحرب ويظهر الغث من السمين، ولن تبقى في الذاكرة إلا المواقف الحكيمة التي دعت للابتعاد عن الكراهية والتمسك باللحمة العربية والإسلامية، وما عدا ذلك سيظل مخلدًا لأصحابه في صفحات التاريخ مهما طال الدهر!