إنهم يدورون على مكان واحد كدواب مربوطة إلى وتد متين، لا ينفكون حتى ينعقد الحبل على أعناقهم فيختنقون، هكذا هم كلما وهمنا أنهم انطلقوا إلى الأمام عادوا إلى الحلقة المفرغة، موضوع واحد ووسيلة واحدة، حتى إن الكتابة صارت تكرارًا مملاً كأن الزمن يسير في مكان آخر وهم متوقفون قبل كوبرنيك، عن النخب السياسية التونسية في صراعها مع الإسلاميين أتحدث، لكنني في ظلمة المشهد أبصر بصيصًا وأكبره حتى يقال إن هناك أملاً حقيقيًا في التقدم سأمارس الإيهام بالخروج من الشرنقة.
عاد الأمل في الانتخابات فعاد حديث الإسلامي الإرهابي
مرت سنة 2017 في سعي محموم لإلغاء المسار الانتخابي (الطبيعي)، عُطلت اللجنة ومورس عليها كل أشكال الضغط لكي تتفكك، ودافع أعداء المسار عن حل سياسي خارج الصندوق يتم بمقتضاه تشكيل حكومات بلا شرعية برلمانية، وقبل ذلك مورست كل أشكال التأجيل للانتخابات البلدية وهي لا تزال بلا موعد محدد بأمر رئاسي كما ينص على ذلك الدستور.
لكن الهيئة الانتخابية نجت من الضغط وانتخب لها رئيس سد الفراغ القانوني، بحيث لم يعد من سبب لتأجيل الانتخابات أو الحديث عن بلديات معينة بلا انتخاب.
في الأثناء ضعف الحديث عن اتهام الإسلاميين بالإرهاب، وجيء لهم بأوصاف أخرى منها ويا للسخرية اتهامهم باليمينية وخيانة الثورة من اليسار نفسه الذي أوصل الباجي وحزبه للرئاسة والتمكين من الحكومة، لكن عودة الأمل في الانتخاب أعاد حديث الإرهاب وربط حزب النهضة به، لكن أين بصيص الأمل؟ إنه ظاهر في ضعف الحجة كأبلغ ما يكون حتى تحولت الاتهامات إلى سبب للسخرية والتندر.
الوقائع المصطنعة
أولاها جيء بأمني مطرود من الداخلية، سجين سابق من أجل جرائم خيانة مهنته، وكلف بنشر معلومات عن فساد الإسلاميين وعلاقتهم بالإرهاب وفتح له البرلمان ليدلي بمعلومات مهمة ومصيرية منها أن حزب النهضة سرق ألف طن من الألماس من الخزينة العامة (نعم ألف طن من الألماس) أي أكثر من كل الألماس الموجود فوق سطح الأرض وربما في باطنها أيضًا ونقل كلامه على التليفزيون العمومي واتخذ حجة دامغة على فساد قيادة النهضة التي حكمت بعد انتخابات 2011.
بعد أن مررنا بسبع سنوات من التجربة يمكننا القول إن حزب النهضة ليس حزبًا فوق النقد ولا حزبًا يستحيل إسقاطه انتخابيًا
ثانيتها قفز الإعلام المعادي لحزب النهضة على ما صدر عن جهات خليجية من تصنيف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين كمنظمة إرهابية وما ذكرته إذاعة البي بي سي العربية من وجود اسم راشد الغنوشي ضمن قائمة الشخصيات الإرهابية ورغم تراجع الإذاعة المذكورة عن المعلومة وتصحيحها، فإن الإعلام التقف الخبر ونسى التصحيح وطالب حزب النهضة بجردة حساب عن علاقته بالإرهاب، متجاهلاً مشهدًا مر منذ أيام قليلة وهو مشهد استقبال السفير السعودي في احتفال السفارة بالعيد الوطني وإفراد الغنوشي بموقع ضيف الشرف في الاحتفال وقيام السفير له والعناية به، ومتجاهلاً أيضًا استقبال الملك عبد الله قبل موته للشيخ القرضاوي مؤسس الاتحاد ورئيسه على زربية حمراء.
واقعتان ضمن وقائع أخرى تدلان على أن محاججي النهضة بالإرهاب قد فقدوا الحجة أمام حزب النهضة، ويدل – وهذا الذي يهمنا أكثر في هذه المرحلة – أنهم عجزوا عن استنباط وسيلة أخرى لاستباق فوز محتمل للنهضة في أي استحقاق انتخابي قادم سواء في البلديات أو في التشريعية، ولما لا في الرئاسية إذا قرر الحزب خوض النزال الرئاسي سنة 2019.
هذه المعركة ليست معركة الشعب التونسي
بعد أن عرض حزب النهضة نفسه على الشعب التونسي وشارك في السلطة كحزب أول بعد انتخابات 2011 ثم كحزب ثانٍ مشارك في الحكومة بعد انتخابات 2014 تبين أنه حزب عادي وأعني أنه لم يبدع خيالاً تنمويًا خارقًا وإنما وتحت مبررات كسولة كشف عن فقر في الخيال التنموي ولم يقدم للتونسيين إلا تبريرات متشابهة للحفاظ على المنوال السياسي والاقتصادي الذي كان متبعًا منذ ابن علي بل منذ بورقيبة، فهو في جوهر عمله لم يختلف عن عمل التجمع وحزب الدستور لجهة الإبقاء على نظام المصالح المافيوزية الحاكم منذ السبعينيات.
لعل حزب النهضة يستفيد من هذه المعركة، إذ يسخر من ضعف حجج خصومه ويواصل اللعب على موقع الضحية المظلوم بما يقوي لحمته الداخلية وبما يجذب له أنصارًا من خارجه يقتنعون يومًا بعد آخر أن النهضة ضحية للإرهاب وليست سببًا له
ظهر فيه أشخاص مخلصون ونظيفو اليد كما ظهر فيه أشخاص نهازو فرص يبحثون عن غنائم شخصية سريعة وحتى في هذا الجانب لم يختلف عن كوادر الحزب الحاكم السابق قبل الثورة، أما العلاقة بالإرهاب فلم يستطع أحد إثباتها على الحزب رغم تنمر الجهاز الأمني والقضائي والإعلامي قبل ذلك ضد الحزب وكوادره وقواعده.
والممكن الانتخابي والسياسي هنا هو نقد الحزب على هذه القاعدة البرامجية والسياسية، لكن هذا الممكن غير ممكن وليس في ذلك أحجية، فمنافسوه السياسيون المفترضون أعجز منه على الابتكار وعلى ما أسميه بالخيال التنموي لما بعد ثورة الفقراء، ولذلك يعودون عند كل موسم انتخابي لوضع الديسك المشروخ إياه عن النهضة الإرهابية، ولذلك فإن هذه المعركة ليست معركة التونسيين.
بعد أن مررنا بسبع سنوات من التجربة يمكننا القول إن حزب النهضة ليس حزبًا فوق النقد ولا حزبًا يستحيل إسقاطه انتخابيًا، لقد فقد الكثير بين سنتي 2011 و2014 ويمكن أن يضعف أكثر لو نظر في مواقفه وسياساته على أساس ما يقدمه من حلول لتونس، لكن جره إلى مربع الإرهاب لم يعد مقنعًا للتونسيين إذ لم يعودوا ينظرون إلى النهضة من هذه الزاوية، وخاصة أن الحجج المقدمة ضده لا تقنع حتى أطفال المدارس مهما توالى الطرق الإعلامي، بل لعل الحزب يستفيد من هذه المعركة إذ يسخر من ضعف حجج خصومه ويواصل اللعب على موقع الضحية المظلوم بما يقوي لحمته الداخلية وبما يجذب له أنصارًا من خارجه يقتنعون يومًا بعد آخر أن النهضة ضحية للإرهاب وليست سببًا له.
فرض المعركة الخطأ في الوقت الخطأ
إلى متى تعيش تونس على وقع هذه المعركة التي يفرضها قوم فقراء الخيال على مستقبل شعب مل المعارك الوهمية؟ إن الأمل موجود هنا، تؤذن هذه المعركة بنهاية قريبة، فقد عجز خصوم النهضة عن الإتيان بالجديد ضدها، لقد عجزوا عن نقدها فيما تفعل سياسيًا لأنهم يعرفون أنهم أشد التصاقًا منها بالمنوال الميت بل هم جوهره ومعناه بيسارهم ويمينهم وهي إذ تدخل عليهم حيث هم يعجزون أكثر لأنها قادرة على الاستيلاء عليه من بين أيديهم وتبنيه وتلبّسه بحيث يمكن أن تصير هي النظام فيصيرون هامشها الصغير.
هنا تتضح المعركة أكثر، يمكن نقد النهضة كما يمكن تجاوزها لكن قبل ذلك تبين فقر خصوم النهضة وقد تم تجاوزهم فعلاً ومهما قيل عن تراجع رصيد النهضة الانتخابي فإن خصومها فقدوا وجودهم أصلاً ولن يمكن لهم الرجوع بالصندوق إلى أي موقع فاعل، إن هوانهم الذاتي يقضي عليهم وليس أدل على ذلك من استعانتهم بالدردوري، من الدردوري لقارئ عربي؟ إنه اللاشيء منفوخًا بهواء فاسد.
سيكون بإمكان الشعب التونسي في فترة قريبة أن يتعامل مع النهضة كحزب تونسي عادي فيحكم عليه بالصندوق دون المرور بحجج الدردوري، ساعتها يمكننا القول إننا نتقدم نحو المستقبل، لأن أبطال الوهم سقطوا بالتقادم.