يقول أوسكار وايلد: “قد يبدو الأمر معكوسًا، ولكن الحقيقة أن محاكاة الحياة للفن ليست أقل صدقًا من محاكاة الفن للحياة” ولإن كان تأثير الفن في المجتمعات مسألة بديهية، فهو مع الفن المعاصر أقل بداهة، ولا شك أنه لم تحدث مع مدرسة فنية ما قطيعة مع الجماهير كما حدثت مع مدارس الفن المعاصر، رغم أن التفاعلية من أبرز خصائصها، فهل الفن المعاصر فن عقيم؟ أم تراه يتعرض لسوء فهم تاريخي؟
نزور مع المخرج السويديِ روبرت أستلوند Östlund متحف الفن المعاصر بستوكهولم لنحاول التأمل في هذه الأسئلة كما طرحها فيلمه الفائز بالسعفة الذهبية لهذا العام “المربع”.
يروي فيلم المربع/الميدان The Square قطعة من حياة كريستيان Christian أمين متحف الفن المعاصر بستوكهولم، أقول قطعة لأنها لا تشبه كثيرًا السرد التقليدي، فالقصص متنوعة ولكنها تلتقي في شخصية كريستيان سواء داخل المتحف أو خارجه، أحداثها مستقلة بعضها عن بعض، غير أنها تدور في ذات الفضاء الزمكاني وتتقاسم بعض الشخصيات، شيء أقرب إلى السيول التي يتفرع بعضها عن بعض فيجري لحاله وإن كانت الأصول واحدة.
أبرز هذه الحكايات تبدأ مع حادثة النشل التي تعرض لها كريستيان عند ساحة (square) قرب المتحف الذي يعمل فيه، وتنتهي مع الولد الساعي لانتزاع اعتذار علني من كريستيان لاتهامه ظلمًا بالسرقة، وتتعلق القصة الثانية بشكل مباشر بالعنوان، فالتنصيبة الفنية الجديدة بمتحف الفن المعاصر تحمل اسم المربع، ولإشهارها للعموم يستنجد المتحف بوكالة تسويق عصرية لخلق “ضجة تسويقية” مناسبة، ثم هناك القصص الصغيرة كتلك العلاقة الغريبة التي جمعت بين كريستيان والصحفية الأمريكية في 4 مشاهد، أو الأحداث التي رافقت زيارة الفنان جوليان Julian (مقابلته الصحفية – العشاء الذي حضره – تنصيبته التي تقول: ليس عندك شيءYou have nothing).
لا شك أن أوستلوند يحب الدعابات الثقيلة، ومشاكساته لعالم الفن المعاصر لاذعة، لكنها ليست وحي أفكار نمطية خيالية بقدر ما هي وحي أحداث حقيقية فعلًا
والواضح أن أستلوند Östlund بهذا البناء الشجري الفريد، يمنح سرده القدرة على التغلغل قليلًا في عالم الفن المعاصر وتصوير مختلف الزوايا، وهو تصوير يتصنع العفوية بشكل ماكر يضاعف من حجم السخرية ويعطي الفيلم طابع الملهاة.
إن قراءة أولية للمربع تذهب إلى أن الفيلم ينتقد عالم الفن المعاصر، فالعمل الفني يخلو من الاجتهاد، يظهر ذلك في المقارنة الضمنية بين التمثال الكلاسيكي البديع المقتلع من ساحة المتحف وتنصيبة المربع البسيطة الساذجة التي حلت محله، والفنان المعاصر ليس إلا مدعيًا يبحث عن الإثارة وتسجيل الاختلاف لا غير، وهو ما قد ينطبق على الفنان Oleg الذي أدى دور الغوريلا في حفلة العشاء، أو ربما جوليان صاحب التنصيبة السخيفة التي لم يجد كريستيان حرجًا في ترميمها دون إعلام شركة التأمين.
والجماهير المهتمة بهذا الفن ليست أقل ادعاءً، وكان انتقادها في الفيلم واضحًا أكثر من مرة، خصوصًا خلال حفل إعلان تنصيبة المربع حين تجاهل الجميع كلمة الطباخ واتجهوا نحو الأكل، أما الأكثر ادعاءً فهم خبراء الفن والنقاد والمهتمون من أمثال كريستيان نفسه، الذين يكتبون كلمات رنانة غامضة لا يفهمونها هم أنفسهم، من قبيل: “ديناميكية المعرض ضد اللامعرض” ويتصنعون التلقائية ويخططون للارتجال.
ومن هذه الزاوية يبدو أستلوند حادًا تجاه هؤلاء القوم، فهو يؤكد على انتمائهم الطبقي من خلال مقارنة نمط عيشهم بنمط عيش المشردين، باستعمال مكثف للقطع القافز (Jump Cut)، فبين العشاء الفخم الذي يحظى به هؤلاء الأثرياء حين يتحدثون عن التكافل والمحبة، واللقم التي يجاهد المشردون للحصول عليها من المارة، لا شك أن الفارق صادم، ولكنه ليس فارقًا جديدًا أو غير معهود، لذلك ذهب كثير من النقاد إلى اعتبار الفيلم متهافتًا لا يضيف نقده الساخر جديدًا ولا يفضح مجهولًا، وينبش فيما هو رخو مستباحٌ.
لا شك أن أوستلوند يحب الدعابات الثقيلة، ومشاكساته لعالم الفن المعاصر لاذعة، لكنها ليست وحي أفكار نمطية خيالية، بقدرما هي وحي أحداث حقيقية فعلًا، ثم إن السخرية في النهاية ليست إلا نتيجة عرضية لما كان يريده المخرج السويدي في رحلته.
يبرز فيلم المربع جانب التكلف في الفن المعاصر، وهو تكلف غير ناجم عن رياء، بل عن فهم ساذج للذات والآخر
ولا يجب أن تحجب المواقف المحرجة/المضحكة عفويتها أو حسن نوايا أبطالها، لقد كان القائمون على المتحف يعملون بشكل جاد على تسويق الفن المعاصر وتقريبه للعموم، وكان واضحًا إيمان كريستيان أمين المتحف بمشروع المربع الجديد، فكان يحاول اعتبار مساعدة المحتاجين واجبًا يفرضه وجوده داخل المشترك الإنساني الذي يمثله المربع، لكن الطريق إلى سوء الفهم مفروش بالنوايا الحسنة.
لقد كان سوء الفهم سمة المشاهد التي جمعت كريستيان بعناصر الطبقة السفلى، ففي البداية تعرض كريستيان للخداع من بعض هؤلاء، وحين كانت سيارته التسلا Tesla في حي شعبي اُعتبر وجودها مستفزًا، وحين حاول أن يبدو بذات الذكاء المخادع ويسترد مسروقه، تسبب في مشكلة لصبي بريء، ثم إنه لم يجد التعامل مع الصبي، وتسبب له في أذى جسدي لم يرغبه، ولقد عبر كريستيان صراحة عن ذلك في الرسالة المسجلة لعائلة الصبي، معتبرًا أن هناك حاجزًا بين الطبقتين كثفته الأحكام المسبقة والصور النمطية، والطريف أن تلك الرسالة الصوتية ليست إلا حلقة أخرى من سوء الفهم ومن استعمال لغة غير مناسبة للمقام.
يبرز فيلم المربع جانب التكلف في الفن المعاصر، وهو تكلف غير ناجم عن رياء، بل عن فهم ساذج للذات والآخر، ينتمي رواد هذا الفن إلى طبقة مثقفة وثرية تحيا حياة مرفهة وهادئة، يؤمنون بالقيم المثلى ولهم التزام نسبي بها، لكنه التزام نظري وحين يكون عمليًا يظل بهم بعيدًا عن خط المواجهة، لذلك كان الذهاب إلى حي شعبي أشبه برحلة لباتمان في غوثام سيتي عند كريستيان وصاحبه، ولذلك أيضًا كان تواصله مع المشردين أو مع الصبي الغاضب تواصلًا مضطربًا متلعثمًا.
إن اقتراب هؤلاء من الطبقة السفلى أشبه بالاقتراب من الحياة، تخضهم اشتباكاتهم وجوعهم وصراخهم، وتذكرهم بغرائزهم الأولى.
إن تحفيز المشاعر (stimulation) مبحث مهم في أعمال الفنانين المعاصرين وعروضهم التشكيلية (Performances)، ولذلك كان عرض العشاء هو المشهد الرئيسي في الفيلم، ففي أثناء عشاء احتفالي أقامه المتحف لعلية القوم من المساهمين والمثقفين والنقاد والفنانين، يقدم آليك Oleg عرضه الخاص الذي يتمثل في محاكاة الغوريلا، يحاول العرض أن يأخذ القوم إلى الأدغال، حيث شريعة أخرى تسود، وحيث يشم الوحش رائحة الخوف في ضحيته.
أراد كريستيان من المربع أن يكون مساحة تواصل بين الناس على اختلافهم
أبدى الحاضرون إعجابًا بأصالة عمل الفنان، قبل أن يتمادى في أصالته ويفضح تصنعهم، حين اعتدى الفنان على المرأة كانت محاكاته للغوريلا قد بلغت ذروتها، وكانت رسالته الفنية قد نجحت في تحفيز مشاعر الرعب والكفاح من أجل البقاء، لكن هؤلاء الذين استظرفوا الفكرة واستقبلوا بداية العرض بالاستحسان، لم يأخذوا الأمر مأخذ الجد، والطريف أن أول من بادر إلى رفض العرض كان فنانًا آخر.
وفي المقابل، يمكن أن نقرأ حادثة السرقة التي تعرض لها كريستيان كعمل فني مدهش، استعمل فيه الفنان/النشال مختلف الأسلحة الفنية من تمثيل وتحفيز للمشاعر ولفت انتباه، لقد كان عملًا متقنًا فشل كريستيان في الرد عليه، فكانت إجابته كارثية تسببت في اتهام صبي بريء بالسرقة.
لقد أراد كريستيان من المربع أن يكون مساحة تواصل بين الناس على اختلافهم، لكن مربعات الواقع – تلك المربعات التي أصر أستلوند على إبرازها في خلفيات المشاهد أو أطرافها – لم تكن إلا مساحات اشتباك، فكان تواصل كريستيان كاذبًا وأقرب إلى العمل الخيري من الواجب الذي ادعاه.
واتضح أن على الفن المعاصر أن يتحلى بشيء من التواضع ربما، دون أن يتخلى عن نفسه المبدع والغامض والطريف، فأستلوند لا يرفضه ولا يرفض أدواته، بل يبدي احتفاءً بها، سواء العرض التشكيلي Art Performance أو الفن العلائقي Relational Art أو غيرها، بل يرفض سياقه، هذا العالم المعاصر نفسه، فهو صاحب الحواجز وسوء التفاهم والطبقية.
من الظلم اعتبار فيلم المربع مجرد ردة فعل انفعالية تجاه الفن المعاصر، وليست رحلة في عالمه تحاول أن تفهمه وتشاكسه، ربما بأسلحته
إن العالم المعاصر يتطور بشكل أكبر من قدرة الفن نفسه على استيعابه، فإذا هو أمام مواقف غريبة ومحرجة لا يعرف أحد فيها كيف يتصرف، هل نضحك لما يبدر من مصاب بمتلازمة توريت Tourette’s Syndrome بكل عفوية؟ أم نتجاهله على أساس أنه مرض كأي مرض آخر، وما يبدر من صاحبه عادي؟ ربما لذلك كانت قصة كريستيان مع الصحفية الأمريكية آن Anne (قامت بالدور إليزبث موس Elisabeth Moss) إحدى أهم فروع السيناريو.
فقد رصد عبرها المخرج مأزق العلاقات البشرية في هذا العصر: سوء التفاهم الناتج عن إفراط في التأويل وفي الحكم المسبق، بلغ ذروته في مشهد عبثي مضحك إلى حد هستيري، لقد كان الفن عاجزًا عن تحقيق لغة للحوار، بل كان صوتًا معرقلًا كما تبين في المشهد الأخير من علاقتهما، حين منعهما ضجيج تنصيبة الكراسي من التحاور بشكل سليم.
ويبرز المأزق التأويلي أيضًا في نهاية القصة الرئيسية، حين انقلب تأويل الصحفيين انقلابًا تامًا بمجرد أن أعلن كريستيان استقالته، ومن الحديث عن أخلاقية العمل الفني والمسؤولية تجاه أموال دافعي الضرائب، تحول الحديث عن قمع ذاتي وحرب ضد حرية الرأي، لقد اتسع المعنى في هذا العالم المعاصر حتى لم يعد قابلًا للفهم.
إن من الظلم اعتبار فيلم المربع مجرد ردة فعل انفعالية تجاه الفن المعاصر، وليست رحلة في عالمه تحاول أن تفهمه وتشاكسه، ربما بأسلحته، فالفيلم نفسه أقرب إلى قطعة فن معاصرة لا تخلو من عمل تجريبي ولمسات تشكيلية تجريدية (إبراز شكل المربع في مشاهد مختلفة وعبر عناصر متنوعة من المشهد، التذكير ببعض العناصر في مواضع مختلفة كالتذكير بالغوريلا من خلال قردة الصحفية) ولا شك أنه غزير بأفكار أخرى لا يتسع المقام لبحثها، لكنها ساهمت في تتويجه عن جدارة بسعفة كان الذهبية لهذا العام، ولا شك أنه أحد أجود أعمال هذه السنة.