هل تقع أمريكا والصين في “فخ ثوسيديدس”؟

العديد من المقالات والكتب تحدثت عن خطورة حدوث صراع عسكري بين الولايات المتحدة والصين وكيف يمكن تجنبه، وطرحت بين طياتها أسئلة حول المواجهة العسكرية بين الصين والولايات المتحدة، وهل هي حتمية ولا مناص منها، أم هي سيناريو بالإمكان تجنبه؟
آخر هذه الاصدارات وأبرزها كان لـ”جراهام أليسون”، أحد أبرز علماء السياسة الدولية، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد الأمريكية، وحمل عنوان “مقدرات للحرب: هل تستطيع أميركا والصين تجنب فخ ثوسيديدس” (هوتن ميفلن هاركورت ، 2017).
في هذا الكتاب، استطاع أليسون أن يأخذ القراء في رحلة من خلال حالات شبيهة في الماضي لحالة أمريكا والصين، حيث حدثت صراعات بين الأمم الصاعدة والقوى القائمة، وتحدث عن تفاصيل الفشل، وفي بعض الحالات كيف تمكنت هذه القوى من تجنب الحروب، مستمدا ذلك من مفهوم “فخ ثوسيديدس”.
“فخ ثوسيديدس”.. مسار تصادمي قد يفضي إلى الحرب
أتى جراهام اليسون، بمصطلح “فخ ثوسيديدس”، لتفسير العلاقة القائمة بين الولايات المتحدة والصين، وهو مستوحى من كتابات المورخ اليوناني ثوسيديدس عن حال العلاقة بين أثينا وإسبرطه والحرب الطويلة التي دارت بينهما في الفترة من عام 431 وحتى 404 قبل الميلاد.
ويُعد أليسون أولَ من صك هذه العبارة، ففي عام 2015 كتب مقالاً شهيراً حول هذا المفهوم في مجلة “ذي أتلانتيك” الأميركية، تحت عنوان تحت عنوان “فخ ثوسيدايدس: هل الصين والولايات المتحدة مقبلتان على الحرب”، قال فيه إن المقصود بالفخ هو “المخاطر المحدقة عندما تنافس قوة صاعدة وقوة مهيمنة”.
جرهام أليسون استشهد في كتابه بحالات التنافس بين الدول الصاعدة والدول القائمة في النظام الدولي على مدى الخمسة قرون الماضية (منذ عام 1500)، ووجد أن 12 من أصل 16 حالة كان التسابق بين القوى المتنافسة ينتهي فيها دائماً بالنزاع العسكري الطاحن
واستنادا إلى تاريخ “الحرب البيلوبونيسية” الذي كتبه المؤرخ ثوسيدايدس في عام 431 قبل الميلاد، استخلص أليسون أن تصاعد قوة أثينا في مختلف المجالات جعل أسبارطة -القوى الأبرز عسكرياً في تلك الفترة- تتخوف من ذلك الصعود، بعد أن كانت القوة المهينة في شبه جزيرة بيلوبونيز (اليونان الحالية)، فقررت الدخول في حالة منافسة أدت إلى الوصول إلى العداوة بينهما، ومن ثم الدخول الطبيعي إلى الحرب التي استمرت لنحو ثلاثين عاما، أفضت إلى القضاء على أثينا بل يمكن القول إنها قضت على العصر الذهبي للحضارة اليونانية لصالح أسبرطة.
ثيوسيديدس أرَّخ تغييرات موضوعية في القوة النسبية، لكنه ركز أيضا على تصورات التغيير بين قادة أثينا وأسبرطة، وكيف أدى ذلك بكل واحدة منهما إلى تعزيز تحالفاتها مع الدول الأخرى على أمل ايجاد موازنة مع الجانب الآخر، إلا أن ذلك سلاح ذو حدين، ولهذا السبب حذر جورج واشنطن الولايات المتحدة من مثل هذه التحالفات.
هذه الحادثة أثبتت لجرهام أليسون أن خوف قوة قائمة (الولايات المتحدة) من صعود قوة منافسة (الصين) وعدم الرغبة في التعاون بينهما سيؤدي إلى الوصول إلى فخ الحرب، على غرار تحدي أثينا لإسبرطة في اليونان القديمة، أو تحدي ألمانيا لبريطانيا قبل قرن من الزمن”.
هينري كيسنجر وماو زيدونغ في بكين 1975
التشابهات التاريخية ترسم سيناريوهات الحرب
أليسون استشهد في كتابه بحالات التنافس بين الدول الصاعدة والدول القائمة في النظام الدولي على مدى الخمسة قرون الماضية (منذ عام 1500)، ووجد أن 12 من أصل 16 حالة كان التسابق بين القوى المتنافسة ينتهي فيها دائماً بالنزاع العسكري الطاحن، الذي أضر غالبا بالطرفين، وتطلب الأمر في الحالات الأربع الباقية التي لم تنتهِ بالحرب جهودا جبارة وتعديلات كبيرة في المواقف والأفعال من قبل الطرفين.
الحالات الـ12 المشار إليها تجعل فرصة دخول الولايات المتحدة في حرب مع الصين حاضرة، مما يُدخل الطرفان في ما يُسمى بـ”فخ ثوسيديدس”، وهو ما يؤيده أليسون الذي يقول إن “الصين والولايات المتحدة تتواجدان حالياً على مسار تصادمي يفضي إلى الحرب، إلا إذا اتخذ الطرفان إجراءات صعبة ومؤلمة من أجل تفاديها”.
وبحث فريق من مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية في جامعة هارفارد –من بينهم أليسون- عدةَ حالات “شوّش فيها صعود دولة قوية على وضع دولة مهيمنة”، وخلص إلى أن “التوتر البنيوي الناجم عن ذلك يجعل من الصدام العنيف هو القاعدة وليس الاستثناء”، لكن كتابه الجديد يشير إلى نموذجين فقط من هذه النماذج التاريخية حظيا بدراسة معمقة، وهما: الصدام الأصلي بين أثينا وإسبارطة، والتنافس البريطاني الألماني قبل الحرب العالمية الأولى، وهذا النموذج الأخير انشغل به هنري كيسنجر أيضاً.
معظم الباحثين الذين يدرسون التنافس بين القوتين الأمريكية والصينية، يميلون عموماً إلى استبعاد أن يذهب أي من الطرفين إلى الحرب بشكل متعمد في عصر السلاح النووي
ومن بين النماذج التي يسوقها أليسون في كتابه، هناك بعض الأمثلة المثيرة للاهتمام التي يمكن أن تكون مفيدة ومليئة بالعبر، في حين تبدو أخرى أقل إقناعاً، ولعل أقرب نموذج شبيه بالوضع الحالي هو تحدي اليابان للهيمنة البريطانية والأمريكية في المحيط الهادئ خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهو تنافس انتهى بالحرب في النهاية، وكان الدور الذي لعبته القوة البحرية في ذاك التنافس، إضافة إلى الطريقة التي تطور بها التنافس الاقتصادي إلى نزاع عسكري، يحملان العديد من أوجه الشبه مع مسلسل تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين اليوم.
غير أن بعض النماذج التاريخية التي يشير إليها أليسون تبدو أقل تطابقاً مع مفهوم “فخ ثوسيديدس”، ومثال ذلك التنافس الذي كان قائماً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، إذ من غير الواضح أن تلك الحرب كانت نموذجاً لتنافس بين قوة قائمة وأخرى صاعدة؛ لأن كلاً منهما خرج من الحرب العالمية الثانية منتصراً، وكلاهما أنشآ نظامين أيديولوجيين متنافسين ومناطق نفوذ في نظام ثنائي القطبية.
ومن جهة أخرى، تمثل الحرب الباردة واحدةً من بين حالتين للتنافس يدرسهما أليسون، وقد حدثتا بعد اختراع الأسلحة النووية، واللافت هنا هو أن أياً من التحولين الكبيرين على صعيد القوة العالمية، اللذين حدثا في عصر السلاح النووي (التحول الآخر الذي يشير إليه الكتاب هو صعود ألمانيا الموحدة) لم ينتهِ بحرب، وهو ما يثير سؤالاً حول ما إن كانت هذه الأسلحة قد أنهت نظرية “فخ ثوسيديدس”، على اعتبار أنها ربما تجعل من الخطورة بمكان ذهاب دولة صاعدة إلى الحرب مع قوة قائمة، والواقع أن أليسون لم يغفل عن هذا السؤال، ولكنه بالطبع سؤال صعب لا يستطيع أليسون تقديم إجابة قاطعة له.
واللافت أيضاً أن معظم الباحثين الذين يدرسون التنافس بين القوتين الأمريكية والصينية، ويحاولون تصور واستشراف شكل الحرب التي قد تندلع بينهما، يميلون عموماً إلى استبعاد أن يذهب أي من الطرفين إلى الحرب بشكل متعمد في عصر السلاح النووي، غير أنهم لا يستبعدون، بالمقابل، إمكانية وقوع اشتباك محدود، في بحر جنوب الصين مثلاً، قد يتطور بسهولة إلى شيء أكثر خطورة.
خطوات مؤلمة لتفادي الفخ
“هل يمكن للولايات المتحدة والصين أن يتجنبا فخ ثوسيديدس؟”، للإجابة على هذا السؤال، يجب -بحسب أليسون- أن نفهم تعقد العلاقات الصينية الأمريكية، ويجب كذلك تحليل شكل العلاقات بينهما، فمن الناحية الاقتصادية، بلغ حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والصين 600 مليار دولار، وأصبحت الصين الدائن الرئيسي للولايات المتحدة؛ من هنا يأتي الخوف من هيمنة قوة على قوة جديدة صاعدة.
أما من الناحية الاستراتيجية، فقد زادت التوترات بينهما منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي كان يمثل التهديد الحقيقي الذي كان سببًا في قرب العلاقات بين الصين وأمريكا، حيث أنّ عدم وجود عدو مشترك تسبب في زيادة التوترات، وتتواجه الدولتان الآن في أجزاء من المحيط الهاديبدون أي إشارة للتوقف.
وخلال الأوقات العصيبة بين الدولتين في العقود الماضية مثلما حدث في أزمة تايوان 1995- 1996، وتفجير السفارة الصينية في 1999، كان هناك تهديد بقطع العلاقات الاقتصادية. والآن مع وجود ترامب ومستشاره التجاري بيتر نافارو -الذي ألف كتاب “الموت من الصين”، ودعا للتشكيك في فوائد العلاقات التجارية مع بكين- يبدو أن الحل في أي مشكلة بين الدولتين هو إنهاء العلاقات.
وفى الشهور الأخيرة ازداد التوتر بين الولايات المتحدة والصين حول عدد من القضايا التى تفاقمت بسبب فوز دونالد ترامب فى انتخابات نوفمبر 2016، حيث هدد بوقف التجارة بين الدولتين، وأشار إلى أنه قد يعمل مع تايوان في خرق لسياسة الصين الموحدة، ويضغط على الصين للتغلب على حليفتها كوريا الشمالية.
سوء تقدير المواقف الكامنة في العلاقات الامريكية الصينية الحالية أو سوء فهمها يسهم إلى حد كبير في المخاطر المرتبطة بفخ ثوسيدايدس
ومع ذلك، أوضح أليسون في كتابه أن الدبلوماسية الحميدة بين ترامب والزعيم الصيني “شي جين بينغ” يمكن أن تمنع إراقة الدماء والدمار. وبناءا على هذه العلاقات، أشار المؤلف إلى أن القوى العظمى يمكن أن تفلت من “الفخ”، لكن القيام بذلك في حالة الولايات المتحدة والصين يتطلب حرفة على غرار ما كان عليه البريطانيون في التعامل مع أمريكا المتصاعدة منذ قرن من الزمان، أو وجود الرجال الحكماء الذين وضعوا استراتيجية الحرب الباردة لمواجهة صعود الاتحاد السوفييتي بدون قنابل ورصاص.
وعرض أليسون 4 طرق لتجنب الصراع المحتمل، أولهم: توضيح المصالح الحيوية؛ حيث يجب أن توضح أمريكا مصالحها في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وثانيًا: ما الذي يستحق النزاع من أجله؟، وثالثًا: ما الذي يستحق القتل من أجله؟، رابعًا ما الذي لا يستحق في القتال من أجله؟
واستنادا إلى المسار الحالي، فإن سوء تقدير المواقف الكامنة في العلاقات الامريكية الصينية الحالية أو سوء فهمها يسهم إلى حد كبير في المخاطر المرتبطة بفخ ثوسيدايدس، فالأزمة العادية -على سبيل المثال- يمكن في ظروف اعتيادية احتواؤها، مثل اغتيال الأرشيدوق في عام 1914، لكنها قد تؤدي أيضا إلى ردود أفعال تؤدي بدورها الى نتائج لا يمكن لأي من الطرفين التحكم بها .
ويتطلب الإفلات من الفخ جهدا هائلا، كما أعلن ذلك شي جين بينج خلال زيارته لمدينة سياتل الأميركية، وقال إنه “لا وجود لفخ ثوسيدايدس اليوم، ولكن أذا أخطأت الدول الكبرى مرارا وتكرارا في حساباتها الاستراتيجية، فإنها ستوجد لنفسها مثل هذه الفخاخ”.
الفخ من المنظور الصيني
واجه البعض أزمات في تقبل بعض ما قاله أليسون، وعلى سبيل المثال، لم يتقبل البعض المقارنة بين الرئيس الصيني شي جين بينج والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث اعتبروا أنهما متشابهان في نفس الهدف وهو جعل أمتهما عظيمة.
وكذلك تشبيهه لسعي الصين أن تكون دولة آسيا الأولى بما فعلته أمريكا عندما أصبحت دولة عظمى منذ قرن مضى، وفي الوقت الذي أوضح أن الصين لم تتصرف بنفس عدوانية أمريكا إلا أنه ألمح إلى ما يمكن أن يحدث إذا اتخذت الصين طريق الحرب.
ومن المقاربات الفكرية الجديرة بالاهتمام هي تصور النسخة الصينية من أطروحة أليسون الذي قرر فحص الأمر من وجهة نظره أمريكية خاصة. فما الذي يمكن للصينيين تعلمه من التطبيق التاريخي للمواجهة التي تلوح في الأفق مع الولايات المتحدة المهيمنة؟
ورفض المحللون الصينيون -من مستوى الرئيس شي جينبينغ وأقل- قبول طرح أليسون المتشائم، وسط اعتراضات مماثلة طُرحت بشكل خاص من جانب مجموعة من كبار المسؤولين الصينيين، والتعاون المتواضع فيما بين الصين والولايات المتحدة في التعامل مع التهديد النووي الذي تشكله كوريا الشمالية والذي يفتح باباً محدوداً للأمل في أن تكون هذه اللعبة مربحة للجانبين.
في المقابل، هناك العديد من الأسباب التي تجعل الجميع يثني على هذا الكتاب، فهو السبب في أخذ الأمور بجدية وبداية الحديث عن الحرب المحتملة، والسبب أيضا في حديث الرأي العام عن احتمال نشوب حرب بين أمريكا والصين، وذلك ما يعتبر الإنجاز الحقيقي لهذا الكتاب.
بطبيعة الحال، إن كنت من المؤيدين لنظرية الفخ المطروحة، فإن هذه الفرضيات تأتي من قبيل المهدئات التي تشجع الولايات المتحدة على تجنب محاولة تصفية الحسابات مع القوة الصينية المتنامية.