“لأجلك أفعلها ألف مرة”، هتف بها حسن راكضا باتجاه الطائرة التي أسقطها مع أمير وجعلت من أمير فائزا في مسابقة (الطائرات الورقية)، تلك الكلمات تصف المشهد المفصلي في رواية (عداء الطائرة الورقية) ، المشهد الذي يحوي موقفا يُحيل علاقة أمير بصديقه حسن من أقصى اليمين لأقصى اليسار، بل يعصف بها تماما.
تبدأ الرواية من العام 1978 وتحكي عن أمير وحسن فتيان متقاربان في السن يعيشان سويا بمدينة كابُل الأفغانية، في نفس البيت لكن لكل منهما عالم مغاير تماما لعالم الآخر؛ أمير ابن رجل ثري يمتلك “فيللا” وسيارة وينتمي للطائفة الغالبة في أفغانستان حينها البشتون ، بينما حسن هو ابن الخادم علي يعيشان في غرفة صغيرة ببيت والد أمير وهما من طائفة الأقلية المنبوذة الهازارة.
أمير فتى هادئ الطباع يحب الكتابة ، غير انفعالي ومسالم لأقصى حد ، بينما حسن على النقيض تماما ويتولى الدفاع عن أمير إن لزم الأمر وهو ما تكرر اكثر من مرة حين حاصرهم بعض الفتية المتنمرين من قبيلة البشتون راغبين في الاعتداء عليهما اعتراضا على صداقة تجمع أمير – الذي هو من وجهة نظرهم من الأشراف – بحسن الصعلوك .
“كنت أنا وحسن، ونحن طفلان، نتسلق أشجار الحور في مدخل دار والدي، ونزعج جيراننا بقطعة مرآة نعكس بها أشعة الشمس داخل بيوتهم”
الإشكالية الحقيقية تكمن في علاقة أمير بابيه ومحاولاته التقرب منه بطرق شتى، الوالد مُحب لكنه يرى في أمير خيبة أمل كبيرة بسبب طباعه ، “رحيم خان” صديق الوالد يحاول دمج الأب والإبن واحتوائهم ، ينبه الوالد أن الأطفال ليسوا كتاب تلوين نلونهم بألوان تروق لنا ، ويقرأ لأمير قصته ويثني عليها .
مسابقة الطائرات الورقية
تاتي المسابقة لتمنح امير الفرصة في إبهاج والده ، يتقدم الفتيان للمسابقة ، يعملان معا على إسقاط الطائرة ، الأولى فالثانية فالثالثة حتى تسط كل الطائرات ويفوز الصديقان، يسعد الأب كثيرا بإنجاز ابنه ويستعيد أمير جزءً من ثقته بنفسه . الأب رجل واقعي جدا يفكر في العدالة وكيفية سير الأمور بالشكل الذي يضمن للجميع فرص متساوية .
يركض حسن لإحضار الطائرة الأخيرة لأمير ، يعترضه الفتية المتنمرون ويتعرض لحادث اعتداء جنسي من أحدهم ، يكون أمير شاهداً عليه دون علم أحد ودون أن يخبر أحد، يعجز أمير عن مساعدة صديقه ، ويحتفظ بالسر ، فضل أمير أن يظل والده على سعادته ولا يبوح بما رآه ، كي لا تضيع فرحة فوزه في المسابقة ويظل البطل في نظر والده .
“عندما تقتل رجلًا، فأنت تسرق حياةً، تسرق حق زوجته في أن يكون لها زوج، تسرق من أطفاله أباهم، عندما تكذب تسرق حق شخص في معرفة الحقيقة، عندما تغش تسرق الحق في المنافسة الشريفة”
السر
ظلت الحادثة سرًا لم يبُح حسن لأمير ولا العكس، إلا أن السر كان ثقيلا على أمير، وجود حسن أمامه دائمًا جعل شعور الذنب يلاحقه بلا توقف، اتخذ قرارًا بإبعاد الصديق للأبد من أجل إنهاء شعوره بالعجز والخذلان الذي يحمله تجاه صديقه، لفق لحسن اتهامًا على إثره رحل حسن ووالده من البيت، ظن أمير هكذا أن الأمر انتهى.
الهجرة
أحال دخول السوفييت لأفغانستان حياة الناس للنقيض، وكان من بينهم أمير ووالده، حيث اضطرا للهرب، ومن ثم طلب اللجوء للولايات المتحدة، تاركين ورائهم كل شيء، تمر سنوات كثر عمل فيها الاب في محطة بنزين ودرس أمير الطب، وارتبط بفتاة أفغانية تعيش في الولايات المتحدة وأصبح أمير كاتبًا كما أراد دومًا.
مكالمة تليفونية من السيد رحيم خان الميقم بباكستان تعيد أمير مرة أخرى لأفغانستان، مهمة فريدة من نوعها في انتظاره ومفاجأة لم تكن بحسبانه تفرض نفسها عليه. “جلست على مصطبة قرب صفصافة، فكرت في شيء ذكره رحيم خان قبل أن ينهي المكالمة، شيء أشبه بخاطرة راودته، يقول رحيم خان: “ثمة طريقة لتعود صالحاً من جديد”.
على أمير العودة لأفغانستان رغم خطورة المهمة، ورغم سيطرة عناصر طالبان على مقاليد الأمور هناك، وحكمهم على من هرب وقت الاجتياح السوفييتي بالموت والتمثيل بجثته ليكون عبرة.
“في أحد أيام الصيف، هاتفني صديقي رحيم خان من باكستان وطلب منى أن أذهب لرؤيته، وأنا أقف في المطبخ والسماعة على أذني، عرفت أن من على الخط لم يكن رحيم خان فحسب، بل هو ماضٍ مثقل بذنوب لم يُكفَّر عنها، أمير”. هل سيستطيع أمير إتمام مهمته؟ هل يصلح خطؤه ويكفر عن ذنبه؟ أم يفشل وتظل فعلته معلقة برقبته؟ تكشف الرواية الأحداث المثيرة بسرد مدهش وسلس .
رواية عداء الطائرة الورقية هي العمل الادبي الأول لخالد حسيني الطبيب (الأمريكي-الأفغاني)
وُلد خالد حسيني في كابُل بأفغانستان عام 1965، عام 1970 انتقل مع اسرته لإيران حيث عمل والده بسفارة أفغانستان في طهران. عام 1973 انتقلت عائلة حسيني لكابًل و وُلد أخوه الأصغر في نفس العام .
عام 1976 عندما كان خالد في الحادية عشر من عمره حصل والده على وظيفة في باريس ، انتقلت العائلة للحياه هناك ، ولم تستطع العودة مرة أخرى لأفغانستان بسبب الثورة على الحزب الشيوعي لاستيلائه على السلطة بإنقلاب دموي في إبريل 1978 بدلا من العودة ، في العام 1980 طلبت الأسرة حق اللجوء السياسي للولايات المتحدة ، وأقاموا في سان جونز بكاليفورنيا .
اتم دراسته الثانوية والجامعية وتخرج طبيبا في العام 1993، مارس الطب حوالي 10 أعوام قبل أن يطلق روايته الأولى “عداء الطائرة الورقية”. حسيني كان مندوب بالأمم المتحدة بالمفوضية العليا لشئون اللاجئين، وكان مستمرا في العمل من أجل تزويد المؤسسات الإنسانية بأفغانستان من خلال مؤسسته الخاصة “خالد حسيني”. وهو يعيش الآن في كاليفورنيا مع زوجته وولديه.
خالد حسيني
عن ظروف كتابة الرواية يقول حسيني إنه أراد كتابة قصة عن أفغانستان، كتب حوالي 25 ورقة ثم وضعها في درج مكتبه، بالصدفة عثرت عليها زوجته ودفعته ليكملها، لتخرج في النهاية رواية “عداء الطائرة الورقية “. صدرت الرواية عام 2003 في 507 صفحة ومقسمة لـ25 فصلاً، بيع منها حوالي 8 مليون نسخة في 34 بلدًا حول العالم .
في عام 2007 تحولت الرواية لفيلم سينيمائي بطولة الممثل العالمي خالد عبد الله، الذي جسد شخصية أمير، وممثلون آخرون بعضهم تعرض لمشكلات كالفتية الذين شخصيات الشباب المتنمرين، مم اضطر مخرج العمل لنقلهم للإمارات المتحدة للعيش هناك تجنبا للاحتكاك بهم من جانب مشاهدي الفيلم، إذ تحدث البعض أنهم يؤججون الفتنة والطائفية من خلال دورهم في الفيلم. يذكر أن الفيلم كله باللغة الأفغانية، إلا مقاطع بسيطة تحدث فيها الأبطال باللغة الإنجليزية.
خالد عبد الله يجسد أمير
من الملاحظ تشابه حياة بطل الرواية أمير، مع حياة المؤلف خالد حسيني؛ إذ كلاهما طبيبين وكلاهما أفغاني مهاجر للولايات المتحدة، وكلاهما شهد بعضا من مشاهد الحرب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، الأمر يجعلنا نضع ارتباطا ما بينهما لربما المؤلف أراد أن يؤرخ بعض لقطات حياته، وربما لا والأمر لا يعدو كونه مصادفة.
عداء الطائرة الورقية هي صراعات مركبة بعضها فوق بعض، صراع المشاعر وصراع السلطة وصراع الطبقية وصراع العنصرية وصراع المبادئ، صراعات متداخلة ومتشابكة تجبر القارئ على التعامل معها بهدوء من أجل إتمامها.
إلا أنها في نفس الوقت أبرزت لنا عالما لا نعرفه غيبته الحرب، الأجيال الجديدة التي لم تشهد أفغانستان في عزها، وطن جميل كان في السابق ينبض بالحياة والبهجة وأبرز مباهجها تنظيم مسابقات الطائرة الورقية.
طوال السنوات الماضية صُدرت لنا صورة أفغانستان المحترقة، ومشاهد الحرب والمسلحين والمدافع والطلقات النارية وأطفال أيتام وأشخاص فاقدي الأطراف. ربما نسى العالم أو تجاهل ذلك البلد الذي كان يمتلك وجها جميلا غني بالثقافة والفكر والأدب والحفلات والأسواق والمسابقات، عداء الطائرة الورقية حي حكاية الصداقة والخذلان والحب والرغبة في الوفاء وهي الكبرياء وحكاية الوطن الضائع واللجوء، الرواية متحيزة للإنسانية النقية وحفظ الانسان لأخيه الإنسان ولو كان ميتا. بعد سيطرة طالبان على أفغانستان ، مُنعت مسابقات الطائرات الورقية وتوقفت ولم تعود وتبقى منها ذكرياتها ، تماما كما حسن ، مات لكن مازال يحيا أثره الممتد.