ينقسم الصحفيون والعاملون في مؤسسات إعلامية في محافظة إدلب شمال غرب سوريا إلى قسمَين، الأول يعيش تحت ضغوط هيئة تحرير الشام، التنظيم العسكري المسيطر على المنطقة من خلال أذرعه المدنية متمثلة بحكومة الإنقاذ ووزارة الإعلام المستحدثة مؤخرًا، والقسم الآخر يتبنّى مبدأ الحيادية وغضّ النظر عن عورات سلطة الأمر الواقع، خشية قبضتها الأمنية.
الانقسام الحاصل فرضته سلطة الأمر الواقع، ودفع بالكثير من العاملين في مجال الإعلام إلى إسقاط اسمهم عن المواد المرئية أو المسموعة أو المكتوبة، أو العمل بأسماء مستعارة خصوصًا في القضايا التي تمسّ حكومة الإنقاذ أو تحرير الشام، فيما واصل آخرون العمل بأسمائهم الصريحة، آخذين بالحسبان أنهم سيصطدموا مع السلطة عاجلًا أم آجلًا.
وسائط ضغط
على خلفية الحراك الأخير ضد ممارسات هيئة تحرير الشام، واتّساع رقعة المظاهرات المناهضة لإدارتها لمحافظة إدلب ومناطق في المحافظات المجاورة لها، لجأت وزارة الإعلام في حكومة الإنقاذ (ذراع تحرير الشام المدنية) إلى التضييق على الصحفيين بأسلوب تراه قانونيًّا من وجهة نظرها، بهدف عدم تغطية تلك المظاهرات ونقلها لوسائل الإعلام، الأمر الذي يضرُّ بمحاولات الهيئة تجميل صورتها كتنظيم معتدل ذي رؤية للإدارة والحكم المدني.
وكشف صحفيون وناشطون تحدثوا لـ”نون بوست” وطلبوا إخفاء أسمائهم، أن وزارة الإعلام وجّهت خطابًا لعدة مؤسسات إعلامية محلية وعربية وأجنبية، تهدد فيه بصورة غير مباشرة بتعليق أعمال تلك المؤسسات في إدلب في حال لم يتوقفوا عن تغطية الحراك، على اعتبار أن بعض العاملين هم جزء منه، ما يتعارض مع مبدأ الحيادية في مهنة الصحافة.
بررت وزارة الإعلام تلك المراسلات بأنها لإبلاغ بعض المؤسسات بأن مراسليها والمتعاونين معها يقودون أو يتبنّون نشاطًا سياسيًّا غير عملهم الإعلامي، وأن ذلك النشاط يهدف إلى خلق فوضى في مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ.
مدير العلاقات العامة في وزارة الإعلام أحمد العبود، عبر منشورات على صفحة الوزارة في موقع فيسبوك، لم ينفِ تهديد الوزارة لوسائل الإعلام، واكتفى بالقول إن “الوزارة تنظّم العمل الإعلامي في إدلب، وأنها لم تمنع أيًّا من الصحفيين الذين غطوا المظاهرات ضد هيئة تحرير الشام”.
ويشير الصحفيون ممّن دأبوا على تغطية الحراك المناهض لتحرير الشام في حديثهم لـ”نون بوست”، إلى أن الهيئة وعبر أذرعها المدنية، لم تعد تمنحهم أو تقوم بتأخير منح موافقات التصوير في مرافق مدنية أو تجمعات عامة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الراغبين بالحصول على تصريحات من بعض مؤسساتها المدنية والخدمية، وكل ذلك له تفسير واحد هو عرقلة عمل الإعلاميين والصحفيين المناهضين للهيئة، حسب قولهم.
العمل في ظلّ الأسماء المستعارة
اللجوء إلى خيار التغطية والنقل الصحفي تحت اسم مستعار، هو أول ما يخطر في بال المتخوفين من ضغوط وتضييقات تحرير الشام، كما اختارت رجاء الإسماعيل، وهو اسم مستعار لمراسلة لوكالة أنباء محلية، نجحت في مواكبة الأحداث في إدلب وتغطيتها خبريًّا لحظة بلحظة، دون أن تعرّض نفسها لمساءلة الإنقاذ أو التضييق من قبلها.
لا تخفي الإسماعيل شعورها بالطمأنينة وقد واصلت عملها وفق خطة العمل دون أي مشاكل، وتضيف: “عادةً ما أكتب باسمي الصريح، وعلى الصعيد المهني عادةً ما يعطي اسم الكاتب أو المعدّ قبولًا أوسع لدى القراء والمتابعين، خصوصًا أن البعض قد تساوره بعض الشكوك حول المصداقية والأمانة في النقل”.
وتتابع المراسلة: “لا أفضّل الصدام مع وزارة الإعلام التي استعدتني عندما كانت قبل سنة واحدة مديرية للإعلام، على خلفية كتابة مقالات تسلّط الضوء على الخنق الاقتصادي الذي تمارسه تحرير الشام في إدلب، مدّعية أنّ كتاباتي تحمل مغالطات تستوجب إيقافي عن العمل وسحب بطاقتي الصحفية الصادرة من قبلهم، ولا أودّ لهذا السيناريو أن يتكرر وأقدّم لهم أي اعتذار بالإكراه”.
من جانبه، رأى حسان الأحمد، وهو اسم مستعار لمتعاون مع إحدى الصحف الإقليمية، أن مواصلة عمله تستوجب منه إسقاط اسمه عن التقارير التي يعدّها والصور الملتقطة من قبله، وتركها تحت ملكية الصحيفة بالكامل هو الخيار الأنسب في الوقت الراهن، حسب قوله لـ”نون بوست”.
ويضيف الأحمد: “لم تقم تحرير الشام أو وزارة الإعلام في حكومتها بالتضييق على الصحفيين والإعلاميين والناشطين بشكل مباشر، وقد يكون ذلك ضمن استراتيجيتها في امتصاص غضب الشارع واستيعاب المظاهرات منعًا لتوسع رقعتها، لكن أنا والكثير من الزملاء على يقين تامّ بأنها لن ترأف بمن سلّط الضوء على الحراك المناهض لها مستقبلًا”.
النأي بالنفس
تعاطت شريحة واسعة من النشطاء والصحفيين في إدلب مع الحراك الأخير على أنه حراك ناجم عن “مشاكل البيت الواحد”، معتبرين أن نواته العسكريون الذين اعتقلهم جهاز الأمن العام بأوامر من قيادة الهيئة إثر اتهامهم بالعمالة، ثم خروجهم بعد أشهر من التعذيب البدني والنفسي حاملين صكوك البراءة.
وترفض الشريحة تلك الخوض في تغطية خبرية أو مادة صحفية أو نقاش عام يتعلق بهيئة تحرير الشام أو المتظاهرين ضدها، رغم إقرارهم بشرعية المظاهرات ومطالب المتظاهرين.
الناشط الإعلامي محمد قشاش أكّد في بيان نشره على حسابه في فيسبوك اعتزاله كل ما يتعلق في الحراك المناهض لتحرير الشام، على اعتبار أن الحراك السلمي ولّد خصومات واضحة بين المتظاهرين ومؤيدي الهيئة وزعيمها أبو محمد الجولاني.
القشاش، الذي يشاطره العشرات الرأي ذاته، ختم بيانه بالنأي بنفسه، وبدعوة الناشطين إلى إبقاء حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بعيدة عن أي قضية “تثير الفتنة في صفوف الثورة السورية”، بحسب بيانه.
انحياز لتحرير الشام
لم يخفِ بعض النشطاء الإعلاميين والمؤثرين على منصة تيكتوك انحيازهم لهيئة تحرير الشام، معتبرين أنها القوة التي منعت قوات النظام السوري من مواصلة عملياتها العسكرية تجاه محافظة إدلب، ومتغنّين بالإنجازات التي حصلت تحت إدارتها كالمولات والطرق الواسعة بعض معالم البنية التحتية.
مسألة الانحياز لم تقف عند حدود تلميع صورة تحرير الشام سواء عسكريًّا أو أمنيًّا، أو فيما يتعلق بالإدارة المدنية، إنما دفعت بالإعلاميين والنشطاء الموالين لها لمهاجمة الثائرين ضد ممارسات الهيئة، واتهامهم بأنهم مموّلون وتابعون لتيارات وفصائل معادية للهيئة، في تكرار مماثل لاتهام وسائل إعلام النظام السوري للثأئرين ضده عام 2011.
في خطوة موازية، حرّكت تحرير الشام جيوشًا من الذباب الإلكتروني على شكل آلاف الحسابات المجهولة على مواقع التواصل الاجتماعي، للترويج لمحاسن الهيئة والتذكير بإنجازاتها، والقياس على الحالة العامة لمناطق سيطرة النظام السوري، أو مناطق سيطرة الحكومة السورية المؤقتة، أو مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، بواقع إدلب، هذا من جهة.
من جهة أخرى، يهاجم الذباب الإلكتروني حسابات الإعلاميين والنشطاء ونشطاء الحراك السلمي المناهض للهيئة، إذ تهدف تعليقات وردود الحسابات المجهولة إلى تحريف المنشور الأساسي وجرّ صاحبه للإساءة للهيئة وأذرعها، وفي حال لم تنجح الخطة تنهال الشتائم والإساءات على صاحب المنشور المعارض، لإجباره على حذفه أو إخفائه أو قفل التعليقات، مستغلين الخصوصية العامة لحسابات الناشطين، خصوصًا الحسابات الاحترافية على فيسبوك.
وهكذا، يرى المراقب للوسط الإعلامي في إدلب أن الفاعلين في القطاع انقسموا بين معارض ثائر ضد الهيئة أو محايد أو موالٍ لها، الأمر الذي قد ينعكس على جودة التغطيات الصحفية ويكرس الانقسامات المجتمعية القائمة أصلًا في المنطقة التي تواجه تحديات عديدة، ليس أقلها سلطة الأمر الواقع ذاتها.