تتمثل خسارة السودان الكبرى من الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع المستمرة لعام كامل، في فقدانه فرصة استعادة الحكم المدني عبر عملية سياسية كانت ميسّرة إقليميًّا ودوليًّا، اتفق فيها الجميع على معظم القضايا سوى بنود تتعلق بالقيادة والسيطرة بشأن دمج الدعم السريع ومقاتلي الحركات في الجيش.
ولا شكّ أن الخسارة الثانية تتمثل في تمزُّق النسيج الاجتماعي، في ظل حالة الاستقطاب والاستقطاب المضاد التي غذّاها طرفا النزاع بالمعلومات الزائفة والحرب النفسية والدعاية الحربية، إضافة إلى التجييش بمختلف أساليبه بما في ذلك تسليح المدنيين، ما عمّق أزمات مكونات المجتمع السابقة بصورة تصعب معالجتها.
ورغم خسائر السودانيين الفادحة من النزاع، إلا أن طرفَيه لا يزالا أكثر إصرارًا على تسوية خلافاتهما عبر القوة العسكرية، ضاربَين بمعاناة ملايين الأشخاص والدعوات المحلية والإقليمية والدولية باستئناف التفاوض عرض الحائط.
تأثيرات التمدد جغرافيًّا
باتت 13 من أصل 18 ولاية سودانية مناطق نزاع نشطة بين الجيش وقوات الدعم السريع والجماعات المتحالفة معهما، حيث تخضع 4 ولايات من مجموع الـ 13 ولاية، وهي غرب وجنوب ووسط وشرق دارفور، لسيطرة الدعم السريع، بينما يهيمن الجيش كليًّا على ولايات النيل الأزرق وكسلا والبحر الأحمر ونهر النيل والشمالية.
يعود تمدد الدعم السريع في 13 ولاية إلى طبيعة تكوينه بأنه قوات هجومية تعتمد على أسلوب حرب العصابات والهجمات الخاطفة، وربما هذا ما دفع الجيش إلى استمرار الدفاع عن قواعده والانسحاب من بعضها لتشتيت خصمه، قبل أن ينتقل إلى مرحلة الهجوم التي بدأها في أواخر يناير/ كانون الثاني هذا العام.
يعمل كل طرف على قطع خطوط إمداد الإغاثة والأغذية والأدوية والتجارة إلى مناطق الطرف الآخر، ربما لإثارة الغبن الاجتماعي عليه تاركين الجوعى بلا طعام.
كما أثّر تمدد الحرب في مناطق واسعة على الموسم الزراعي، وانخفض إنتاج الحبوب في موسم 2023 بنسبة 46% مقارنة بالموسم السابق، حيث بلغ الإنتاج 4.1 ملايين طن، بينما يحتاج السودان ما بين 5. 5 إلى 6 ملايين طن من الحبوب لتغطية حاجته من الغذاء، ولا شك أن وضعه الحالي لن يمكّنه من تمويل استيراد هذا العجز.
وفقدَ معظم السودانيين وظائفهم بعد التدمير الواسع الذي لحق بالقاعدة الصناعية والأنشطة التجارية والأعمال الحرفية في الأيام الأولى من اندلاع النزاع، لكن القوة العاملة في قطاع الزراعة والرعي بدأت تفقد مصالحها تدريجيًّا جراء انعدام الأمن.
وجعل هذا التأثير نصف السودانيين البالغ عددهم 49 مليون نسمة تقريبًا بحاجة لمساعدات إنسانية، منهم 18 مليون شخص يعانون من الجوع الشديد، ومن ضمن هؤلاء يوجد قرابة 5 ملايين على بُعد خطوة واحدة من المجاعة، ما جعل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية يضع خطة طارئة للحيلولة دون وقوعها.
التحكُّم في الإغاثة
ظلت الأمم المتحدة تشتكي من ضعف تمويل خطة الاستجابة الإنسانية الخاصة بالسودان التي مُوِّلت بنسبة 5% من مجموع 2.7 مليار دولار تتطلبها، لكن المؤتمر الذي نظّمته فرنسا بمشاركة مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي استطاع حشد أكثر من مليارَي يورو لدعم الأوضاع الإنسانية.
لم يضع طرفا النزاع أي اعتبار لحياة المدنيين طوال حربهما، ما ينذر بزيادة وتيرتها خلال الفترة المقبلة في ظل تناقص الموارد المالية وتدهور الوضع الاقتصادي.
وإذا التزم المانحين بتعهُّداتهم هذه المرة، وهو أمر غير مرجّح، فإن وكالات الأمم المتحدة وشركاءها الإنسانيين لن يستطيعوا التغلب على إصرار الجيش وقوات الدعم السريع على التحكم في مرور الإغاثة بشتى الطرق.
وفرض الجيش، وفقًا لمنظمة هيومن رايتس ووتش، قيودًا بيروقراطية تعسُّفية أعاقت عمل وقدرة المنظمات الإنسانية على الوصول إلى المحتاجين، بما في ذلك تأخير ورفض وعدم الاستجابة لطلبات الحصول على التأشيرات وتصاريح السفر، كما أنه اشترط إدخال الإغاثة عبر المعابر التي يتحكم فيها.
وتقول المنظمة الحقوقية إن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها، هاجمت مرارًا إمدادات المساعدات ومستودعات برنامج الأغذية العالمي، ونهبت الأغذية الموجّهة إلى مخيمات النازحين في إقليم دارفور.
ويعمل كل طرف على قطع خطوط إمداد الإغاثة والأغذية والأدوية والتجارة إلى مناطق الطرف الآخر، ربما لإثارة الغبن الاجتماعي عليه تاركين الجوعى بلا طعام، في انتهاك يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية.
انتهاكات بلا حدود
وارتكب الجيش وقوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة ترقى في بعض الحالات إلى جرائم حرب، حيث قتل الجيش مدنيين بشكل غير قانوني، ونفّذ غارات جوية استهدفت عمدًا البنية التحتية المدنية، بينما نفّذت قوات الدعم السريع عمليات قتل واسعة، واستخدمت أسلحة متفجرة ثقيلة في مناطق مكتظة بالسكان، وتورّطت في أعمال عنف جنسي وعمليات نهب واسعة.
وبدأت قوات الدعم السريع تهاجم، عمدًا، تجمعات المدنيين في المناسبات الخاصة، عبر القصف المدفعي في أحياء العاصمة الخرطوم وبعض مناطق دارفور، على غرار القصف الذي شنّته في شرق الخرطوم في نهاية الأسبوع السابق.
وفقدَ الدعم السريع أي مشروعية سياسية أو أخلاقية بعد الانتهاكات واسعة النطاق التي ارتكبها عناصره، بما فيها العنف الجنسي المتصل بالنزاع، لذلك لا يملك غير العنف لتوطيد حكمه على المدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرته.
ولم يضع طرفا النزاع أي اعتبار لحياة المدنيين طوال حربهما، ما ينذر بزيادة وتيرتها خلال الفترة المقبلة في ظل تناقص الموارد المالية وتدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، حيث أصبح معظم السودانيين يعتمدون على التحويلات التي تصلهم من معارفهم خارج البلاد.
تدهور الاقتصاد
قدّر مدير المكتب الإقليمي للدول العربية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عبد الله الدردري، خسائر السودان خلال عام من الحرب بفقدانه 25% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ 34 مليار دولار بنهاية عام 2021، وفقًا للبنك الدولي.
وقال إن استمرار هذا الوضع يعني تآكُل الاقتصاد السوداني، ما يجعل تعافيه أكثر صعوبة، إذ إن التعافي يصبح أكثر صعوبة كلما تآكلت الموارد والقدرات المتاحة على التعافي والقدرة الإنتاجية والبنى التحتية وقدرات التسويق والتمويل وغيرها.
ويعتبر هذا التقدير أقل من تقديرات وزارة التجارة السودانية، التي صرّح مسؤول فيها لـ”الجزيرة نت” بأن الخسائر تصل إلى أكثر من 200 مليار دولار، بعد توقف ما لا يقلّ عن 1000 منشأة اقتصادية عن العمل منذ اندلاع الحرب، جميعها تعمل في مجالات الصناعة والتجارة والغذاء والدواء، بسبب تدميرها كليًّا أو جزئيًّا.
تمضي أوضاع السودان في كافة صعدها إلى التدهور بوتيرة متسارعة جدًّا، ما يجعله أقرب إلى الانهيار الشامل في ظل تعدد أطراف النزاع وانتشار السلاح بكثافة وتفشّي الاستقطاب الأهلي.
وكشف وزير المالية، جبريل إبراهيم، في 26 فبراير/ شباط عن انخفاض إيرادات الدولة بنسبة تزيد عن الـ 80%، وقال إن الاقتصاد انكمش عام 2023 بنسبة 40%، ورغم الاحتياجات الهائلة تحدّث المسؤول عن أن أولوية موازنة العام الجاري، والتي لم يُعلن عنها، تتمثل في الإيفاء بالتزامات المجهود الحربي.
وأرجع انخفاض قيمة الجنيه السوداني بنسبة 100% إلى الصرف العسكري المتزايد من جملة أسباب أخرى، موضحًا أن الحكومة سعت إلى التحكُّم في سعر الصرف، كما ألمح إلى شرائها العملات الصعبة من السوق الموازي لتغطية التزامات الحرب العسكرية.
وأدّى انخفاض العملة المحلية إلى تآكُل القوة الشرائية للسودانيين بينما ترتفع أسعار السلع والخدمات بوتيرة متصاعدة، حيث أفاد 43% من سكان الريف بعدم قدرتهم على إجراء عمليات الشراء الأساسية، حيث قال 64% منهم إن ارتفاع الأسعار هو العائق الأساسي، وفقًا لدراسة جديدة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائي.
مستقبل البلاد على المحكّ
فرَّ 8.6 ملايين سوداني من منازلهم منذ اندلاع النزاع، منهم 6.6 ملايين نازح داخليًّا يقيمون عند المجتمع المضيف أو في مراكز إيواء مؤقتة وغالبًا ما تكون مدارس حكومية، ومن مجموع الفارّين هناك 4 ملايين طفل.
وتتوقع منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة “اليونيسف” أن يعاني 4 ملايين طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد هذا العام، بما في ذلك 730 ألف سيعانون من سوء التغذية الحاد الشديد الذي يهدد حياتهم، نصفهم يعيشون في مناطق يدور فيها قتال مستمر.
وتقول اليونيسف أن النزاع تسبّب في عدم تمكُّن أكثر من 90% من الأطفال في سن المدرسة، البالغ عددهم 19 مليون طفل في البلاد، من الوصول إلى التعليم الرسمي، حيث يؤدي التعطيل المستمر للتعليم إلى أزمة أجيال في السودان، وذلك بعد إغلاق أكثر من 10 آلاف مدرسة.
يؤدي توقف العملية التعليمية إلى زيادة استخدام الأطفال وتجنيدهم، وهذا ما أكدته الوكالة المعنية بالطفولة التي كشفت عن زيادة بلاغات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأطفال بمقدار 5 أضعاف عام 2023 مقارنة بالعام الذي سبقه، خاصة تجنيدهم من قبل الجيش والجماعات المسلحة.
تمضي أوضاع السودان في كافة صعدها إلى التدهور بوتيرة متسارعة جدًّا، ما يجعله أقرب إلى الانهيار الشامل في ظل تعدد أطراف النزاع وانتشار السلاح بكثافة وتفشّي الاستقطاب الأهلي.