لا جدال في أن المشهد العربي الأكثر تأثيرًا وحضورًا في تونس هو حرب الطوفان وتطورات الوضع على الأرض وفي السياسة، لكن الحدث المحلي الذي يزامن هذا الانشغال هو الوضع السياسي المحلي باقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
فالمتابع للوضع في تونس يرى أن موضوع الانتخابات فرض نفسه على الساحة، حيث تقدمت بعض الأسماء معلنة ترشحها قبل أن تفتح الهيئة الانتخابية الباب القانوني للترشح، فيما ظلت الأحزاب ذات الوزن وخاصة حزب النهضة صامتًا يداري موقفه ويؤجل التصريح بأي موقف رسمي من المسألة.
يبدو هذا الأمر طبيعيًا في ظل الأجواء السياسية التي يهيمن عليها الرئيس الواثق من سياساته والمتمسك بسلامة موقفه والمانع كل معارضة أو نقاش جدي بين مكونات المجتمع السياسي، لذلك فإن الحسم في هذا برأي أو موقف سيكون مبكرًا أو مستعجلًا، والملاحظ أيضًا وهو ما نود الخوض فيه أن حرب الطوفان لم تعدل الخطاب السياسي والانتخابي للنخبة السياسة في تونس كأن الحرب لم تقع وكأن أحوال العالم من حول تونس لم تتغير.
الانعكاسات المتوقعة
الحرب وقعت في فلسطين، لكن كل التحاليل العربية وغيرها تتفق على أن آثار هذه المعركة ستتسع حتى تشمل المحيط الجغرافي والسياسي لفلسطين، وأن الأنظمة المحيطة بغزة ستشهد قبل غيرها تغيرات في العمق.
تتوقف التحليلات عن توقع أشكال هذه التغيرات وزمنها، وتحتار في كيفية احتياط الأنظمة وخاصة بلدان الطوق وطوق الطوق (إذا جاز التقسيم) ومنها تونس، للحفاظ على مواقعها وطرقها في الحكم وهي طرق معادية للديمقراطية.
لقد كشفت حرب الطوفان أن الأنظمة العربية قامت بدور فعال في إسناد العدو بكل أنواع الإسناد السياسي والمعيشي، فظهرت كدرع واق للكيان الصهيوني، معولة على أن يرد لها الفضل بدعمها في مواجهة تغيرات داخلية مستحقة.
والسؤال المعلق الآن هو: هل يقدر الكيان بعد حرب الطوفان أن يقدم خدماته لهذه الأنظمة فيحميها من السقوط؟
لقد بانت هشاشته وحاجته إلى الحماية فانكسرت معادلة التطبيع مقابل الحماية، ولم يبق لهذه الأنظمة إلا المزيد من الخنوع والتذلل للكيان ولحماة الكيان الحقيقيين أي الولايات المتحدة والغرب الأوروبي، ولا شك أن هذا التذلل سيكون على حساب الشعوب بقهرها ومنعها من كل حراك يطمح إلى الديمقراطية.
في المشهد العربي العام حركة مقاومة شجاعة انتصرت بالدم وحمت كيانها وصار لديها طموح إلى تحرير شامل، أي أنها سترفع احتمالات حدوث حروب أخرى في زمن منظور، بما يزيد من حرج أنظمة الطوق أمام الكيان وأمام شعوبها قبل أن تتجاوز آثار حرب الطوفان.
الخيبة في تونس
في الخطاب الانتخابي الذي بدأ ينتشر بتونس في انتظار الموعد الانتخابي الرئاسي لم نعثر على أي أثر لحرب الطوفان، فلم يشر أي من المترشحين إلى أن السياسة المحلية الهادفة إلى الاستقلال السياسي تمر عبر استثمار حرب الطوفان محليًا، أي بناء خطاب سياسي سيادي يعتمد محاسبة الدول التي ساهمت في الحرب وتعاملت مع غزة والعرب من حولها بصفتهم شعوبًا بلا قيمة ولا قدر، وترجمة ذلك تكون عبر تأسيس عملية اقتصادية مستقلة بالأساس عن الغرب الأوروبي، أي الخروج من وضع التابع أو الملحق لهذا الاقتصاد وطرح بدائل استقلالية.
لقد غلب حديث الإصلاح السياسي التقليدي على خطاب المتقدمين للمنصب (وحتى على حديث الذين ينوون الترشح ولم يعلنوه بعد) مع استعادة كل حديث المطالبة بالحريات الأساسية التي دمرها الانقلاب بعد الثورة، وهو في تقديرنا خطاب تقليدي منكب على هموم تقليدية لم تنتبه إلى معطى مهم كشفته حرب غزة وهو أن الديمقراطية والحريات لا تبنى تحت الاحتلال.
هنا تخيب الانتظارات المتفائلة بحرب الطوفان، فالحديث السياسي الجاري الآن من المعارضة القديمة والجديدة ما زال يراوح في موقعه ويكرر نفسه بذات الجمل كأن لم ينكشف المستور، وما زالت الطبقة السياسية تراهن على استعادة نمط العلاقات الاقتصادية مع الغرب، ولم يتحدث أحد عن ضرورة التغيير في الأحلاف والتوجهات. ما زالت النخبة السياسية التونسية رهينة سياسات سبقت تجربتها وكشفت فشلها نتيجة استهانة الأوروبيين بهذه الدول ومعاملتها كهوامش لسوقها.
هل هذا التحول ممكن؟
هذا التحول يبدو مستحيلًا لأن الأمر يتعلق بعلاقات سياسية واقتصادية راسخة، لكن من كان يظن أن حرب الطوفان ممكنة؟ على هذا القياس فإن معركة استقلال سياسي في تونس تصبح ممكنة بشرط أن تتحلى النخبة السياسية بنفس ما تحلت به حماس والمقاومة عامة في حرب الطوفان، أي الإيمان بإمكان التغيير والاستعداد للثمن وجر الناس إلى معركة استقلال قد لا تحتاج فيها إلى سلاح ولكنها لن تكون بلا ثمن.
لقد تأخرت هذه المعركة بعد الثورة وخشيت النخبة دفع الثمن، فحصلت الردة المتوقعة وعادت الهيمنة الغربية على مصائر البلدان والشعوب كأن لم تحصل ثورة ولم ترفع مطالب الاستقلال.
وقد طرحت حرب الطوفان مسألة الاستقلال والسيادة إزاء الغرب الاستعماري من جديد، فتبين أن لا فرق بين نظام أوسلو وبقية الأنظمة العربية، وقد تجلى أن الشعوب في غالبها في وادي المقاومة والأنظمة في وادي نظام أوسلو مجازًا وواقعًا، والانفصال بينهما هو الاحتمال الأقرب.
لذلك نرى أن استعادة حياة سياسية بعد انقلاب تونس (ونقيس على انقلاب مصر) لن يكون له أي جدوى إذا نوت الإبقاء على وضع التبعية السياسية والاقتصادية مع الغرب، ستقوم فقط بتأجيل الحلول إلى زمن آخر بعد أن ترتفع الأثمان الاجتماعية، لكن لا أفق ولا مستقبل دون الاستثمار في حرب الطوفان عبر فرض حديث الاستقلال على الغرب، وهو أمر يشبه البدء من صفر مشابه للنقطة الصفر التي بدأت منها الدول العربية حياتها بعد الاستقلال ولم تفلح في فرض استقلالها فخضعت.
لا نظن خيرًا بالنخبة السياسة التونسية الحاليّة بكل مكوناتها، لأنها رغم إظهار المواقف المتعاطفة مع الحق الفلسطيني ومع شرعية المقاومة (وهي مواقف استهلاكية غير فعالة) توقفت في منتصف الطريق إلى الاستقلال، وها هي تستعيد شروط الخضوع ولا تفكر في احتمال الاستقلال، فلا أحد عدل بوصلته على غزة بعد، وهذه خيبة موجعة.