لا شيء يشغل السودانيين هذه الأيام غير زيارة الرئيس عمر البشير إلى روسيا والتصريحات المزدوجة التي أدلى بها خلال مباحثاته مع نظيره فلاديمير بوتين وفي مقابلة مع وكالة أنباء سبوتينك الروسية، إذ اشتكى البشير من التدخلات الأمريكية في المنطقة وعرض على الروس إقامة قاعدة عسكرية في ساحل البحر الأحمر من أجل حماية السودان من البطش الأمريكي.
توقيت مفاجئ
ما هي إلا دقائق معدودة وانتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، فقد ضجّت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بالتصريحات التي أثارت الجدل لسببين رئيسيين، أولهما: أنه لم يمضِ على قرار الولايات المتحدة رفع العقوبات المفروضة على السودان سوى فترة بسيطة “أقل من شهرين”، وثانيهما: أن وزير الخارجية الأمريكي جون سوليفان اختتم زيارة تاريخية ناجحة إلى الخرطوم قبل أسبوع واحد، أشاد فيها بمستوى التقدم في العلاقات بين البلدين وعبّر عن تفاؤله بقرب رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، رغم أنه امتنع عن مقابلة الرئيس البشير واكتفى بالاجتماع مع نائبه الأول بكري حسن صالح.
الموضوع يبدو متشعبًا ومعقدًا جدًا، ولكي نفهم حيثيات ما جرى ربما يتوجب علينا استصحاب النقاط التالية:
أولًا.. الدعوة التي وجهها بوتين إلى البشير لزيارة روسيا كانت منذ يوليو/ تمّوز الماضي، حيث صرّح وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور آنذاك: “الرئيس البشير سيزور موسكو في منتصف أغسطس/ آب، بدعوة من الرئيس فلاديمير بوتين”، وأضاف أن الزيارة تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية والتجارية والسياسية، وأشار غندور إلى أن روسيا “داعم أساسي للسودان في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وفي المنظمات الدولية الأخرى، وأن التعاون بين البلدين متواصل”، لسبب ما أو لآخر لم تتم الزيارة في موعدها ولم يعلن تأجيلها.
ثانيًا.. جاءت تصريحات البشير متزامنة مع إفادات لولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مقابلة للأخير مع الكاتب الأمريكي توماس فريدمان، صعّد فيها ابن سلمان لهجته ضد إيران وحزب الله، وفي المقابل جاءت لهجة البشير مهادِنة لطهران، داعيًا إلى تغليب الحكمة وحل الخلافات عن طريق الحوار رغم انخراط الرئيس السوداني في المحور السعودي.
مع تزايد الخسائر البشرية، لم يجنِ السودان شيئًا يُذكر جراء المشاركة في المغامرة باستثناء دعم السعودية والإمارات لقرار رفع العقوبات الأمريكية عن حكومة البشير، وهو القرار الذي يضر الحكومة أكثر مما ينفعها، إذ كانت العقوبات بمثابة “شماعة” يعلق عليها الحزب الحاكم فشله الاقتصادي والسياسي
ثالثًا.. هناك ضغوط شعبية وسياسية كبيرة تواجهها الحكومة جرّاء المشاركة مع تحالف السعودية في حرب اليمن، فقد دعا عدد من السياسيين ورؤساء الأحزاب إلى سحب القوات السودانية المشارِكة، خصوصًا أن الخسائر البشرية تزايدت مؤخرًا ووصلت إلى أكثر من 500 قتيل حسب مصادر في قوات “الدعم السريع”.
رابعًا.. مع تزايد الخسائر البشرية، لم يجنِ السودان شيئًا يُذكر جراء المشاركة في المغامرة باستثناء دعم السعودية والإمارات لقرار رفع العقوبات الأمريكية عن حكومة البشير، وهو القرار الذي يضر الحكومة أكثر مما ينفعها، إذ كانت العقوبات بمثابة “شماعة” يعلق عليها الحزب الحاكم فشله الاقتصادي والسياسي!
ولا ننسى أن غريم البشير “السيسي” حصل على دعمٍ هائل من الدولتين “السعودية والإمارات” رغم أنه لم يرسل ولا جنديًا واحدًا إلى اليمن.
خامسًا.. يتردد أن هناك خلافات بين الرئيس البشير ونائبه الأول بكري صالح، دفعت الأول إلى التعبير عن دعمه لترشح والي الجزيرة محمد طاهر إيلا في الانتخابات المقبلة، كما يقال إن الرئيس منزعج من تجاهل المسؤول الأمريكي الكبير له في زيارته الأخيرة للبلاد، وتروج بعض التحليلات إلى أن الجانب الأمريكي لا يرغب في استمرار البشير رئيسًا للسودان، لذلك جاء الاتجاه بقوة نحو المعسكر الروسي.
هل تعمَّدت المخابرات الروسية بث التصريحات؟
مثل هذه اللقاءات الحساسة لا يُصرح بها عادةً إلي وسائل الإعلام، وتظل حبيسة الغرف المغلقة ولكن طالما قد حدث هذا فلنتساءل، لماذا تمّ نشر هذا المقطع بواسطة الإعلام الروسي الرسمي؟ هل روسيا لم تحفل بضيفها وأرادت إحراجه مع حلفائه؟ ولماذا لم يطلب البشير لأن تكون المحادثات مع بوتين سرية لا تذهب إلى الإعلام؟ ولكن ربما أن البشير نفسه أراد إطلاق هذه التصريحات علنًا كرسائل موجهة إلى حلفائه في المقام الأول وإلى الولايات المتحدة ثانيًا، وهذا هو الاحتمال الأرجح في تقديري لأن الرئيس البشير كرر ما ذكره أمام بوتين قبل مغادرته روسيا بساعات، في مقابلة مع وكالة سبوتينك حيث بدا زاهدًا في الولايات المتحدة وأقرب إلى التخلي عن حلفه العربي الإقليمي.
سارع وزير الخارجية السوداني إلى محاولة تبرير وتخفيف وطأة التصريحات المفاجئة التي أدلى بها البشير، فقد ذكر إبراهيم غندور أن طلب الرئيس عمر البشير من روسيا الحماية من الولايات المتحدة جاء في سياق ما وصفه بالاستهداف الذي يواجهه السودان منذ عام 1990
ما يعزز السيناريو الأخير أن الكاتب الصحفي إسحاق أحمد فضل الله المقرب من الحكومة، قدّم رواية يؤيد فيها خطوات الرئيس عمر البشير نحو روسيا قائلًا: “السودان يلتفت فيجد أن الخرطوم تقاتل إلى جانب السعودية في اليمن ومصر تمتنع، والدعم الملياري السعودي والخليجي يذهب إلى مصر فقط”.
سارع وزير الخارجية السوداني إلى محاولة تبرير وتخفيف وطأة التصريحات المفاجئة التي أدلى بها البشير، فقد ذكر إبراهيم غندور أن طلب الرئيس عمر البشير من روسيا الحماية من الولايات المتحدة جاء في سياق ما وصفه بالاستهداف الذي يواجهه السودان منذ عام 1990 بقرارات متتالية قادتها بعض الدول الغربية.
وأشار إلى أن روسيا والصين كانتا دومًا سندًا للسودان في مجلس الأمن، وأضاف غندور “ليس هناك ما يمنع تعاون بلاده مع الولايات المتحدة وتقوية العلاقات بينهما، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بعلاقات استراتيجية مع روسيا والصين، مشيرًا إلى أن زمن وجود محاور في العالم انتهى، وأن العالم منفتح للتعاون لفائدة الجميع”، بحسب تعبيره.
ماذا كسب السودان من الزيارة؟
الرئيس الروسي أعلن قبل فترة تزويد السودان بقيمة مليون طن من القمح هذا العام، استلم السودان منها فعليًا 702 ألف طن بين يناير/كانون الأول وأغسطس/آب لهذا العام على حساب القمح الأسترالي، كذلك زودت روسيا السودان قبل أيام مضت، بمقاتلات السوخوي 35 وهي من أحدث ما تنتجه الصناعات العسكرية الروسية، كما طلب الرئيس البشير من الجانب الروسي خلال الزيارة تزويد بلاده بمنظومة الدفاع الجوي (إس300) إضافة إلى قوارب دورية وقوارب صواريخ وكاسحة ألغام، ونشير إلى أن السودان يعتمد على العتاد العسكري الروسي بدرجة كبيرة إذ يضم سلاح الجو السوداني نحو 88 طائرة مقاتلة من طراز ميغ 29.
القاعدة العسكرية
تتجه روسيا إلى قبول عرض الرئيس السوداني إقامة قاعدة عسكرية على سواحل البحر الأحمر، حسبما صرّح النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع والأمن في المجلس الاتحادي الروسي فرانتس كلينتسيفيتش أنه “لا أسباب أمام روسيا لرفض عرض محتمل لبناء قاعدة عسكرية في السودان، في الوقت الذي قد تدعو فيه دول أخرى موسكو لبناء قواعد عسكرية، عقب النجاح في سوريا”.
وقال كلينتسيفيتش في تصريح لوكالة “سبوتينك”: “بالتأكيد القرار المتعلق بإنشاء قاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر بالسودان يعود إلى الرئيس فلاديمير بوتين بصفته القائد العام للقوات المسلحة، لكن شخصيًا، لا أرى أي سبب يدفع روسيا لتجاهل دعوة الجانب السوداني إذا ما تم طرحها”.
تصريحات الجنرال الروسي تأتي في وقت تزدحم فيه المنطقة وساحل البحر الأحمر تحديدًا بعددٍ من القواعد العسكرية، في إريتريا مثلًا تستأجر “إسرائيل” 3 جزر لخدمة مصالحها العسكرية والاقتصادية المرتبطة بالسفن التجارية، وفي الوقت نفسه أكّد معهد “ستراتفور” الأمريكي في دراسة نُشرت قبل أشهر أن دولة الإمارات أقامت قاعدة عسكرية بالقرب من ميناء عصب في إريتريا.
اتفاقيات اقتصادية
على هامش زيارة لقاء البشير ـ بوتين تم التوقيع على الاتفاقيات الآتية:
وقعت شركة “أم إينفيست” الروسية ووزارة الموارد المعدنية في السودان، اتفاقية للتنقيب عن الذهب.
ووقعت وزارة النفط والغاز السودانية ووزارة الطاقة الروسية، مذكرة تفاهم بشأن التعاون في مجال النفط والغاز.
ومن الاتفاقيات الموقعة أيضًا، مذكرة تفاهم بين شركة “روس جيولوجيا” الروسية ووزارة النفط والغاز في السودان، تسمح بتوزيع تراخيص كتل الاستكشاف الجيولوجي بين شركتي “Kush for exploration &” و”CO.Ltd” المحدودة من جهة، والوزارة السودانية من جهة أخرى.
وكانت الحكومة السودانية قد وقعت مع شركة “ميروقولد” الروسية في أكتوبر الماضي اتفاقية لاستكشاف الذهب والمعادن الأخرى بشرق السودان، بعد أن فشلت شركة “سيبيريا” في استغلال ما قالت إنه أكبر احتياطي من المعدن النفيس بقيمة ترليون و702 مليار دولار.
كما وقع وزير الموارد المائية والري والكهرباء السوداني، معتز موسى، والمدير العام لشركة “روس آتوم”، الروسي أليكسي ليخاتشيف، اتفاقًا حكوميًا للتعاون في مجال استخدام الطاقة الذرية للأغراض السلمية.
وكانت شركة “روس آتوم” الروسية للطاقة قد أعلنت في ديسمبر 2016، أنها تخطط في عام 2017 للتوقيع مع الموارد المائية والري والكهرباء في السودان، على مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الطاقة النووية للأغراض السلمية.
يعتقد المحلل السياسي وليد دليل، أن الإدارة الأمريكية وضعت شروطًا قاسية تتعلق بمستقبل الرئيس البشير، وأن الحكومة لم يعد بمقدورها المراوغة أكثر من ذلك، خصوصًا بعد زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي التي طالب فيها بوضع النقاط على الحروف، ويمضي دليل قائلًا: “الأزمة الاقتصادية تكاد تطيح بالحكومة إن لم تستطع الوفاء بالتزاماتها تجاه الشركات، مما ينذر بأزمة كبيرة في ثلاث سلع رئيسية هي الوقود والدواء ودقيق الخبز، وهذا ما دفع الحكومة إلى البحث عن حلول، ولو كان الدخول في شراكات مع الجانب الروسي الإيراني على حساب المحور الأمريكي الخليجي”.
فيما يتفق الخبير العسكري المعز العتباني مع دليل بأن الولايات المتحدة “ابتزت” الحكومة منذ اتفاقية نيفاشا للسلام، وأنها رفعت العقوبات الاقتصادية وهى تدري أن الاقتصاد السودانى لن يستفيد كثيرًا طالما بقي اسم السودان في قائمة الدول الداعمة للإرهاب، لكنّ العتباني دافع عن البشير قائلًا إنه يخطط بذكاء لسحب القوات من اليمن، مشيرًا إلى أن “آخر الأخبار تفيد بأن روسيا ستدعم القوات المسلحة بدعم غير مسبوق للقوات الجوية والبحرية والدفاع الجوى وكل فروع المشاه بدبابات وراجمات صواريخ مدفعية”.
السيناريوهات المتوقعة
حتى الآن لم يصدر تصريح رسمي من المحور السعودي الأمريكي، غير أن صحيفة عرب نيوز الممولة سعوديًا، أبرزت تقريرًا عن زيارة البشير لموسكو بدأته بتذكير متابعيها بأن البشير مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، والقارئ بالطبع لا يحتاج إلى كثير من الذكاء ليفهم أن الصحيفة تشير إلى أن البشير لا يزال بحاجة الى المملكة وثقلها السياسي لأجل تجاوز موضوع المحكمة الجنائية التي تؤرقه.
كذلك، إذا استمر عمر البشير في التقارب من المحور الروسي الإيراني فإن التحالفات الجديدة ستُعجل بطرد القوات السودانية من اليمن وإغلاق أبواب الرياض والإمارات في وجهه بلا شك، إذا لم يبكر هو بسحب القوات.
ويُخشى أن تقدم الولايات المتحدة التي التزمت الصمت حتى الآن، إلى اتخاذ قرار بإعادة السودان إلى المربع الأول (مربع العقوبات والقرارات الدولية) طالما أن السودان يتهمها بالتدخل وتخريب دول المنطقة بما فيها سوريا وليبيا والعراق وغيرهم.
أسوأ السيناريوهات المتوقعة في تقديرنا هي حدوث انشقاق في صفوف الحزب الحاكم أو القوات المسلحة إذ ربما يحدث تصادم بين الجهات المتنافرة، لأن البعض يرى أن قرار الدولة تتحكم فيه قلة تتجاهل رأي الأغلبية
المشكلة أن الحزب الحاكم في السودان يعيش ورطة حقيقية وأزمة اقتصادية خانقة تحتاج إلى تدخل سريع من أجل إنقاذ موازنة العام المالي 2018 التي لم يقدمها وزير المالية حتى الآن، لذلك فإن الخيارات التي أمامه محدودة للغاية، لأن روسيا ليس في يدها شيء عاجل تقدمه للسودان، حتى الديون المتراكمة للصين وروسيا نفسها تشكل معضلة حقيقية وعقبة كبيرة في طريق الشراكات والاستثمار لأن هاتين الدولتين رفضتا إعفاء ديون السودان بل وحتى إعادة جدولتها!
أسوأ السيناريوهات المتوقعة في تقديرنا هي حدوث انشقاق في صفوف الحزب الحاكم أو القوات المسلحة، إذ ربما يحدث تصادم بين الجهات المتنافرة، لأن البعض يرى أن قرار الدولة تتحكم فيه قلة تتجاهل رأي الأغلبية.
روسيا دولة قوية ومؤثرة بلا شك، لكن ينبغي التعامل بحذر في ملف العلاقات الخارجية وأن تكون هناك نظرة استراتيجية في هذا الصدد، وعليه نتمنى أن يكون قرار الاتجاه نحو معسكر الشرق الأدنى مدروسًا وبدقة من وزارة الخارجية والقطاع الاقتصادي إلى جانب الأجهزة الأمنية، وألا يكون قرارًا متسرعًا ونتيجةً لردة فعل متعجلة.