“لا عزاء إلا بعد الثأر من التكفيريين، ولن تنام أعين الرجال حتى تطهير كامل أرضنا، من آخر تكفيري يمشي بأقدامه على أرض سيناء الطاهرة”، هكذا قال اتحاد قبائل سيناء في بيان ناري له أمس، متوعدًا الدواعش بالقتل بلا رحمة، ردًا على مجزرة مسجد الروضة في العريش والتي راح ضحيتها نحو 305 شهداء، ومئات المصابين، وهو أعنف رد يمكن تصوره خلال الصراعات التي جرت على مدار السنوات الماضية بين السيناوية وتنظيم ولاية سيناء، لا سيما أن القبائل اتخذت استعدادات ميدانية بالفعل للانتقام من قتلة أبنائها.
كان لافتًا أن الجيش المصري لم يعلق على رسالة القبائل الغاضبة، خاصة أنها تدعي للتحرك العسكري ضد داعش، وما تعنيه هذه الخطوة تحديدًا من تداعيات يمكن أن تجر مصر إلى ويلات كارثية، وهي الخطوة التي كان يرفضها الجيش دائمًا، ولم يأبه في سبيل عدم تحقيقها لمساومات لجأت لها بعض القبائل والسواركة على رأسهم، بالحصول على امتيازات تسليحية وإعلامية، مقابل مساعدة أجهزة ومؤسسات الدولة الأمنية في القضاء على التنظيم.
لماذا تتضارب الرسائل الإعلامية المؤيدة والمعارضة للنظام مع الحقائق على الأرض؟
صمت الجهات السيادية المصرية على بيان قبائل سيناء، واكبه جمود إعلامي غير معهود تجاه القضية وكأنها لم تطرح أو تحقق الزخم الإنساني والسياسي والديني منذ وقوع الكارثة، ولا يشير الصمت إلا لحالة الإدراك الكامل عند قيادات الجيش المصري لخطورة الطرح القبلي لإنهاء الصراع في سيناء، وقطع دابر الجماعات التكفيريية من المنطقة التي لم تكن تعرف لهم أثرًا قبل 50 عامًا من الآن، خصوصًا أن المزايدات الإعلامية والتعبئة وسياسات الحشد التي أقدم عليها الإعلام المصري قبل أشهر من الآن عبر الإيحاء باستعدادات سيناء لسحق التنظيم، لم تضع القبائل كلها في كفة واحدة ضد تنظيم الدولة، بل كشفت عن أن هناك من يرفض الاشتراك في عمل ضد الدواعش حتى اليوم.
الجيش أشرك القبائل في صدامه مع تنظيم ولاية سيناء بعد مواجهات عام 2014، وشكل منهم ما يسمى بالكتيبة “103” التي تضم العشرات من عائلات صغيرة ليس لها امتداد قبلي أو نفوذ على الأرض لمواجهة داعش
كانت حرب التعبئة طالت الصحافة أيضًا ولم تكتف بالإعلاميين المقربين للنظام، ونشر أحد المراسلين من شمال سيناء، ويعمل في صحيفة مقربة للنظام المصري، ما أسماه خطة أبناء القبائل للقتال إلى جانب قوات الجيش المصري ضد تنظيم داعش، ورصد فيها تفاصيل تعدد خبرات القبائل الواسعة بتضاريس المنطقة، بجانب معلومات تفصيلية عن مقاتلي القبائل، وقال إن عددهم يبلغ نحو 1200 مقاتل، من قبائل الترابين والسواركة والرميلات ومتطوعين من عائلات مختلفة بالشيخ زويد، ولم يكتف بذلك، بل أكد أن الجيش أشرك القبائل في صدامه مع تنظيم ولاية سيناء بعد مواجهات عام 2014، وشكل منهم ما يسمى بالكتيبة “103” التي تضم العشرات من عائلات صغيرة ليس لها امتداد قبلي أو نفوذ على الأرض لمواجهة داعش.
ورغم ما توحي به هذه المعلومات التي من الطبيعي أن تؤسس لمواجهات من نوع خاص مع داعش، لا سيما في المناوشات التي جرت لاحقًا بينه وبين القبائل بمناطق ارتكازه في مناطق البرث والبواطي والعجرة وشبانه، ومناطق جنوب مدينة العريش، فإن المحرر وغيره وعلى فترات لاحقة وفي ظل مجازر بشعة ارتكبها التنظيم، لم يرصدوا أدنى تغيرات في المشهد على الأرض.
معلومات الصحيفة المصرية على غرابة توقيت نشرها لهذه المعلومات والهدف منها في ظل التشديد الأمني المعروف على الأخبار المتدفقة من سيناء، إلا أنها اتفقت بشكل كبير مع تقرير لصحيفة المدن اللبنانية المعارضة للنظام المصري التي نشرته في نفس اليوم هي الأخرى، ونقلت عنها الكثير من المواقع المحسوبة على جماعة الإخوان والمعارضين لنظام السيسي، وأكدت فيه إسناد المؤسسة العسكرية إدارة وتدعيم ما يسمى بالكتيبة “103” إلى إبراهيم العرجاني أحد مشايخ قبايل الترابين، وقال تقرير “المدن” إن العرجاني خُصص له مقرًا في معسكر الزهور الأمني الرسمي، لقيادة الجناح الترابيني الذي قرر الدخول في مواجهة داعش.
الجيش لم يسبق له أن سلح القبائل أو أشركها معه على النحو الذي أذيع ونشر من جهات مؤيدة ومعارضة
بغض النظر عن صدقية المعلومات وموضوعيتها، لم يوضح أي من التقريرين، ما مهام الكتائب المشكلة من القبائل بشكل تفصيلي ومحدد، وآليات اتخاذ القرار فيها، وإن كان الأمر كذلك، لماذا أعلنت السواركة مرارًا شروطًا عدة للمشاركة في القتال ضد تنظيم الدولة، أهمها ألا يقتصر دورها على تقديم المعلومات للجيش، وإن كان هناك كتائب بهذا الشكل، لماذا دعا اتحاد قبائل سيناء من جانب واحد إلى تنسيق عملية كبرى مع الجيش للثأر من الإرهابيين، وطالب أبناء القبائل جميعًا بالانضمام إلى مقاتلي القبائل في قرية البرث لرص الصفوف من جديد، ولم يطالب الكتيبة المشكلة منهم بذلك، أو حتى يلمح لها في حديثه، باعتبارها الأعلى تجهيزًا لمساعدتهم في حرب الخلاص من التنظيم.
وما يخدم عدم معقولية هذه المقاربة أكثر وأكثر، التصريح الذي أدلى به إبراهيم رفيع، وهو عضو بارز باتحاد مجلس القبائل العربية، وطالب فيه بدعم القبائل للقوات المسلحة “معلوماتيًا” للوصول إلى الإرهابيين، ولكن في الوقت ذاته رفض تسليح قبائل سيناء، للخلاص من تنظيم داعش على النحو الذي جرى إعلانه أمس، مما يعني أن الجيش لم يسبق له أن سلح القبائل أو أشركها معه على النحو الذي أذيع ونشر من جهات مؤيدة ومعارضة.
تجارب مريرة في تسليح القبائل بالمنطقة
الحديث عن حمل السلاح في سيناء ليس الأول من نوعه، بل دعوة تحمل أوزارًا تاريخية في المنطقة، سواء كانت دفاع عن القبلية أو الهوية العربية والإسلامية، والسوادن أهم البلدان المجاورة لنا الذي اكتوى بنار تسليح القبائل، منذ بداية حصول البلد الشقيق على استقلاله عام 1956.
كان نظام الرئيس الأسبق إبراهيم عبود خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، صاحب أول تجربة سودانية لنشر السلاح بين ثوار الكونغو الديموقرطية، ولكن السلاح ارتد مرة أخرى إلى جنوب السودان، خلال تمرد قوات الأنانيا الأولى بقيادة جوزيف لاقو، كما تزامن بداية اتجاه السودان لتسليح القبائل، مع اندلاع ثورات وانقلابات عسكرية وحروب بين دول الجوار، كان في القلب منها الحرب التشادية الليبية التي اندلعت عام 1987 وعرفت بحرب التويوتا، واستخدمت فيها القوات التشادية سيارات اللاندكروزر ذات الدفع السريع للانتقال من مكان إلى آخر.
وهو التكتيك الذي استخدمته الحركات المسلحة لاحقًا في دارفور خلال حربها ضد حكومة عمر البشير، والحركات الإرهابية المنتشرة حاليًّا في العديد من بلدان الشرق الأوسط.
بعد وصول عمر البشير للسلطة، واصل نظامه الجديد برنامج تسليح القبائل، وامتدت الدائرة لتشمل قطاعات كبيرة من الشعب السوداني، وأقيمت معسكرات سميت بالدفاع الشعبي
وعقب انهيار حكم نظام الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري عام 1985، لم يستمر الاتفاق طويلاً بين القوى السياسية على التدوال السلمي للسلطة عبر انتخابات ديمقراطية نزيهة كثيرًا، في ظل تنامي نفوذ الحركة الشعبية لتحرير السودان التي زادت من عملياتها العسكرية، وحققت تقدمًا ملحوظًا في عدد من مناطق جنوب السودان، وانفتحت شمالاً حيث نقلت عملياتها العسكرية إلى جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق.
رغم كل هذه المخاطر، إلا أن حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي الذي كان يحظى بأكثرية في مقاعد البرلمان، لم يستطع عمل تقدير موقف قبل تنفيذ النصيحة الشيطانية التي جاءتهم من وزير الدفاع الأسبق، فضل لله برمة ناصر الذي أشار عليهم بضرورة توزيع السلاح على القبائل العربية، خاصة في مناطق دارفور وكردفان المتاخمة لجنوب السودان، وكانت تشهد وقتها حربًا أهلية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق دي مابيور، مما وضع السودان على بدايات كارثة انتهت بانفصال شمال السودان عن جنوبه.
وبعد وصول عمر البشير للسلطة، واصل نظامه الجديد برنامج تسليح القبائل، وامتدت الدائرة لتشمل قطاعات كبيرة من الشعب السوداني، وأقيمت معسكرات سميت بالدفاع الشعبي، كانت نشطه للغاية في بداية تسعينيات القرن الماضي، والقصد من العسكرة استخدام المواطنين مهما كبر سنهم في الحرب التي كانت تدور في جنوب السودان، وأطلق عليها وقتها “حرب الجهاد”.
كما نسمع في مصر بين الحين والآخر عن صراعات بين أجهزة سيادية على إدارة ملفات بعينها، اشتعلت الصراعات بين نفس الأجهزة في السودان، ليتجه كل جهاز إلى تسليح الموالين له، وشيئًا فشئيًا لم يعد للمؤسسة العسكرية في البلاد القدرة على مواجهة الدور السياسي للقبائل
بمرور الوقت أصبح تسلح المدنيين مألوفًا للغاية، وخصوصًا في مناطق كردفان الكبرى قبل تقسيمها إلى جنوب وشمال وغرب كردفان فكان المواطن السوداني يتسلم السلاح ويذهب إلى العمليات العسكرية، ومنذ هذه اللحظة يصبح السلاح ملك للمواطن، وبالطبع جرى استخدام هذا السلاح في الخصومات الشخصية مما أنتج عددًا لاحصر له من المشاكل القبيلة، بسبب عدم التوازن في حيازة السلاح خصوصًا أنه كان يُوزع حسب الأهمية والنفوذ والقوة المادية والعددية، مما فجر صراعات كبرى بين القبائل، كان أكثره دموية المواجهة التي اندلعت بين بطون قبيلة المسيرية وأسفرت عن مقتل ما يفوق الـ400 شخص خلال عام 2014.
وكما نسمع في مصر بين الحين والآخر عن صراعات بين أجهزة سيادية على إدارة ملفات بعينها، اشتعلت الصراعات بين نفس الأجهزة في السودان، ليتجه كل جهاز إلى تسليح الموالين له، وشيئًا فشئيًا لم يعد للمؤسسة العسكرية في البلاد القدرة على مواجهة الدور السياسي للقبائل، مما أفقد الجيش سطوته عليها، بحسب تصريحات للمقدم معاش “قادم النو” لإحدى الصحف السودانية، الأمر الذي يشير علانية إلى خطورة كبرى على المجتمع المصري من امتلاك أي مجموعات سواء قبلية أو غيرها، لقوة مسلحة موازية للجيش والمؤسسات النظامية، بغض النظر عن اتفاقك أو اختلافك على أدائها، فما حدث في السوان من جراء تسليح القبائل خطيئة لا يصح ولا يجوز تكرارها!