حرب الجنرالات في السودان تدخل عامها الثاني.. تمزيق الممزّق

قبل عام من اليوم، وتحديدًا صباح السبت 15 أبريل/نيسان 2023، استيقظ السودانيون على أصوات الرصاص وأزيز الطيران الحربي وعشرات المدرعات العسكرية وناقلات الجنود تطوف شوارع الخرطوم، وما هي إلا ساعات قليلة حتى أعلنت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) سيطرتها على القصر الجمهوري ومبنى الإذاعة والتلفزيون والمطار وبعض الوحدات العسكرية.

كان أقصى ما يداعب خيالات السودانيين حينها أن جولة تقليدية من جولات الصراع على النفوذ بين الجيش والدعم السريع لن تستمر سوى بضعة أيام أو على الأكثر عدة أسابيع لن تتجاوز أصابع اليد الواحدة ثم تنتهي كسابقاتها، غير أن الصدمة كانت أكبر من استيعابها، فالحرب تدخل عامها الثاني بعدما حولت البلاد إلى أشلاء دولة.

عام كامل من المواجهات والصدامات الدامية بين الجنرالات تجرع فيه السودان كل أشكال البؤس والمعاناة، ليدفع السودانيون ثمن أطماع وطموحات قادته العسكريين ممن ضربوا بمصالح بلدهم عرض الحائط، ليدخل البلد الممزق سياسيًا نفقًا مظلمًا جديدًا، حيث لا حلول تلوح في الأفق ولا إرهاصات لانفراجات قريبة في ظل صلف أطراف النزاع وعنادهم الذي لا يتزحزح.

ومما زاد من وطأة وكارثية تلك الحرب حالة الصمت الفاضح دوليًا والخذلان والتجاهل العروبي المعتاد، ليسقط البلد الفقير سياسيًا وأمنيًا والمنهوب اقتصاديًا، في فخ التجاذبات السياسية، دافعًا فاتورة حزمة من الأجندات الإقليمية والدولية التي تعربد في المنطقة عبر وكلائها المحليين.. فبأي حال يستقبل السودانيون العام الثاني لحرب الجنرالات الدامية؟

أشلاء دولة.. كل شيء مُدمر

ما لم تدمره الأزمة السياسية والأمنية التي واجهها السودان على مدار 5 أعوام كاملة، منذ بداية ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 وحتى أبريل/نيسان 2023، دمره الجنرالات في أقل من عام واحد، حيث نجحوا في تحويل البلاد إلى أرض محروقة طاردة لأبنائها وفاقدة لكل أبجديات ومقومات الحياة.

وكان الاقتصاد الضحية الأبرز لتلك الحرب التي حاول فيها العسكر الحصول على أكبر قدر ممكن من مكاسب “الكعكة”، حيث تشير التقديرات إلى تجاوز حجم الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تلك الحرب حاجز الـ200 مليار دولار، تصدرها قطاع البنى التحتية والمعلوماتية بخسائر نحو 36 مليار دولار، يليه القطاع الزراعي والمصرفي بـ20 مليار دولار لكل منهما، فيما بلغت خسائر القطاع الصناعي قرابة 15 مليار دولار، والصحي بنحو 13 مليار دولار، هذا بخلاف خروج أكثر من 9 آلاف منشأة اقتصادية عن العمل منذ بداية المواجهات.

كما انخفضت إيرادات الدولة بنسبة 85%، وتجاوزت نسبة العجز عن دفع رواتب الموظفين حاجز الـ50%، وتراجعت الصادرات السودانية بنحو 60% مع إغلاق مطار الخرطوم، كما انخفض إنتاج الذهب من 18 طنًا إلى طنين فقط، لتفقد عائدات صادرات المعدن الأصفر (يشكل 50% من قيمة صادرات البلاد) ملياري دولار، فيما ارتفع مؤشر الفقر في البلاد إلى أكثر من 90% بعد تصاعد معدلات البطالة بسبب غلق المنشآت الاقتصادية وعدم حصول الموظفين على رواتبهم.

كما أصيبت الدولة بحالة من الشلل الإداري التام، بعد توقف معظم الدواوين والمؤسسات الرسمية عن العمل، حيث خرجت 5 ولايات عن سيطرة الدولة بشكل شبه كامل، وهي غرب ووسط وجنوب وشرق دارفور وولاية الجزيرة، فيما فقدت السلطة التنفيذية السيطرة على المشهد الذي خيمت عليه الفوضى والارتباك وفقدان التوازن، وغابت معظم الأجهزة النافذة عن الساحة وعلى رأسها جهاز الخدمة العامة والشرطة والقضاء والنيابة العامة، وإدارات التعليم والصحة والجمارك والضرائب.

النعرات الطبقية.. خطر التقسيم يطل برأسه

من أكثر الكوارث التي خلفتها تلك الحرب اشتعال الخطاب القبلي وتصاعد نيران العصبية والمناطقية، وهو الخطر الذي ربما يفوق في تأثيره وتداعياته المخاطر الاقتصادية، حيث بات المجتمع السوداني فوق فوهة بركان قابل للانفجار في أي وقت ولديه القدرة على تدمير الجبهة الداخلية وإدخال البلاد في آتون حرب أهلية لا يعلم أحد مداها وتداعياتها.

الصحفي السوداني الصادق الرزيقي يرى أن ما يشهده السودان حاليًّا من قبلية وعصبية لم يعرفها منذ تاريخه، لافتًا في مقال له إلى أن السودانيين ما تجرأوا على التنابز بالولايات الدنيا وتعايروا بالقبائل والانتماءات العرقية مثلما يفعلون الآن، مرجعًا ذلك إلى ما أسماه “الخطاب العنصري الطائش” الذي تنتهجه قوات الدعم السريع لتبرير صدامها مع الجيش وعملياتها العسكرية ضد السودانيين.

وأوضح الرزيقي أن ميليشيات حميدتي استندت إلى التحشيد الجهوي والقبلي لدعم نفوذها داخليًا، حيث نجح حميدتي في الحصول على تأييد عدد من القبائل العربية البارزة: (الرزيقات وهي قبيلة حميدتي وأسرته، قبيلة المسيرية، قبيلة الحوازمة، قبيلة البني هلبة، قبيلة السلامات، قبيلة المهادي، قبيلة التعايشة -قبيلة الفلاتة، قبيلة الثعالبة، قبيلة الترجم، قبيلة الزيادية، قبيلة الهبانية، قبيلة الصعدة، قبيلة أولاد راشد) واستطاع ضم قرابة 160 ألف مقاتل من بينها، هذا بخلاف توظيف إستراتيجية التجييش القبلي ذاتها في الحصول على دعم عشرات القبائل من خارج السودان، في تشاد والنيجر ومالي وجنوب ليبيا وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان.

وفي الوقت الذي يخوض فيه حميدتي والبرهان حربًا ضروسًا على المستوى العسكري، هناك حرب أخرى يدور رحاها مجتمعيًا بين القبائل والمناطق، حرب تغلفها لغة المعايرة والتفاخر بين القبائل الكبيرة والصغيرة، الغنية والفقيرة، العليا والدنيا، الحضرية والنائية.

وفي غضون عام واحد فقط تحول السودان إلى عشرات الدويلات داخل الدولة الواحدة، حيث يتعامل كل تجمع قبلي بشكل منفرد، ووفق مقاربات وحسابات خاصة تراعي مصالحه في المقام الأول على حساب مصالح الدولة، الأمر الذي يقود البلد نحو حرب أهلية مفتوحة وقابلة للاحتمالات كافة إذا ما ظلت الأمور على ما هي عليه.

أزمة إنسانية خانقة

خلفت الحرب التي وضع فيها الجنرالات مصالحهم الخاصة فوق كل اعتبار أكثر من 17 ألف قتيل من المدنيين، وفق تقديرات رسمية وغير رسمية، فيما نزح ما يزيد على 1.7 مليون سوداني، 9 مليون منهم نزوحوا داخليًا من ولايات شمال وغرب وجنوب كردفان والنيل الأبيض والجزيرة والخرطوم وولايات دارفور الـ5، وقرابة 1.7 مليون إلى دول الجوار، مصر وتشاد وإثيوبيا وأوغندا وليبيا ودول الخليج.

ووصلت المأساة الإنسانية إلى حد عجز السودانيين عن دفن موتاهم، بعدما تحولت عملية الدفن في المدافن العامة المتعارف عليها إلى مغامرة قد تكلف البعض حياته بسبب الصراعات والنزاعات بين عناصر الجيش والدعم السريع.

وكان سكان أم درمان يدفنون موتاهم في مقابر الجمرية والبكري وحمد النيل، أما أبناء الخرطوم فكانت لهم مقابر الفاروق والرميلة وبري، فيما خصصت مقابر البنداري والحاج يوسف وشمبات لأهل بحري.

تقول “أم عبد الله” وهي مسنة سودانية نزحت إلى القاهرة بعد شهر واحد من الحرب، إن العائلة في أم درمان لم تستطع دفن ابنها الذي قتلته عناصر من الدعم السريع بعد الهجوم على منزله وسرقة محتوياته، ما اضطرهم إلى حفر قبر له على بعد أمتار قليلة من المنزل ودفنه فيه، لافتة في تصريحات لـ”نون بوست” إلى أن هذا الأمر تكرر كثيرًا مع عائلات أخرى.

وتضيف السيدة السودانية أن هناك 3 من أبنائها ما زالوا في أم درمان، بعدما فقدت واحدًا وأصيب الآخر الذي يتلقى العلاج في إحدى المنازل المجاورة على أيدي طبيب من العائلة، وأنها قلقة بشأن حياتهم التي باتت على المحك بسبب العمليات العسكرية التي لا تتوقف هناك، والتي لا تراعي حرمة ميت أو مصاب أو امرأة أو طفل، لافتة إلى أن الوضع هناك يزداد من سيئ إلى أسوأ.

ونقلت “أم عبد الله” عن بعض أقاربها هناك أن كثيرًا من المنازل المجاورة تفوح منها رائحة الموتى، ما يشير إلى تحويلها إلى مقابر داخلية أو احتوائها على جثث تحللت بعدما فشل ذويها في دفنها في المقابر العامة بسبب القوات المنتشرة في قوارع الطرق والشوارع الرئيسية.

“كنت أتمنى أن تهدأ الأمور وتنتهي الحرب لأعود إلى أبنائي وعائلتي في السودان، لكن يبدو أن الوضع مستمر ودائم، كنت أتمنى أن أموت وأدفن في بلدي، كل ما أخشاه أن أموت في بلد غريبة وأدفن في مقابر غريبة عني”.. هكذا اختتمت المسنة السودانية حديثها.

وفي سياق التأثير الإنساني الكارثي لتلك الحرب تزايدت حالات الإصابة بالأمراض النفسية بشكل غير مسبوق، لا سيما بين الأطفال والنساء وكبار السن، إذ تشير تقديرات غير رسمية إلى أن أكثر من 80% من السودانيين يعانون من نوع أو أكثر من الأمراض النفسية بسبب الحرب، فمشاهد القتل والتنكيل ومأساة الجوع والعطش وآلام المرض دون علاج، كفيلة أن تخلق أجيالًا من المحطمين نفسيًا، وهو ما تكشفه التقارير التي تؤكد تفاقم أعداد المصابين نفسيًا منذ أبريل/نيسان 2023، معظمهم من الشباب، وما زاد من وضعية المشهد خروج المستشفيات المتخصصة في الأمراض النفسية عن الخدمة بسبب الحرب والقصف الذي لا يتوقف.

انقسام سياسي يقود إلى عسكرة شبه كاملة

عوّل الشارع السوداني على مدار السنوات الماضية، على الأحزاب والكيانات السياسية التي خُلقت من رحم الثورة، في إحداث حالة من التوازن في المشهد في مواجهة المد العسكري، ونجح هذا التعويل إلى حد ما خلال الفترة من 2018 – 2023 لكن سرعان ما تهاوى عقب بداية حرب الجنرالات التي نسفت معها الأرضية السياسية وأغلقت كل أفق محتمل.

الأزمة هنا أن التيارات السياسية التي فرضت نفسها على المشهد بعد الثورة سرعان ما انضوت تحت أجنحة العسكر، حيث وقفت قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية مع البرهان، فيما مالت قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي مع حميدتي، لتدخل البلاد منعطفًا متطرفًا من الاستقطاب السياسي.

وبين الجيش والدعم تأرجحت مواقف معظم الكتل الفاعلة في الخريطة السياسية السودانية وعلى رأسها “تنسيقية القوى الوطنية” تحالف الخط الوطني “تخطي”، والمبادرة الوطنية السودانية، تحالف قوى الحراك الوطني، وتحالف قوى التراضي الوطني، ليطرق السودان أبواب العسكرة بشكل كامل ودون أي معوقات أو مقاومة تذكر من التيار المدني.

ومن سوء حظ السودانيين، بلدًا وشعبًا، أن تتزامن أزمته تلك مع معارك أخرى تدور رحاها في مناطق مغايرة، ربما تكون أكثر أهمية لدى المجتمع الدولي وفق حساباته ومقارباته الخاصة، كالتي تشهدها أوكرانيا ومن بعدها غزة، ما منح العسكر الأريحية في معركتهم الخاصة دون ضغوط أو تسليط الضوء على جرائمهم.

وبينما يدخل الجنرلات عامهم الثاني من حرب النفوذ والمكاسب، هناك قرابة 20 مليون سوداني على قوائم انتظار الموت جوعًا، في مقابل 14 مليون نازح، أجبروا على مغادرة بيوتهم وأموالهم وأهليهم، فيما يكتفي العالم بالجلوس في مقاعد المتفرجين يشاهد آخر جولة في معركة تمزيق السودان لصالح أجندات إقليمية ودولية تعبث بمقدراته وتطيح بشعب بأكمله.