عادة ما تحاول أدبيات الإسلام السياسي الاستدلال بالحركات التجديدية التي عرفها العالم الإسلامي، ويحاول بعض المتعمقين منهم وصف الحركات السرية التي قامت وسبقت ظهور موجات تصحيحية في الدولة الأموية مع عمر بن عبد العزيز أو حركة الفقهاء مع الإمام أحمد إبان محنة خلق القرآن أو الحديث عن المدرسة النظامية وصلاح الدين الأيوبي واستعادته للقدس، ويستمر الأمر في وصف جهاد ابن تيمية وفتاويه التي صارت تستعمل كآلة للقياس بالواقع مع المفارقات والمغالطات التاريخية التي يجب أن تراجع بشكل أكثر منهجية.
قلنا في مقالات سابقة إنه يمكن قراءة السيرة بشكل مختلف، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يتأخر في تأسيس بناء دستوري في المدينة وتوفير الموارد الاقتصادية والتفكير في السياسة الخارجية، بالطبع لا يمكن تصور أي حراك مجتمعي من دون صورة جنينية وهي التي تتشكل فيها الأفكار وتنتشر عبر أفراد من المجتمع.
الدعوة العباسية كانت مثالًا واضحًا لفكرة الثورة والتغيير عبر المجتمع، لكن تمحيص الأمر يبين أنها ثورة لها علاقة بالسلطة وشرعيتها
لكن النقطة التي وصلت فيها تلك الحركات للتأثير في المشهد السياسي في الغالب كانت عبر علاقة مباشرة مع السلطات الحاكمة سواء كان الهدف تغيير أيديولوجيا الدولة كما في محنة خلق القرآن مع الإمام أحمد الذي تبنت السلطات الحاكمة منهجه في عدم القول بخلق القرآن، أو عندما مارست المدارس النظامية وهي مؤسسات تابعة للدولة ترجع إليها المراجع العلمية في خصوماتها وجدلها بين المذاهب المختلفة، وكذلك الدولة السلجوقية ومن بعد الدول الزنكية التي من خلالها استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يحقق الانتصارات العسكرية والسياسية التي دخلت في الإطار الحضاري فيما بعد.
تصور الثورة والتغيير عبر أسلمة المجتمع لا يمكن قياسها في التاريخ الإسلامي، وهناك تناقض واضح في الحديث عن ذلك والقول بأن ما حدث للدولة العثمانية أمر مفصلي لم يتكرر عبر التاريخ، وفي الغالب يقع الشباب الإسلامي في أخطاء من هذا النوع في القياس التاريخي، وليس الشباب وحدهم بل فشلت الحركة الفكرية في الاتفاق على تحقيب تاريخي ونظرة واضحة لفهم التاريخ الإسلامي.
الدعوة العباسية كانت مثالًا واضحًا لفكرة الثورة والتغيير عبر المجتمع، لكن تمحيص الأمر يبين أنها ثورة لها علاقة بالسلطة وشرعيتها، حدثت بوجود نبوءة وحراك مجتمعي وتحالفات سياسية وتهيئة للرأي العام والاستعداد لمعركة حاسمة مثلت انقلابًا أو ثورة حسب دراسة عمرو فاروق طبيعة الدعوة العباسية.
والظاهر أن وجود الفقهاء والساسة بجانب الحكام وكانوا أشبه بالمستشارين – وعادة ما تجد هذه المؤسسات المنفصلة عن السلطات الحاكمة في القضاء والفتوى – والمدارس الفقهية تتحرك في نسق مجتمعي قادر على توجيه السلطات الحاكمة أو نصحها أو القيام ضدها بوضوح عبر المجتمع وتقديره لهذه المؤسسات المدنية وثقته في الفقهاء بل إعجابهم الشديد بهم أكثر حتى من السلاطين والملوك.
والقول الذي يتكرر بأن التاريخ الإسلامي هو تاريخ حروب، رغم عدم دقته وإنصافه، فإن فيه دلاله واضحة على أن السلطة كانت محورًا مهمًا في التاريخ الإسلامي، فالخليفة أو السلطان وعلاقة السلطة بالمعرفة هي التي تملك التأثير في المجتمع الذي كان فيما عدا بعض المؤسسات عبارة عن شبكات ممتدة وليس هيراركي طبقي كالذي نعرفه، إلا أن الفقهاء كانوا يمثلون المعرفة وقد حسموا أمر الدفاع عن الوطن.
لا شك أن دعوى خلق القرآن ليست مجرد مسألة فلسفية، بل تصور جديد وثقافة جديدة امتحنت به الدعوة العباسية
ففرضية العين للجهاد عند الهجوم على حياض الأراضي الإسلامية يبين هذا المعني الجغرافي المرتبط بالقيم الإيمانية المتمثلة في الجهاد، ويؤكد أن الدولة التي كانت تمارس سلطاتها عبر فرض الزكاة وإنفاذ القانون وتوزيع الغنائم وتأمينها للحدود، وكذلك تشكيل الهوية المذهبية للولاية، هي التي يقع فيها شكل التغيير، وكثيرًا ما كان التغيير في فكر الحاكم يصحبه تغير كبير في سياسة الدولة وتوجهاتها ومن ذلك مثلاً ما حدث في أيام المنصور من صداقة بينه وبين عمرو بن عبيد من المعتزلة وكذلك في عهد الهادي والمهدي، وبدأ نفوذ المعتزلة يظهر بعد فتنة الأمين والمأمون حيث قتل الأمين في سنة (198هجريًا) وأصبح المأمون الخليفة الوحيد، اندفع المأمون في تيار الاعتزال وصار يدافع عنه فكانت تلك فتنة قسمت الأمة.
برز هذا الانقسام بالاختبارات التي أجراها المأمون للفقهاء والمشايخ في الدولة، فقد كتب إلى صاحب الشرطة في بغداد والرقة أيضًا بأن يمتحن الفقهاء والمشايخ وأهل الحديث، فمن لم يقر بخلق القرآن وجب أن تبطل شهادته، وأخذ إسحاق بن إبراهيم نفرًا من كبار الفقهاء وفيهم الأمام أحمد بن حنبل فامتحنهم وعذبهم حتى أقروا بأن القرآن مخلوق إلا ابن حنبل فقد عذب وخلعت يده وسجن ولم يقر بذلك.
ولا شك أن دعوى خلق القرآن ليست مجرد مسألة فلسفية، بل تصور جديد وثقافة جديدة امتحنت به الدعوة العباسية، فهي تتدرج من خلق القرآن إلى القول بفنائه وما نجده في مذهبهم من نفي القدر السابق وما يتعلق بذلك من نفي الإمامة وكونها في قريش.
هذه المنظومة الفكرية كادت أن تعصف بالدعوة العباسية القائمة على مفاهيم مخالفة لهذه المنظومة استمدت منها شرعيتها، واستطاع المتوكل ابن المعتصم سنة 232 هجريًا أن يبطل الامتحان وينهى عن الجدل في القرآن.
وفي المغرب العربي نجد كذلك قيام دويلات مختلفة، ففي المغرب الأدني بالقيروان قامت دولة الأغالبة، وفي المغرب الأوسط بتاهرت قامت دولة الرستميين، وفي المغرب الأقصى قامت دولة بني المدرار، وفي نكسور والريف والغربي قامت دولة بني صالح بن منصورالحميري، وفي شالة بتاسنا قامت دولة بني صالح بن طريف البرغواصي، والحدث الأبرز في المغرب قيام دولة الفاطميين، ولا شك أنه مشهد من مشاهد الانقسام الذي حدث في الأمة اختلطت فيه الشرعية السياسية بالمفاهيم الدينية وتنازعت المؤسسة الدينية والسياسية الأمر.
يقول ابن الأثير: “المعز بن باديس كان ماشيًا في القيروان والناس يسلمون ويدعون له، فاجتاز جماعة كانت هناك فقيل له هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر، فقال المعز: رضي الله عن أبي بكر وعمر، فانصرفت العامة من فورها إلى درب القلى بالقيروان وهو موضع يجتمع فيه الشيعة من كان يسكن فيه منهم”، وذكر ابن عذارى أن المعز بن باديس تتلمذ على وزيره أبي الحسن ابن أبي الرجال وكان ورعًا زاهدًا، فعلمه وأدبَّه، ودله على مذهب مالك وعلى السنة والجماعة، والشيعة لا يعلمون ذلك ولا أهل القيروان إلى أن أعلن ذلك واجتمع حوله الناس ضد الرافضة فقتل منهم ما ينيف عن الثلاثة آلاف.
وكذلك في الفتنة الكوندرية التي بدأت بخطبة جمعة، عندما أوحي الكندري وزير طغر ليك السلجوقي السلطان آنذاك أن يلعن كل خارج عن الدين ولعن الأشاعرة، فسرعان ما اضطرب الأمر، واستطاع الكندري أن يتحصل على أمر من السلطان بالقبض على الرئيس الفراتي وأبي القاسم القشيري وإمام الحرمين وأبي سهل بن الموفق ونفيهم ومنعهم من المحافل.
وقد جزعت البلاد الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها لهذه الفتنة ولما أصاب أهل السنة التي عمت علماء الأمة وأئمتها حتى خرج أربعمئة قاضٍ من قضاة المسلمين من بلادهم بسبب هذه الواقعة وجمعهم موسم الحج، يتدارسون الأمر فيما بينهم، ويشهد لضراوة هذه المحنة رسالة القشيري المسماه (شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة).
بعث بهذه الرسالة إلى البلاد الإسلامية يستنجد أهلها ولم تهدأ ريح الفتنة إلا بعد مقتل الكندري وظهور نظام الملك، حيث استقرت الأوضاع واطمأن أهل السنة والجماعة (فقه إمام الحرمين عبد العظيم الديب ص45 و46 دار الوفاء)، أما الإمام ابن تيمية لم يأل جهدًا في نصح الحكام وله أكثر من رسالة ليبين للسلطان بكل احترام واجبه الشرعي تجاه الحركات المتطرفة والعدوان الخارجي الذي داهم الأمة من قبل التتر.
إذا وقفنا على تجربة واضحة تقرب الصورة، وهي نشأة المملكة السعودية والمملكة الليبية فهما حراك مجتمعي سار بسرعة نحو الاستقرار عبر تكوين سلطات استخدمت المعادلات الدولية وحققت تحالفًا مع القبائل ذات العصبية الفاعلة واستفادتا من الوضع الذي آل إليه المجتمع الدولي
ابن خلدون في مقدمته وابن الأزرق في كتابه نظم السبك في طبائع الملك يبين أن الانشقاق الطولي للدولة أمر مطرد حتى في التاريخ الإسلامي والمحاولات التي لا تملك القوة على ذلك التمزيق من أعلى لأسفل فشلت في إحداث تغيير إلا إذا دخلت الدولة في الهرم ووجدت قوة قادرة على ذلك التمزيق، تلك القوة هي العصبية، وهي كلمة تعبر عن السلطة فيما يبدو، تلك السلطة هي التي تعززت في الوقت الحاضر لتصبح مؤسسات تتخطى الأفراد في بناء الدولة.
فإذا وقفنا على تجربة واضحة تقرب الصورة، وهي نشأة المملكة السعودية والمملكة الليبية فهما حراك مجتمعي سار بسرعة نحو الاستقرار عبر تكوين سلطات استخدمت المعادلات الدولية وحققت تحالفًا مع القبائل ذات العصبية الفاعلة واستفادتا من الوضع الذي آل إليه المجتمع الدولي، ولعل الأمير شكيب أرسلان كان يرى بعين رجل الدولة، فقد ربطته علاقات قوية بالملك عبد العزيز بل كتب عدة مقالات يمدح فيها الملك وكانت بينهم مراسلات تدل على عمق العلاقة بين الاثنين، وقد كان الأمير يرى فيه منقذًا للعرب ودحض العديد من الإشاعات عن الملك، فالأمير ببصيرته يمارس السياسة ويدخل في المعادلة دون أن يغرد للتغيير عن بعد.
أما الملك إدريس فرغم الجهاد والكفاح الذي قل نظيره لليبيين ضد الإيطاليين، ورغم أن الدولة العربية الوحيدة التي ظلت متمسكة بالوحدة الإسلامية والخلافة العثمانية إلى آخر رمق، فإن الملك وبعد أن تخلت الدولة العليا تحت ضغط الغرب على ليبيا، حاول أن يدخل المعادلة بتعاهده مع الإنجليز من أجل التخلص من الطليان واستطاع أن يستفيد من تلك المعادلة في الوقت الذي كانت فيه بعض الدول العربية ترزخ تحت سيطرة العسكر وإحلال الأيديولوجيا.
في مصر كذلك يخبرنا المستشار البشري عن ترك مؤسسات الدولة من قبل المصلحين والعلماء فيقول: “وهؤلاء الذين انحصرت فيهم حركة الفكر هم أفراد من الكتاب وليسوا مؤسسات أو هيئات، وهم أيضًا دعاة لما نادوا به وما أثبتوه في كتبهم من أفكار وليسوا ممارسين لهذه الأفكار، وأقصد بالممارسة من يطبقون الفكر المدعو إليه في مجال تخصص معين، فضلًا عمن يمارسون هذا الفكر في الحياة العملية بغير إفصاح يتعلق بالكتابة وفي المقالات والكتب وبالمحاضرات والدروس.
نحن مثلًا عندما نبحث عن حركة التجديد في الفكر الإسلامي الحديث، ننظر في كتابات من الطهطاوي والأفغاني إلى الطاهر بن عاشور، ولكننا لا نفطن إلى مناهج التدريس في الأزهر وغيره ونظم الدراسة في المعاهد الدينية ومدى تطورها أو بقائها على حالها، وكل ذلك جرى بأيدي الكتاب المعروفين وبأيدي غيرهم أيضًا ممن كان لهم سهم كبير في تطوير هذه المؤسسات، وفي إنشاء معاهد جديدة للفكر الديني”، وهذا الأمر تجده يتكرر عند البشري بإهمال بقية المؤسسات من حركة التجديد.
ولا يعني هذا أن الحركات الإسلامية لم ترغب في المشاركة في القرار السياسي والسلطة، فالنموذج الذي يمكن أن يفسر عدم هذه المشاركة هو بادئ الرأي من إفرازات النظم الشمولية التي تملك الديناميات الكافية لإقصاء المعارضة، لكن النموذج المتبع للحركات الإسلامية كان يحيد بشكل غريب عن تفهم هذا المدخل، أو حتى يصل لفهم الكيفية التي تتعامل بها هذه الأنظمة الشمولية، فمؤسسات الدولة صممت لدمج بعض التوجهات وإقصاء البعض الآخر، لذا فالتغيير يصبح مستحيلاً دون التأثير في هذه الموسسات والرؤية التي صممت بها.
وفي الأردن وكذلك المغرب كانت نشأة الدولة بين مطرقة الاستعمار وسندان المعارضة
لا يمكن فهم تلك المؤسسات دون فهم النموذج الاقتصادي الذي تتبناه هذه الدول، والأمثلة التي يمكنها أن تبين ذلك كثيرة في مصر، مثلًا كانت جماعة الإخوان المسلمون جماعة محظورة طيلة الفترة التي حكم فيها الرئيس حسني مبارك، هذا الأمر ليس بجديد، فالتصميم الذي بني عليه النظام من بعد ثورة يوليو كان معدًا منذ تنظيم الطلائع لاستمرار حكم العسكر وعدم مشاركة المدنيين، لذا كان إقصاء محمد نجيب لرغبته في مدنية الحكم.
وفي الأردن وكذلك المغرب كانت نشأة الدولة بين مطرقة الاستعمار وسندان المعارضة، ففي الأردن الملك عبد الله حاول أن يوازن بين الإمكانات العسكرية التي تحصل عليها من التعامل مع المملكة المتحدة والمعارضة التي كانت تطالب بفك الارتباط الكامل مع الإنجليز، لذا كان لا بد من الموازنة، هذا الأمر صار أكثر تعقيدًا بعد هزيمة العرب عام 1948 حيث سعى الأردن لضم الضفة الغربية الأمر الذي رفضه الفلسطينيون، وصار لزامًا على الملك أن يقوي جبهته الداخلية لذا حل البرلمان عام 1949 ودعا لانتخابات ولمشاركة واسعة من قوى المعارضة على أمل إضعاف الجبهة المعارضة له من الجانب الفلسطيني والأردنيين المعارضين لسياسته الخارجية، ورغم ذلك اغتيل الملك عبد الله يوليو عام 1951.
بعد موت الملك عبد الله كان التساؤل عن شرعية الأسرة الهاشمية لحكم الضفة الغربية والأردن، لذا كان هناك إصلاحات واسعة قام بها النظام الأردني – مع مجيء االملك طلال – في الدستور تمثلت في إصلاحات أعطت صلاحيات أوسع لرئيس الوزراء، وبذا كان هناك انتخابات ونوع من الانفتاح على المعارضة بالطريقة التي تسمح بالتوازن بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، هذا التصميم هو الذي يمكن أن يفكك معادلة النظم وليس البحث عن قاعدة اجتماعية واسعة من دون وعي بطبيعة الأنظمة والصراع داخلها.
في المغرب نجد الأسرة الحاكمة تحاول أن توازن بين الاستعمار الفرنسي والأخطار المحدقة بها على حدودها مع الجزائر وفي الصحراء، لذا لم يكن أمام فرنسا التي لم تستطع أن تسيطر ولو على شبر واحد من المغرب إلا بمقاومة شرسة من هذه القبائل، إلا تكوين حلف حاكم قادر على ضمان مصالحها والسيطرة على المعارضة القوية في المغرب، وذلك بعد نفي الملك محمد الخامس الذي تحالف مع القوى الوطنية والقومية العربية، وتحت ضغط القوى المدنية عاد السلطان وجرت محادثات بين السلطان والاستعمار الفرنسي ولم يتم تصميم النظام إلا بعد محادثات طويلة بين الملك وحزب الاستقلال والقوى الوطنية لتكوين ملكية دستورية ونظام انتخابي يضمن عدم وصول هذه الأحزاب للحكم، واستمر الصراع بعد ذلك بين الملك ومعارضيه.
في ماليزيا نجد أن رؤية التون مهاتير محمد وقدرته على التعامل مع الأسرة الحاكمة رغم أنه ليس منها وفهمه لمعضلة ماليزيا المتمثلة في غياب فاعلية الملاويين
هذه التحالفات الحاكمة في الدول العربية هي التي حكمت في تركيا وماليزيا، ففي التجربة التركية نجد كيف تمكنت الأحزاب المعارضة من المشاركة وتصميم النظام (الثورة الصامتة) بطريقة تعاكس هذه الظروف التاريخية، فإن قدرة حزب العدالة والتنمية على الاستفادة من مؤسسات فتح الله غولن والقدرة على التعامل مع مؤسسات الدولة والتأثير في الدستور والنموذج السياسي القائم قد مكن الحزب من التأثير في المشهد السياسي ومن ثم صار هناك تأثير على المجتمع وتوجيه الرأي العام.
وفي ماليزيا نجد أن رؤية التون مهاتير محمد وقدرته على التعامل مع الأسرة الحاكمة رغم أنه ليس منها وفهمه لمعضلة ماليزيا المتمثلة في غياب فاعلية الملاويين (النسبة الأكبر من السكان)، حين عمل على التحفيز الديني والأخلاقي لهم، مكن مهاتير من التعامل الحكيم مع الحركات الإسلامية والوصول بها ومعها لمشروعه الذي يهدف لإحداث التوازن مع الأقلية الصينية والهندية، لذا فاستراتيجيته للتحالف مع الإسلام السياسي كانت لدعم الملاويين وتشكيل قوة اجتماعية من خلالهم، في الوقت الذي كان هدف الحركات الإسلامية إقامة الشريعة والحضور المجتمعي للتوجيه والوعظ وإقامة المؤسسات الخدمية والاجتماعية، لكن الانتقال نحو التنمية كان من خلال مؤسسات الدولة والحزب الحاكم الذي استطاع أن ينظر للمعادلة بمنظور أوسع حقق به التنمية واستوعب الحركات الإسلامية، الأمر الذي يعزى إليه الاستقرار السياسي والبعد عن العنف داخل ماليزيا.
في أندونيسيا – كما سنرى – صارت الأحزاب الإسلامية أحزابًا تسعى للسلطة كغيرها من الأحزاب تقيم التحالفات وتدخل الانتخابات وصاروا قوة دفع للمشهد السياسي نحو الاستقرار.
هذا الأمر يستدعي من الحركات الإسلامية إدخال نوع من النسبية في خطابها وفهم السياقات السياسية التي صممت بها الأنظمة السياسية في المنطقة، وليس مجرد الحديث العام الذي يجعل مصر مثل تونس مثل المغرب، وتصبح ردود الفعل هي الاختلاف بين هذه الحركات الاجتماعية أو الخيارات التي قد تجبر الظروف عليها هذه الحركات.