هل سمعت عما يسمي بحرب الخليج البعيدة من قبل؟ تلك الحرب التي من الممكن أن تدور رحاها – حتى إن كانت في صورتها الباردة – خارج نطاق دول الخليج، وذلك بعد أن عاود ميناء “جوادر” فرض نفسه مجددًا تحت دائرة الأضواء العالمية، مهددًا بسحب البساط من تحت أقدام دولة الإمارات العربية المتحدة.
الميناء الذي وصف بأنه “دبي الجديدة” ويطل على بحر العرب جنوب غربي باكستان بالقرب من مضيق هرمز الذي تعبر منه ثلث تجارة النفط العالمية، هو جزء من مشروع “حزام واحد وطريق واحد” الذي أعلنته الصين عام 2013 في سياق صعودها المستمر كقوةٍ اقتصاديةٍ عظمى، بهدف إيصال بضائعها مباشرة إلى مختلف أنحاء العالم في أقل وقت ممكن.
هذا المشروع الصيني الباكستاني الذي يصب في صالح بعض الدول بينما يهدد مصالح دول أخرى يجسد حالة الصراع الإقليمي بامتياز، مما يشير إلى احتمالية قرب تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، بل ربما يتجاوز ذلك إلى توسيع دائرة الصراع إلى ما هو أبعد من الإقليمي حال تدخل كل من الولايات المتحدة وروسيا، فكيف تتعامل الإمارات مع هذا الخطر الذي قد يطيح بها كأحد أبرز مراكز التجارة العالمية في الشرق الأوسط؟
أهمية ميناء جوادر
يتميز ميناء جوادر بموقعه الاستراتيجي العام، حيث يربط بين جنوب ووسط آسيا والشرق الأوسط، فضلاً عن كونه الجزء الأكثر أهمية في طريق الحرير القديم الذي يربط الصين بالقارات القديمة الثلاثة (آسيا أوروبا وإفريقيا)، وذلك نظرًا لإطلالته على بحر العرب قرب مضيق هرمز، مما يساعد في تقليل الوقت والمال بالنسبة للرحلات والقوافل التجارية التي تعبر من خلاله.
المضيق كان يقع في السابق تحت سيطرة سلطنة عمان منذ عام 1779، قبل أن تستعيده باكستان عام 1958، غير أنه ظل معطلاً قرابة 44 عامًا إلى أن شرعت إسلام أباد في الاستفادة من مياهه العميقة وصلاحيته لاستقبال السفن العملاقة ومن ثم بدأ التفكير في استغلاله كميناء بصورة أولية عام 2002.
مع حلول عام 2013 أعلنت الصين مشروعها التاريخي “حزام واحد وطريق واحد” وهو عبارة حزمة من المشروعات تستهدف بناء شبكة من الطرق البحرية والبرية العملاقة، بمشاركة 68 دولة، في خطة زمنية محددة، بهدف إيصال البضائع الصينية مباشرة إلى أنحاء العالم.
ويعد ميناء جوادر أحد أبرز الأرقام المؤثرة في هذا المشروع، نظرًا لقربه من الصين، إذ يعد أقرب ميناء لإقليم شينجيانغ الصناعي، إذا ما قُورن بالمواني الصينية الواقعة شرقها، ومن خلاله يمكن لبكين أن تعبر بتجارتها برًا على طول جغرافيا باكستان من خلال الطرق التي تَمَّ إنشاؤها حتى تصل إلى جوادر، ومن هناك يتم نقل البضائع إلى دول الخليج والشرق الأوسط.
سارعت الإمارات إلى إحداث ضربة استباقية لإجهاض المشروع مبكرًا قبل أن يتحول إلى واقع خاصة بعد التوقعات التي تشير إلى بلوغ تأثيره الكامل على ميناء جبل علي في غضون عشر سنوات فقط
الكلفة المتوقعة للاستثمار السنوي في المشروع الصيني الباكستاني تقدر بنحو 150 مليار دولار سنويًا، حيث ينقسم المشروع إلى حزام بري وطريق بحري، ويقع جوادر ضمن خطة الحزام البري الذي يتكون من 6 طرق رئيسية أشهرها طريق قطار لندن السور العظيم الذي يقطع 18 ألف كيلومتر ويمر بتسع دول (الصين، كازاخستان، روسيا، بلاروسيا، بولندا، ألمانيا، بلجيكا، بريطانيا، فرنسا)، حسبما أشار موقع “opendemocracy” في تقرير له.
لم تجد إسلام أباد فرصة أفضل من ذلك لتضع نفسها تحت دائرة الأضواء العالمية، فضلاً عن العائد الاقتصادي المتوقع من الشراكة الصينية في هذا المشروع، ومن ثم أعلنت الحكومة الباكستانية في 2015 تسليمها أراضٍ بمساحة 152 هكتارًا في منطقة التجارة بميناء جوادر لشركة الصين القابضة للمواني الخارجية بحقّ استغلال لمدة 43 عامًا، بهدف تسهيل وصول البضائع الصينية مباشرة إلى منطقة الخليج والشرق الأوسط عبر الميناء.
وفي الـ10 من أبريل 2016، أعلن تشانغ باو تشونغ رئيس مجلس إدارة الشركة الصينية، أن “شركته قد تنفق ما مجموعه 4.5 مليار دولار على الطرق والطاقة والفنادق وغيرها من البنى التحتية للمنطقة الصناعية في جوادر”، مضيفًا “الشركة تخطط أيضًا لبناء مطار دولي ومحطة لتوليد الكهرباء في الميناء الباكستاني”، لتصل أولى شحنات البضائع الصينية للميناء الباكستاني في نهاية 2016 بعد أن قطعت مسافة 3 آلاف كيلومتر من إقليم شينجيانغ، لتحدث هزة عنيفة في خريطة الصراع الإقليمي بصورة كبيرة.
زيارة رئيس وزراء الهند للإمارات في 2015 هي الأولى منذ 37 عامًا
تهديد لميناء دبي
تعد دبي عصب الحياة الأول للإماراتيين، وصورتهم الذهنية التي صدروها للفت أنظار العالم لهم، كذلك فهي حاضنة الجزء الأكبر من استثماراتهم لتصبح مركزًا عالميًا للتجارة والمال والسياحة، ومن هنا برزت كمدينة عالمية متعددة الثقافات، قادرة على أن تكون قبلة للسائحين ورجال الأعمال في آن واحد.
تعود أهمية دبي في المقام الأول بجوار البنية التحتية التي تتميز بها، إلى وجود ميناء جبل علي الذي يعد الأكبر في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى ميناء راشد، ومن ثم باتت المدينة الإماراتية الأكثر شهرة موطنًا لما يقرب من 5 آلاف شركة من 120 بلدًا من مختلف دول العالم.
ويعتمد اقتصاد الإمارات على العائد من الخدمات التي تقدم من خلال هذه المواني، فهي النافذة التي تدر ذهبًا دون توقف، في ظل تفرد دبي بهذه المكانة اللوجستية الكبيرة في المنطقة، دون مزاحمة أو منافسة لها من أي مشروعات أخرى ربما تهددها أو تقلص من حصتها، لكن ماذا لو تم تدشين المشروع الصيني الباكستاني وبرز ميناء جوادر كأحد المواني القادرة على جذب الأنظار إليها في ظل ما تملكه من مقومات جغرافية ومادية كما تم الإشارة إليه؟
الميناء الباكستاني لم يعد قضية صراع إقليمي فحسب، فالولايات المتحدة بدورها تقف إلى جانب الهند والإمارات بينما تتدخل روسيا لتدعم ضفة الصين وباكستان، مما يعني أن المسألة باتت مسألة صراع دولي على النفوذ والسيطرة
الإمارات تتحرك لإجهاضه
سارعت الإمارات إلى إحداث ضربة استباقية لإجهاض المشروع مبكرًا قبل أن يتحول إلى واقع خاصة بعد التوقعات التي تشير إلى بلوغ تأثيره الكامل على ميناء جبل علي في غضون عشر سنوات فقط، وذلك عن طريق محورين:
الأول: دعم المعارضة الباكستانية واحتضانها وتعزيز توجهاتها في مواجهة رئيس الوزراء الباكستاني السابق نواز شريف الداعم القوي للمشروع الصيني الباكتساني الذي تمت الإطاحة به من منصبه يوليو الماضي على خلفية اتهامه بالفساد في واقعة تشير بعض المصادر إلى ضلوع الإمارات خلفها بصورة كبيرة، بعد أن زودت جهات التحقيق التي شُكلت لمحاسبة شريف بتقارير تفيد ترؤسه لمجلس إدارة شركة يملكها نجله حسن في دبي، ويتقاضى راتبًا عبر حسابه البنكي في الإمارات إلى عام 2014 أي بعد عام كامل من وصوله للسلطة، وهذا الراتب أخفاه عن عيون الجهات الضريبية، وهو ما دفع لجنة التحقيق إلى إدانته.
الثاني: إحياء العلاقات مجددًا مع خصوم باكستان في المنطقة، وعلى رأسها الهند، فكانت الزيارة الأولى لرئيس الوزراء الهندي نارندار مودي، إلى الإمارات في 2015 وهو نفس العام الذي أعلنت فيه الحكومة الباكستانية تسليمها أراضٍ بمنطقة التجارة بميناء جوادر لشركة الصين القابضة للمواني الخارجية للبدء في المشروع رسميًا، علمًا بأن هذه الزيارة هي الأولى لرئيس وزراء الهند لدولة الإمارات منذ 37 عامًا.
في المقابل رحبت الهند بالشراكة الإماراتية من أجل إجهاض المشروع، كونها أحد المتضررين منه أيضًا، إذ إنه ووفق المسار الجغرافي للمشروع سيمر في إقليم كشمير المتنازع عليه مع باكستان، وهو ما يعني أن الإقليم سيخضع للحماية الصينية بعد أن أصبح ممرًا لبضائعها.
يتميز ميناء جوادر بموقعه الاستراتيجي العام، حيث يربط بين جنوب ووسط آسيا والشرق الأوسط، فضلاً عن كونه الجزء الأكثر أهمية في طريق الحرير القديم الذي يربط الصين بالقارات القديمة الثلاثة (آسيا وأوروبا وإفريقيا)
اتهامات للإمارات بالوقوف وراء الإطاحة بنواز شريف
صراع نفوذ
من الواضح أن ميناء جوادر والمشروع الصيني الباكستاني حول المنطقة إلى ساحة لصراع النفوذ الإقليمي، إذ لم يتقصر الأمر على الدول الأطراف في المواجهة، الإمارات من جانب، وباكستان والصين من جانب آخر، فبعد دخول الهند على خط المواجهة من خلال تفعيل الشراكة مع أبو ظبي، قامت إيران هي الأخرى بدورها بتعجيل عملية تطوير ميناء تشابهار الذي يبتعد 165 كيلومترًا عن جوادر، وسلمت الميناء بشكل كامل للهند ضمن خطة تكلفت نحو نصف مليار دولار، خشية منها من التداعيات المترتبة على الميناء الباكستاني.
كما دخلت قطر هي الأخرى في هذا المضمار، إذ يدرك القطريون الأهمية المحورية لميناء جوادر، كأحد أبرز المتغيرات التي من الممكن أن تعيد رسم خريطة المنطقة بأكملها، ومن هنا كان إعلان الاستعداد لدفع 15% من إجمالي كلفة إنشاء “الممر الصيني الباكستاني”، وهو ما مثل ضغطًا على الإمارات بصورة كبيرة، مما دفع البعض إلى الربط بين هذه الخطوة والأزمة الخليجية الأخيرة.
ومن ثم فإن الميناء الباكستاني لم يعد قضية صراع إقليمي فحسب، فالولايات المتحدة بدورها تقف إلى جانب الهند والإمارات بينما تتدخل روسيا لتدعم ضفة الصين وباكستان، مما يعني أن المسألة باتت مسألة صراع دولي على النفوذ والسيطرة، فنجاح الصين وباكستان وقطر في جوادر لا يعني فقط نقطة إيجابية لباكستان في صراعها التاريخي مع الهند، وامتداد إضافي لنفوذ روسيا المتصاعد في آسيا الوسطى، ومحطة متقدمة للصين نحو منطقة الخليج والشرق الأوسط، بل يحمل تهديدًا لدور دبي المعهود كمركز تجاري عالمي في غضون عشر سنوات من الآن.