ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ بضع سنوات، فقدت صديقة لي أباها. وذات يوم، وجدتها تجلس وحيدة على أحد المقاعد المتواجدة خارج مكان عملنا. كانت لا تتحرك البتة وتحدق في الأفق. في الحقيقة، كانت مصابة بحالة من الذهول التام، ولم أكن أعرف ما الذي ينبغي علي قوله لها. فمن السهل جدا أن أتفوه بكلمات غير مناسبة لشخص حزين وضعيف. لذلك، بدأت أتحدث عن كيفية النشأة دون أب، حيث قلت لها إن والدي غرق في غواصة عندما كنت في التاسعة من عمري. وكنت دائما أشعر بالحزن لفقدانه، على الرغم من أنني لم أعرفه قط.
من خلال حديثي، أردت فقط أن تدرك أنها ليست لوحدها في محنتها، وأنني عشت حادثة مماثلة لما عاشته ويمكن أن أفهم كيف تشعر الآن. ولكن، بعد أن سردت عليها هذه القصة، نظرت صديقتي صوبي وبدأت تصرخ في وجهي: “حسنا، سيليست، لم يكن لديكِ أب وأنا على الأقل عشت مع أبي ثلاثين سنة. وأنت عشتِ حياة مأساوية أكثر مني. لذلك أعتقد أنه لا ينبغي أن أشعر بالحزن لأن والدي توفي للتو”.
في تلك اللحظة، ذهلت وشعرت بالإحراج جدا من ردة فعلها. ولكني رددت عليها قائلا بسرعة: “لا، لا، لا”، وأردفت قائلة، “ليس هذا ما قصدته على الإطلاق. أنا فقط أعني أنني أعرف كيف تشعرين”. ولكنها أجابت: “لا، سيليست، لا أنت لا تعلمين، ليست لديكِ أدنى فكرة عما أشعر به”.
على إثر ذلك، سارت صديقتي بعيدا، وبقيت أنظر لها بعجز وهي تذهب وترتجف من شدة الغضب. في الحقيقة، لقد خذلت صديقتي تماما. كنت أرغب مواساتها والتخفيف عنها إلا أنني جعلتها تشعر بالسوء أكثر. في تلك المرحلة، ما زلت أشعر أنها قد أساءت فهمي، واعتقدت أنها كانت في حالة يرثى لها، لذلك هاجمتني بشكل غير عادل عندما كنت أحاول فقط مساعدتها.
يصف المتخصص في علم الاجتماع، تشارلز ديربر، هذا الاتجاه المتعلق بالحديث عن نفسك أثناء محادثة
“بالنرجسية التحادثية”
في الحقيقة، هي لم تسئ فهمي قط، بل فهمت ما كان يحدث ربما أفضل مني. فعندما بدأت تتحدث لي عن مشاعرها الجياشة شعرت بعدم الارتياح، فضلا عن أني لم أكن أعرف ماذا أقول بالضبط في تلك الحالة، لذلك لجأت إلى الحديث عن الموضوع الذي كنت أشعر بالراحة تجاهه وهو: نفسي.
ربما كنت قد حاولت التعاطف معها، على الأقل على مستوى الوعي الباطني، ولكن ما فعلته حقا هو جذب التركيز بعيدا عن آلامها وتحويل انتباهها لي. لقد أرادت صديقتي التحدث معي عن والدها، وعن أي نوع من الرجال كان، وأن تشاركني ذكرياتها العزيزة على قلبها معه، حتى أقدّر تماما حجم خسارتها، بيد أنني طلبت منها التوقف للحظة والاستماع إلى قصتي وعن وفاة أبي المأساوية.
منذ ذلك اليوم، بدأت ألاحظ عدد المرات التي كنت أتفاعل فيها مع القصص التي كان يرويها لي أصدقائي عن خسارتهم لبعض المقربين عن طريق سرد قصص تعكس خبرتي الخاصة في الحياة. فعلى سبيل المثال؛ عندما كان ابني يتحدث لي عن مشاجرته مع طفل في الكشافة كنت أتحدث له عن فتاة سقطت معها في الكلية.
فضلا عن ذلك، عندما تم تسريح زميلة لي من العمل، تحدثت معها عن كم كافحت من أجل العثور على وظيفة بعد أن تم فصلي من العمل قبل سنوات. وعندما بدأت أعير المزيد من الاهتمام لكيفية ردي على الناس عندما كنت بصدد التعاطف معهم، أدركت أن تأثير مشاركتي تجاربي الخاصة مع الآخرين لم يكن مطلقا كما قصدت. كان كل ما يحتاجه هؤلاء الناس هو أن أسمعهم وأدرك ما كانوا يمرون به. وبدلا من ذلك، كنت أجبرهم على الاستماع لي.
في شأن ذي صلة، يصف المتخصص في علم الاجتماع، تشارلز ديربر، هذا الاتجاه المتعلق بالحديث عن نفسك أثناء محادثة “بالنرجسية التحادثية”، حيث يريد الشخص الهيمنة على كامل الحوار وتحويل الانتباه نحو ذاته. وفي الحقيقة، يفعل الشخص ذلك بطريقة غير واعية. وفي هذا السياق، أوضح ديربر أن “النرجسية التحادثية تعتبر من بين مظاهر الهيمنة للحصول على الانتباه في علم النفس بالولايات المتحدة الأمريكية”.
إلى جانب ذلك، تحدث هذه النرجسية التحادثية خلال المحادثات غير الرسمية بين الأصدقاء وأفراد العائلة وزملاء العمل. ويؤكد انتشار الأدب الشعبي حول الاستماع وآداب إدارة الحوار مع أولئك الذين يتحدثون باستمرار عن أنفسهم أن هذه النرجسية التحادثية قد انتشرت في الحياة اليومية”. من جانب آخر، يصف ديربر نوعين من الردود في المحادثات: الردّ الانتقالي والردّ التأييدي. فمن خلال النوع الأول، يحوّل الشخص الانتباه نحو نفسه، بينما في النوع الثاني يدعم الشخص تعليق الشخص الآخر.
مثال على الرد الانتقالي:
ماري: أنا مشغولة جدا الآن.
تيم: أنا أيضا، مشغول.
مثال على الرد التأييدي:
ماري: أنا مشغولة جدا الآن.
تيم: لماذا؟ ما الذي عليك فعله؟
فيما يلي مثال آخر:
الرد الانتقالي:
كارين: أحتاج حذاء جديدا.
مارك: أنا أيضا. الأمور هنا تنهار.
الرد التأييدي:
كارين: أحتاج حذاء جديدا.
مارك: آه نعم، ما الذي تفكر فيه الآن.
بناء على ذلك، تعد الردود الانتقالية سمة مميزة للنرجسية التحادثية لأنها تساعدك على تحويل التركيز باستمرار إلى نفسك. في المقابل، تشجع الردود التأييدية الشخص الآخر على مواصلة قصته، وتجعله يعرف أنك تستمع له ومهتم بسماع المزيد.
المصدر: ثرايف غلوبال