منطقة الياسات
ترسم العلاقة بين السعودية والإمارات في ظاهرها صورة حليفَين قويَّين، لكن خلف الكواليس تدور بين البلدَين خلافات خفية تتجاوز في بعض الأحيان حدود المنافسة الإقليمية، التي لا يدري أطرافها من أين بدأت وإلى أين ستنتهي، خاصة بعد مرور زمن طويل منذ بداية الخلافات الحدودية التي جمعت بين أطراف خليجية حول قضايا شائكة، لا تدري الدبلوماسية الخليجية سبيلًا آمنًا لإنهائها بسلام.
خرج هذا الصراع الهادئ بين الدولتَين الخليجيتَين إلى العلن مؤخرًا مرة أخرى، وفي تطور لافت يشي بعودة هوس السيطرة والمنافسة وانفراط عقد التحالفات القوية التي شكَّلها الحاكمان الفعليان، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، منذ ظهورهما على الساحة السياسية، اتهمت الرياض جارتها أبوظبي بالتعدّي على حدودها، عقب إعلان الأخيرة منطقة الياسات البحرية المتنازع عليها بين البلدَين “منطقة بحرية محمية”.
وفي خطوة تصعيدية نادرة، قدَّمت السعودية شكوى عبر بعثتها الدائمة لدى الأمم المتحدة ضد الإمارات، وأعلنت رفضها الصريح للقرار الإماراتي الصادر عام 2019، والذي يعتبر هذه المنطقة تابعة لأبوظبي، لتكون هذه هي المرة الأولى منذ سنوات طويلة التي طفت فيها الخلافات بين البلدَين إلى السطح، وتتزامن مع عدة مؤشرات تُنذر بنشوب حرب باردة بين الجارتَين الخليجيتَين.
الامارات أصدرت مرسوما بشأن إعلان منطقة (الياسات) منطقة بحرية محمية.
السعودية اعتبرت هذا الإعلان مخالفا للقانون الدولي والاتفاقيات الحدودية بين البلدين وقدمت شكوى في ذلك لدى الأمم المتحدة.
الموضوع مهم، لأن محور الامارات-السعودية يتعاون في خدمة اسرائيل ومحاربة التوجهات الإسلامية… pic.twitter.com/3NCwgPm4s4
— الهاشمي – ALHACHIMI (@MALHACHIMI) April 14, 2024
جذور الخلاف على منطقة الياسات
ذروة القصة تُسجّل حين قدمت البعثة السعودية في الأمم المتحدة يوم 18 مارس/ آذار الماضي، شكوى رسمية موجّهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ضد الإمارات تخصّ منطقة الياسات.
جزر الياسات
منطقة الياسات تقع في أقصى جنوب منطقة الخليج العربي، وتتكون من 4 جزر (الياسات العليا والياسات السفلى وعصام وكرشا) مع المياه المحيطة بها والعديد من الجزر الصغيرة، وتشتهر بالشعاب المرجانية والأعشاب البحرية والشواطئ الرملية والمنحدرات الصخرية.
خريطة منطقة الياسات البحرية
وتعدّ منطقة الياسات من المواقع التي تتميز بالتنوع البيئي، وتزخر بالحياة الطبيعية في أقصى جنوب غرب إمارة أبوظبي، فهي موطن لأكثر من 200 نوع من الأسماك، و40 نوعًا من الشعاب المرجانية، و13 نوعًا من الثدييات البحرية مثل الدلافين والسلاحف البحرية وأبقار البحر، بالإضافة إلى الأهمية التاريخية والثقافية بوجود مواقع أثرية قديمة ومواقع صيد اللؤلؤ.
ويسلط تجدُّد النزاع على منطقة الياسات، التي تعتبرها السعودية ذات سيادة مشتركة، الضوء على الخلافات الإقليمية الطويلة الأمد بين البلدَين الخليجيَّين، والتي كانت منطقة الياسات جزءًا منها قبل تأسيس دولة الإمارات عام 1971.
في ذلك الوقت، بدأ فصل جديد من هوس السيطرة والمنافسة بين الإمارات والسعودية، والذي تعود أصوله إلى النزاعات الإقليمية والسياسات القَبَلية التي سبقت استقلال الإمارات، مع محاولة زايد بن سلطان آل نهيان إبّان تأسيس دولة الإمارات ضمّ إمارتَي البحرين وقطر إلى الاتحاد الإماراتي، لتكون 9 إمارات بدلًا من 7 إمارات كما هو الحال اليوم.
بعد مباحثات وسعي مستمر من قبل الآباء المؤسِّسين للإمارات، أُعلن قيام الإمارات، الدولة المولودة حديثًا في ظرف عصيب، والتي احتاجت إلى اعتراف دولي بها كدولة مستقلة ذات سيادة، لتستخدمه الرياض أداة لتسوية النزاع وغيره من القضايا الحدودية العالقة، وتغيير خارطة توزيع الطاقة المتنازع عليها، بحسب ورقة بحثية نشرها مركز أبحاث “تشاتام هاوس” عام 2020.
وبعد 40 عامًا من المفاوضات حول السيادة المتنازع عليها، وقّعت السعودية والإمارات اتفاقية حدودية عام 1974، عُرفت باتفاقية جدة، التي يُنسب إليها لُبّ الخلاف حول منطقة الياسات، فقد شهدت اعتراف السعودية بالإمارات كدولة مستقلة مقابل خضوعها لرغبة السعودية للتخلي عن شريط حدودي بطول 50 كيلومترًا يفصل الإمارات عن قطر، وضمنت عدم قيام تحالف بين البلدَين قد يُعتبر تحالفًا قويًّا يبسط سيطرته معها على منطقة الخليج.
ونصّت اتفاقية جدة على تحديد الحدود بين البلدَين، وتنازلت السعودية عن جزء من مطالبتها بواحة البريمي الغنية بالنفط، وهي منطقة تقع بين شمال غرب عُمان والإمارات، مقابل الحصول على مجموعة من الأراضي الغنية بالنفط في الحدود بين البلدَين، مثل جزيرة الحويصات، وامتلاك حقل شيبة الذي يمتد إلى الأراضي الإماراتية، والذي شكّل واحدة من نقاط التوتر الحسّاسة بين البلدَين.
وسط الكثبان الرملية الذهبية والبيئة القاسية، يطفو حقل شيبة النفطي فوق بركة نفطية هائلة، يمكن أن تسدّ احتياجات أوروبا النفطية لأكثر من عامَين، والعالم بأسره لأكثر من 160 يومًا، إلا أن هذا الكنز المتكوّن من 145 بئرًا نفطيًّا يخفي خلفه قصة صراع عمره عدة عقود.
يُفترض أن معاهدة جدة أنهت هذا الصراع، ومع ذلك لم تتم تسويته على مستوى الإمارات التي لم تصدّق عليها حتى الآن، وعارضتها منذ عام 1975 بعد ملاحظتها للتناقضات بين الاتفاق الشفهي قبل التوقيع على المعاهدة والنص النهائي المكتوب على الورق للمعاهدة نفسها، وحاولت إعادة التفاوض بشأنها منذ ذلك الحين، بحسب رسالة دكتوراه للأكاديمية الإماراتية نورة المزروعي.
حاولت حكومة الإمارات منذ ذلك الحين إعادة السعودية إلى طاولة المفاوضات لاستعادة تلك الأراضي، حتى وصل الخلاف إلى ذروته في عام 1999، عندما حاول حاكم الإمارات الضغط على السعودية لتقاسُم عوائد حقل شيبة، لكن السعودية رفضت هذا المقترح رفضًا تامًّا.
وعليه أعلنت الإمارات مقاطعة مؤتمر وزراء الخارجية والنفط لدول مجلس التعاون الخليجي في السعودية، بدعم من سلطنة عُمان، والذي عُقد بالتزامن مع الاحتجاج على تدشين حقل للنفط في منطقة شيبة، بذريعة أن الدولة المضيفة لا تُشرك الإمارات في تقاسُم عائدات النفط من هذا الحقل على الرغم من اتفاق جدة.
وفي حين انتهجت الإمارات في عهد زايد بن سلطان سياسة النأي بالنفس عن المشاكل، إلا أن ذلك تغير مع وفاته وصعود ولي عهده خليفة بن زايد آل نهيان للحكم، الذي حاول تصحيح معاهدة جدة، ووصفها بالاتفاقية “الظالمة” التي اُضطرت بلاده توقيعها في ظروف استثنائية، وأثار موضوعها في أول زيارة له للرياض.
وعقب توليه رئاسة الإمارات عام 2004، سعت أبوظبي للضغط مرة أخرى دون أن تجد أي تجاوب سعودي، ليعلن خليفة بن زايد للمرة الأولى، في مطلع عام 2005، أن منطقة الياسات محمية إماراتية بموجب المرسوم الأميري رقم 33، لحماية التنوع البيولوجي البحري وتعزيز السياحة البيئية ودعم البحث العلمي، مع إنشاء أول حيد اصطناعي لزراعة الشعاب المرجانية وتجميع الأنواع المختلفة من الأسماك حول الجزر الأربعة التي تتكون منها المنطقة لإعادة الحياة إلى أعماق البحر.
وفي يونيو/ حزيران 2005، أُعلن أن البلدَين يجريان مباحثات حول ترسيم الحدود وآبار النفط، قادها كل من وزير الداخلية السعودي، نايف بن عبد العزيز، ونائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدولة للشؤون الخارجية آنذاك، حمدان بن زايد آل نهيان، وانتهت إلى أزمة دبلوماسية وسلسلة من الأزمات وردود الأفعال المتتالية.
ودخل البلدان في سجال وصل ذروته عام 2009، عندما أصدرت الإمارات خرائط جديدة يظهر فيها خور العديد تابعًا للمياه الإقليمية الإماراتية، فاتخذت الرياض قرارًا بمنع دخول الإماراتيين الأراضي السعودية ببطاقات الهوية كما هو معمول به، وذلك احتجاجًا على تغيير الإمارات خريطتها الجغرافية الموجودة على بطاقات الهوية.
وردّت وزارة الخارجية الإماراتية على القرار السعودي بمطالبتها مواطنيها الراغبين في السفر إلى السعودية، بعبور أراضي المملكة برًّا إلى دول مجلس التعاون الخليجي باستخدام جوازات سفرهم بدلًا من بطاقات الهوية.
وفي يونيو/ حزيران 2009، أوقفت السعودية آلاف الشاحنات التجارية عند المعبر الحدودي بينها وبين الإمارات كنتيجة للتوترات، وأوضحت ذلك على أنه جزء من تعزيز الرقابة على دخول السيارات من الإمارات إلى أراضيها.
ردّت أبوظبي بعدة تحركات كان آخرها عام 2010، حيث كادت العلاقات تنقطع بين البلدَين، عندما أطلق زورقان تابعان للإمارات النار على زورق سعودي في منطقة خور العديد المتنازع عليها، واُحتجز اثنان من قوات حرس الحدود السعودي، وحتى الآن ما زالت الحدود البحرية بين البلدَين غير متفق عليها.
وقبل عام، وتحديدًا في أبريل/ نيسان 2023، شهد منفذ البطحاء الحدودي بين السعودية والإمارات تكدُّس مئات الشاحنات المحمّلة بالمواد الغذائية والأدوية والسيارات والمواد الاستهلاكية على الجانب الإماراتي، ومُنعت من دخول الرياض بدعوى إحباط محاولة تهريب 10 ملايين حبّة كبتاغون.
لا تعدّ هذه الأزمة الأولى من نوعها، فقد شهد المنفذ الحدودي مطلع مارس/ آذار من ذلك العام أزمة مماثلة، نتج عنها تكدُّس الشاحنات القادمة من الإمارات باتجاه المملكة، وتحدثت وسائل إعلام أردنية عن أن القرار صدر مباشرة من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ما اضطر محمد بن زايد إلى مراسلة ابن سلمان يناشده فتح المعبر.
وتذكِّر هاتان الأزمتان بما حدث على المنفذ في يونيو/ حزيران 2009، عندما منعت السعودية مرور آلاف الشاحنات كنتيجة للتوترات بين البلدَين، وأوضحت ذلك على أنه جزء من تعزيز الرقابة على دخول السيارات من الإمارات إلى أراضيها، واتخذ الجانب الإماراتي الإجراء نفسه، ما عكس الأزمة السياسية بين الأشقاء.
ومع تبدل العلاقة بين البلدين على وقع ثورات الربيع العربي والحرب على اليمن، اختفى ذكر بعض الخلافات، من بينها الخلاف حول حقل الشيبة الذي عاد إلى الواجهة بعد هجمات حوثية طالت العمق السعودي في أغسطس/ آب 2019، وضربت حقلًا نفطيًّا يقع على الحدود مع أبوظبي بـ 10 طائرات مسيَّرة.
خرجت وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية حينها ببيان رسمي نزع عن الحقل صفة الملكية السعودية، واعتبرته موجودًا في أرضها فقط، ولوَّحت بان وصول الهجمات عليه لم يكن ليحدث لو أنه كان تحت سلطتها، ويخالف ذلك ما اعتيد العمل به، في تصرف يشير إلى أن التحالف الحالي بين البلدَين لم يمحِ ما حُفر في تاريخ العلاقة بينهما.
على الجبهة الأخرى المتنازع عليها، أصدر المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي المرسوم الأميري الإماراتي رقم 4 لسنة 2019 بشأن إعلان منطقة الياسات محمية بحرية، بمساحة إجمالية قدرها 2256 كيلومترًا، والذي ينص على توسعة المحمية ذات الأهمية الثقافية والتاريخية والسياسية، لتشمل شبه جزيرة الفزعية والمياه المحيطة بها، ليلغي بذلك المرسوم السابق الذي أعلن عن إنشاء المحمية للمرة الأولى عام 2005.
وبعد ما يقرب من 5 سنوات على هذا القرار، اختارت السعودية الرد الآن عبر الأمم المتحدة، لتبدو هذه المنطقة التي تتمتع بثروات نفطية هائلة وكأنها نبَّهت الأعين الحالمة المتشاركة في جغرافية واحدة داخل دول مجلس التعاون الخليجي، إلى حقيقة البحث عن حقوقها التائهة في رحاب الصحراء البعيدة.
وبحسب الوثيقة المنشورة على موقع الأمم المتحدة، تعارض السعودية القرار الإماراتي، وتعتبره مخالفًا للقانون الدولي، ولا تعترف بأي إجراءات أو ممارسات اتخذتها حكومة الإمارات في المنطقة البحرية قبالة السواحل السعودية “منطقة الياسات”، بما في ذلك البحر الإقليمي للمملكة ومنطقة السيادة المشتركة بين البلدَين وجزيرتَي قفاي ومكاسب.
هوس السيطرة
تعدّ الخلافات الحدودية بين الرياض وأبوظبي حاضرة غائبة، إذ تظهر للعلن بين الحين والآخر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالثروة النفطية الكامنة تحت تراب المنطقة، ويعود أصلها إلى واحة البريمي الحدودية، التي كانت مقسّمة بين عُمان وأبوظبي أثناء الاحتلال البريطاني، بينما تطالب الرياض بالمنطقة التي تعدّ أبرز واحات شبه الجزيرة العربية.
وفي ظل الخلاف في الرؤى بين البلدَين الخليجيَّين، وفي خضمّ الظروف الحالية، ربما استعادت الأذهان بعضًا ممّا دار قبل أكثر من 230 عامًا، عندما اندلع الصراع بين الإمارات والسعودية على أرض سلطنة عُمان، لتحديد تبعية الواحة التي أصبحت منذ ذلك الحين ساحة معركة جديدة.
وفي خمسينيات القرن المنصرم، تجدد الخلاف حول الواحة مع اكتشاف النفط بعد الحرب العالمية الثانية، ودخول أمريكا وبريطانيا على الخط، وتحديدًا عندما بدأت المناوشات عام 1949، وتطورت في بعض الأحيان إلى نزاع محدود شاركت فيه بعض القوات العسكرية، ويُرجع البعض إليه مسألة التنافس الشديد بين البلدَين.
وربما تمثل الواقعة التاريخية التي دارت رحاها قبل تأسيس الاتحاد الإماراتي بعدة سنوات صراعًا من نوع خاص، حيث ظلت عالقة في الأذهان لم تنسها دوافن الأطراف المتصارعة، حتى وإن تناستها الدبلوماسية والتوجُّه السياسي.
وسرعان ما تطور هذا النزاع ليشمل سلطنة عُمان التي شكّلت رفقة الإمارات بعد التأسيس ساحلًا متصالحًا، يمثل الجهة المقابلة للشقيقة الكبرى في الحصول على أقصى حقوق ممكنة تقبع أسفل رمال البريمي، التي أعلنت السعودية ملكيتها لها وما حولها من أراضٍ غنية بالثروات النفطية الهائلة، متجاوزة بحسب تقارير ووثائق تاريخية خط الحدود السعودية المرسّمة عام 1935، والذي يُعرف إعلاميًّا بـ”خط الرياض”.
حينها قام الجيولوجيون التابعون للشركة العربية الأمريكية للنفط (أرامكو) بتخطي هذه الحدود دون العودة إلى شركاء الساحل المتصالح في عُمان والإمارات، في محاولة هي الأولى من نوعها، وأعقبها محاولة أخرى تستهدف استمالة قبائل المنطقة، ومع تعقد الأمور أكثر، لم تُحل بالطرق السلمية، وبدأت الغزوات العسكرية في الواحة التي تتكون من 9 قرى متجاورة.
لكن القضية الخليجية الشائكة على الساحل الجنوبي الشرقي للخليج العربي لم يتم تناولها أبدًا بشيء من العدل، ففي كل مرة كانت المصلحة المتحيزة لطرف من الأطراف هي الغالبة، وذلك في رأي الكاتب جي بي كيلي، فالصراع كما صوَّره في كتابه “الحدود الشرقية لشبه الجزيرة العربية” حمل صورًا مختلفة أبرزها جمع الشركات البترولية الأمريكية والبريطانية المتنافسة على الساحل المتصالح.
أبرزت الخلافات الأخيرة في السياسة الخارجية التوترات المستمرة بينهما، والتي تُضاف إلى ما يملكانه من خلافات حدودية قديمة.
معضلة أخرى كانت تلوح في الأفق، ودفعت الأمور إلى ذلك الصراع الغامض، تتجسّد في أن الحدود بين السعودية التي أُعلنت رسميًّا عام 1932، لم تُرسَّم مع كل من المشيخات المتصالحة مع الإمارات وسلطنة مسقط وعُمان في السلطنة الحالية.
على الرغم من ذلك، كانت الأمور لا تزال هادئة، فلا أحد من أصحاب الحق يطالب بأسهمه في الواحة الحدودية النفطية، لكن بإعلان السعودية ملكيتها الكاملة لواحة البريمي، ومحاولة استمالة قبائلها من بني نعيم وبني جابر والنجدة والظواهر، صار من الحتمي مطالبة بريطانيا بالحقوق القانونية للساحل المتصالح.
في ذلك الوقت، طلبت سلطنة مسقط وعُمان بحقها في الواحة التي على حدودها مع أبوظبي، خاصة بعدما اتفق الجانبان في وقت سابق على أن السيادة مجزّأة بين السلطنة والمشيخة في الإمارات قبل الاتحاد، في حين أقرّت أبوظبي أن إعلان السعودية بملكية الواحة شمل أخماس أراضي أبوظبي في البريمي، الأمر الذي دفع قطر هي الأخرى للدخول على خط النزاع مع جيرانها من دول الخليج.
لكن منذ إشهار الدولة السعودية الأولى، كانت واحة البريمي وقبائلها المتناثرة في الموقع الوحيد الآهل في دائرة قطرها 100 كيلومتر، تدين بالولاء للسعودية بالقوة الناعمة، وأحيانًا باستخدام بعض الحملات العسكرية.
منذ ذلك الوقت، ظلت البريمي في نظر قادة الدولة السعودية، سواء كانت الأولى أو الثانية أو الثالثة، لها أهميتها الواسعة، باعتبارها عمقًا استراتيجيًّا للسعودية على الساحل الجنوبي للخليج العربي، لا يجب التخلي عنه في أي وقت من الأوقات.
ولعلّ ما قاله الملك فيصل آل سعود خلال لقائه وفد الإمارات في الطائف، بعد موافقة زايد بن سلطان على الدخول في مفاوضات لحل النزاع الحدودي بين البلدَين، أبرز دليل على تلك الأهمية البالغة لقرى البريمي التسع في نظر الإدارة السعودية، إذ أكّد الملك فيصل على أن واحة البريمي لا يمكن لأي حاكم سعودي أن يتخلى عنها، كأحد ممتلكات الدولة السعودية التي ورثتها عن الآباء والأجداد.
لكن على الجانب الآخر، لم تهدأ مطالب الإمارات رغم موافقة رمزها التاريخي على المفاوضات في السعي للحصول على حقوقها في الواحة المتوغّلة في الصحراء القاحلة، فقد فتحت الإمارات في أعقاب وفاة زايد آل نهيان عام 2004 القضية بشكل علني، وأُعيدت صياغتها من جديد في زيارة خليفة بن زايد إلى الرياض عام 2006.
المثير للسخرية أنه بينما تسعى الإمارات للتوسُّع على حساب جيرانها، تتناسى جزرها الثلاثة في الخليج العربي (أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى) التي تقول إن إيران تحتلها منذ نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 1971، أي قبل أيام قليلة من استقلالها عن بريطانيا والإعلان عن تأسيسها.
ليست مشكلة حدود فقط
قد يبدو للوهلة الأولى أن السعودية دخلت في صراع معلن مع الإمارات في أروقة الأمم المتحدة، وأنها استنفدت كل الطرق السلمية والودّية مع الإمارات طوال السنوات الفاصلة بين الإعلان الإماراتي والتحرك السعودي، وأن أبوظبي لا تأبه للغضب السعودي الذي لم تتكشف حدوده بعد.
تُبرز الشكوى السعودية الخلافات الأخيرة في سياسات الجارتَين، إذ مرَّ أكثر من عام منذ آخر لقاء جمع ولي العهد السعودي مع رئيس الإمارات.
ويثير الفارق الزمني بين الإعلان عن المرسوم الأميري الإماراتي عام 2019، والتحرك السعودي في الأمم المتحدة مؤخرًا، الكثير من التساؤلات: هل الخلافات الإماراتية السعودية طفت على السطح بشكل معلن؟ وهل دخلت الدولتان في مرحلة تكسير عظام؟
في حين أن الدولتَين كانتا حليفتَين وثيقتَين على مدى العقد الماضي، حيث تعاونتا عسكريًّا في حرب اليمن، وحاصرتا قطر بشكل مشترك -برفقة البحرين ومصر- في فترة 2017-2020، أبرزت الخلافات الأخيرة في السياسة الخارجية التوترات المستمرة بينهما، والتي تُضاف إلى ما تملكانه من خلافات حدودية قديمة.
وتُبرز الشكوى السعودية الخلافات الأخيرة في سياسات الجارتَين، إذ مرَّ أكثر من عام منذ آخر لقاء جمع ولي العهد السعودي مع رئيس الإمارات، الذي لم يشارك في القمة العربية التي دعا لها ابن سلمان بالتزامن مع زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ للرياض في ديسمبر/ كانون الأول 2022، وكذلك لم يتواجد ولي العهد السعودي عندما التقى ابن زايد بزعماء عرب في الإمارات في يناير/ كانون الثاني 2023.
وثمة الكثير من المؤشرات التي ظهرت في السنوات الأخيرة، وتشي بنهاية شهر العسل بين ابن زايد وابن سلمان، الذي بدا أنه ينسحب تدريجيًّا من تحت عباءة معلمه الإماراتي السابق، وأصبح يتنافس معه للسيطرة على الخليج، خاصة مع تضاؤل قوة الولايات المتحدة في المنطقة.
في يوليو/ تموز الماضي، نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” تقريرًا يكشف وجود خلافات قد تعصف بالعلاقات بين الرياض وأبوظبي، لدرجة دفعت ابن سلمان إلى مهاجمة الإمارات، ووصف مواقف مسؤوليها بـ”الطعنة في الظهر”.
وبحسب ما ذكرت الصحيفة الأمريكية، لوّح ابن سلمان، خلال لقائة بمجموعة من الصحفيين في ديسمبر/ كانون الأول 2022، بإمكانية فرض عقوبات على الإمارات إذ لم تستجب لمطالب السعودية، مؤكدًا أنها ستفوق ما حدث مع قطر خلال الأزمة الخليجية التي اندلعت عام 2017، في حين حذّر ابن زايد من أثر تصرفات ابن سلمان على العلاقات بين البلدَين، واتهمه بالتقارب الزائد مع إيران وروسيا دون مشاورة أبوظبي.
تصريحات ابن سلمان جاءت عقب خلافات متصاعدة بين البلدَين، طفا أحدها على السطح في صيف عام 2021، عندما رفضت الإمارات الاتفاق الذي قادته السعودية في اجتماع “أوبك بلس” لإطالة أمد تخفيضات الإنتاج، ووصفته بأنه “غير عادل”، وطالبت بزيادة إنتاجها، مبدية اعتراضها على هيمنة الرياض داخل التحالف النفطي.
لم يتوقف الأمر عند التنافس الاقتصادي الذي يتصدر عادةً مقدمة أسباب الخلاف بين الدولتَين مع الدخول في بداية نهاية عصر النفط، بل جاء قرار سعودي بتعليق الرحلات من وإلى الإمارات بسبب مخاوف تتعلق بفيروس كورونا، وهو ما كشف عن التوترات المتزايدة بين جيران الخليج.
واتخذت السعودية خطوة أخرى وُصفت بـ”التصعيدية” عندما عدّلت قواعد الاستيراد من دول الخليج الأخرى، والتي من شأنها أن تؤثر على البضائع المصنوعة في ما يُسمّى بـ”المناطق الحرة”، بما في ذلك تلك التي تنتجها “إسرائيل”، وذلك في وقت بدت الإمارات منهمكة في علاقات استثمار وتجارة مكثفة مع تل أبيب، في حين لم تنضم السعودية إلى الإمارات وبعض الدول العربية الأخرى في تطبيعها المعلن مع “إسرائيل”، وتوقيع “اتفاق سلام” توسّطت فيه الولايات المتحدة.
وثمة الكثير من الملفات الشائكة التي أثارت في السنوات الأخيرة خلافات علنية، في مقدمتها الحرب في اليمن، حيث قلّصت الإمارات وجودها العسكري في التحالف الذي تقوده السعودية لقتال الحوثيين في اليمن، ثم خرجت على عجل من هذا النزاع الكارثي، تاركة الرياض وحدها غارقة في مستنقع لا تزال تكافح للخروج منه بأقل الأضرار.
وفي موازاة ذلك، أخذت السعودية زمام المبادرة لإنهاء الحصار المفروض على قطر بعد 3 سنوات من القطيعة التي انتهت بتوقيع اتفاق العلا مطلع عام 2021، في حين امتثلت أبوظبي لخطوات التقارب والمصالحة مع قطر، لكن بحماس أقل.
كما أبرزت التحركات الإقليمية الكبرى اختلافًا آخر في وجهات النظر بين حكّام البلدَين الخليجيَّين، حيث يدعم كل طرف أحد الجنرالَين المتنافسَين في السودان، حتى امتد الاقتتال الداخلي بين العسكر إلى منافسة بين الإمارات والسعودية، حيث تعتبر كل منهما الحرب فرصة للسيطرة على السودان وترسيخ مكانتهما الإقليمية في المنطقة، بحسب وصف مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.
وتتزامن الخلافات بين قادة السعودية والإمارات مع حالة تناغم في العلاقات بين مصر والإمارات، إذ حضر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عدة لقاءات نظّمها ابن زايد، فيما تجاهل حضورها ابن سلمان، كان أبرزها قمة قادة الشرق الأوسط، التي شاركت بها دول مصر والأردن وقطر والبحرين، والقمة العالمية للحكومات في دبي، التي تعمَّد فيها السيسي مدح ابن زايد بشكل مبالغ فيه.
في النهاية، يبدو أن هذا الصراع الدائم الذي لم ينتهِ على مدار سنوات طويلة وحتى هذه اللحظة سوف يتجاوز هذه المرة جدران القصور، حيث اعتاد قادة ومسؤولي الدول الخليجية حلّ خلافاتهم خلفها، خاصة أنه لم تصل الأطراف المتنازعة إلى حل جذري للخلاف الحاد بعد، ففي كل مرة يؤجَّل إلى وقت لاحق رغم المطالبات العلنية بإعادة النظر في بعض المعاهدات بينهما.