“القديم ينهار، الجديد لم يولد بعد، في الأثناء تكثر الوحوش الضارية”.. هذه مقولة للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي تحاكي ما تعيشه الثورة التونسية بعد سبع سنوات من صرخة البوعزيزي التي اخترقت جدار الصوت وكسرت حاجز الصمت وانتقلت بمفهوم كوبرنيكوس بشكل دائري (في الجغرافيا العربية) من سوق أسبوعي بسيدي بوزيد في تونس العميقة إلی مضيق باب المندب، لحظة من اللحظات الفارقة في التاريخ لا تقل أهمية عن لحظة الباستيل أو بتروغراد أو الكونكورد، ثورة تونس النموذجية التي كذبت العدة النظرية لإمانويل كانط وماكس فيبر، فذلّت كل نظريات علم الاجتماع التي تعتبر الثورة حدثًا يمكن توقعه انطلاقًا من دراسات اجتماعية.
أمام خصوصية الثورة التونسية التي كانت عفوية، فكانت بالنسبة لبعض المثقفين اليساريين انتفاضة لأنها لم تكن ملتزمة بالسيرورة الثورية الماركسية التي تفترض وجود ترسانة تنظيرية، تحضر لأرضية ثورية فلا “حركة ثورية دون نظرية ثورية” حسب تعبير لينين.
سبع سنوات وما زالت تونس تتلمس طريقها بنسق بطيء نحو دولة الحريات في محيط إقليمي أجهضت فيه كل الثورات وتحولت فيه حسب تعبير عزمي بشارة إلی “هوجات” تأتي علی الأخضر واليابس، وثورة مضادة كرد فعل طبيعي علی الفعل.
مقارنة بين الثورة التونسية والثورة الفرنسية
هذه المقارنة ليست بغاية تنميط الثورة ونمذجتها وإخضاعها لمقاييس علمية، وإنما للقيمة المرجعية التي تتميز بها الثورة الفرنسية باعتبارها الثورة الملهمة التي سبقها زخم فكري وفي أثنائها تم استنباط المفاهيم اللغوية التي نستعملها اليوم في دراسة الثورات علی غرار “الثورة المضادة” و”النظام القديم” و”الجمعية التأسيسية” و”عهد الإرهاب”، كما أصبح رجال ثورتها رموزًا، فنصف الثوريين المعتدلين في أي ثورة بالجيرونديين والراديكاليين باليعاقبة وزعيم الراديكاليين بروبسبيار ورموز النظام القديم بآل بربون.
كما أن الثورة الفرنسية تتقاطع مع الثورة التونسية في غاياتها، فهي ثورة شعبية ثارت علی الأوليغارشية الحاكمة، تنشد الخبز والحرية، كما أن الثورتين انطلقتا بأمل ثم مرتا بأزمات، ورغم أن ثورة تونس ما زالت لم تبح بكل أسرارها ولم تستوف كل فصولها التاريخية، فإنها قطعت أشواطًا يمكن من خلالها مقارنتها بالمراحل الأساسية للثورة الفرنسية، ويمكن أن نستأنس بمقاربة الكاتب الأمريكي كرين برينتون في كتابه “تشريح الثورة” الذي قسم فيها الثورة الفرنسية (وقارنها بالثورات الإنجليزية والأمريكية والروسية) إلی مراحل أساسية، ورغم أن الثورة الفرنسية استندت إلی ترسانة نظرية قوية عرفت بفلسفة الأنوار، فإن الإنتلجاننسيا التونسية قبل الثورة كانت في حالة مهادنة للنظام وتفاجأت بالثورة.
رفضت الأحزاب الراديكالية مثل حزب العمال الشيوعي (حزب محظور) وحركة النهضة (حزب محظور في عهد بن علي) والتكتل من أجل الحريات (معترف به) المشاركة في حكومة يشارك فيها رجالات النظام السابق ومهادنين له
المرحلة الأولی من الثورة: يسميها كرين برينتون مرحلة “شهر العسل” وهي التي أعقبت في الثورة الفرنسية لحظة سقوط الباستيل، وتقابلها في تونس لحظة فرار بن علي، وفي بداية هذه المرحلة يفوز فريق الثورة علی فريق النظام القديم، وتصبح المياه العكرة المليئة بالجدل والشك والتهييج صافية نقية، فترة قصيرة يسود فيها الأمل والفرح، شهر عسل وهمي للثنائي المستحيل “الواقعي والمثالي”، اليوتوبيا التي تسبق الدستوبيا، ففي تونس رغم حالة الانفلات الأمني في الأيام الأولی، فقد ساد الفرح وتشكلت لجان حماية الأحياء في جو من الوئام واللحمة قبل أن تعكر صفوها الأحزاب وانتهازية السياسيين.
حكم المعتدلين: في ثورة تونس كما ثورة فرنسا كان شهر العسل قصيرًا وسرعان ما بدأت بعد سقوط النظام القديم علامات واضحة علی أن الثوار المنتصرين لم يكونوا مجمعين علی ما يفعلونه لإعادة تشكيل البلاد كما دلت احتفالات الانتصار، فالذين تولوا جهاز الحكم في تونس مباشرة رجالاً من المعتدلين كرئيس الحكومة محمد الغنوشي (الوزير الأول في عهد بن علي) الذي عمل علی تمرير الحكم بطريقة سلسة، وتجنب إحداث الفراغ السياسي.
كما أن أغلب الوزراء الذين شاركوا في حكومات ما بعد الثورة (قبل الانتخابات)، كانوا إما من رجال بن علي التكنوقراط الذين لم يثبت تورطهم، أو من قادة الأحزاب التي عرفت باعتدالها في معارضة الديكتاتور مثل حزب الديمقراطي التقدمي (بقيادة نجيب الشابي) وحزب المسار (بقيادة أحمد إبراهيم).
في حين رفضت الأحزاب الراديكالية مثل حزب العمال الشيوعي (حزب محظور) وحركة النهضة (حزب محظور في عهد بن علي) والتكتل من أجل الحريات (معترف به) المشاركة في حكومة يشارك فيها رجالات النظام السابق ومهادنين له، ويمكن تسمية الذين حكموا في حكومات تسيير الأعمال بجيرونديين (المعتدلين الذين حكموا فرنسا بعد سقوط الباستيل) الثورة التونسية.
عهد الإرهاب: هذه المرحلة كانت في تونس أقل دموية وأكثر خصوصية، فجيرونديو الثورة التونسية لم تنصب له المقاصل بل تعرضوا إلی إعدام سياسي عبر المقصلة الانتخابية، حيث عاقب الشعب رموز النظام السابق وكل من شارك معه في مسرحية “التعددية” أو شارك في حكومات تسيير الأعمال بعد الثورة، ورغم أن الأحزاب التي فازت بانتخابات 2011، كانت أحزابًا ثورية، فإنها لم تكن راديكالية بالمعنی اليعقوبي (اليعاقبة في الثورة الفرنسية).
غير أن هذه الأحزاب التي شكلت حكومة الترويكا (النهضة – المؤتمر – التكتل) لم تكن صارمة في فرض القانون، مما عزز الاتهامات حولها بالتواطؤ مع عنف روابط حماية الثورة والتساهل مع دخول الدعاة المتطرفين والسماح لأنصار الشريعة بالنشاط الميداني عقد الاجتماعات ونصب الخيم الدعوية مما ولد فكرًا متطرفًا رسم ملامح عهد الإرهاب التونسي باستهداف دوريات للشرطة والحرس الوطني وذبح الجنود بعد نصب الكمائن في الجبال.
فاز حزب نداء تونس بالأغلبية في انتخابات أكتوبر 2014 غير أن هذه الأغلبية لم تكن مريحة مما اقتضی التحالف مع الكتلة النيابية الثانية وهي كتلة حركة النهضة، وقد سمي هذا التحالف بالتوافق وهي خلطة سياسية تونسية صرفة غيبت “المعارضة”، وهو ما يضر بالديمقراطية الناشئة
واتهام بعض الجهات بتجنيد الشباب وتسفيرهم إلی سوريا، وقد بلغ هذا العهد قمة سعاره باستهداف رموز يسارية وتصفيتهم مثل حادثة اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في فبراير 2013، واغتيال القيادي القومي محمد البراهمي وتوالي العمليات الإرهابية النوعية، والفرق بين عهد الإرهاب الفرنسي وعهد الإرهاب التونسي، أن عهد الإرهاب في بلد الأنوار قاده اليعاقبة بقيادة روبسبيار، لتصفية المعارضين والمعتدلين بقصد تركيز مداميك الدولة العادلة.
حيث يعتبر روبسبيار أن بتر اليد المتعفنة ضروري لإنقاذ باقي الجسد، في حين استهدف عهد الإرهاب التونسي المسار الديمقراطي والأحزاب الحاكمة التي ورغم عدم حزمها وصرامتها في تعاملها مع الأوضاع المنفلتة، فإنها كانت أكبر متضرر من الإرهاب، حيث تصاعد الغضب الشعبي واتحدت كل أطياف المعارضة والمنظمات الوطنية ومكونات المجتمع المدني، للإطاحة بها، وهو ما خلق تحالفًا بين اليسار الراديكالي ورموز النظام السابق في إطار اعتصام الرحيل في صيف 2013، وهو ما هيأ الأرضية لـ”تروميدور” الثورة التونسية.
تروميدور الثورة
وأصل تسمية “تروميدور” يعود إلی يوم التاسع من شهر تروميدور من العام الثاني حسب التقويم الفرنسي الجديد (تقويم وضع بعد الثورة)، والذي شهد إعدام ماكسيميلان روبسبيار الذي لقب نفسه بالثائر غير القابل للفساد، وأطلق المؤرخون الفرنسيون مصطلح “رد الفعل التروميدوري” علی العودة إلى أزمنة أهدأ وأقل بطولية حين قال روبسبيار وهو علی المقصلة: “الثورة مثل ساترن (إله الخصب عند الإغريق) تأكل أبناءها”.
ويطلق الثوار الراديكاليون علی هذه المرحلة “انتصار الثورة المضادة”، وفي تونس يمكن أن نطلق لفظ “التروميدور” علی لقاء البريستول في باريس بين الشيخين بعد صيف عصيب شهدته تونس في 2013، حيث بلغت فيه حمی الثورة أعلی درجاتها، فبلغت حد الاقترب من احتراب أهلي وخاصة بعد حادثة اغتيال القيادي القومي محمد البراهمي، وتعليق نشاط مجلس النواب والانفلات الأمني الذي رافق المظاهرات الليلية، وقد مثّل اللقاء بداية لفصل جديد سينطلق مع الحوار الوطني وتنازل الترويكا عن الحكم وتولي التكنوقراط الحكم وصولاً إلی انتخابات أكتوبر 2014 حيث فاز رموز النظام السابق بالانتخابات التشريعية والرئاسية.
الثورة أصبحت بمثابة الفكر المتأصل والعقيدة الراسخة وستفرض كلمتها في النهاية، بعد أن تستوفي كل مراحلها بنجاحاتها وانتكاساتها ولكم في الثورة الفرنسية الأسوة الحسنة
ديموقراطية التوافق الرثة
كنا أشرنا إلی فوز حزب نداء تونس بالأغلبية في انتخابات أكتوبر 2014 غير أن هذه الأغلبية لم تكن مريحة، مما اقتضی التحالف مع الكتلة النيابية الثانية وهي كتلة حركة النهضة، وربما كان ذلك انطلاقًا من اتفاق مسبق، وقد سمي هذا التحالف بالتوافق وهي خلطة سياسية تونسية صرفة غيبت “المعارضة”، وهو ما يضر بالديمقراطية الناشئة، خصوصًا أن الضغوطات الداخلية والخارجية دفعت بحركة النهضة إلی التخلي عن راديكاليتها مع مؤتمرها العاشر الذي فصل السياسي عن الدعوي وتعاملها مع الواقع السياسي بحذر مفرط وصل حد مصادقتها علی قوانين مثيرة للجدل علی غرار قانون المصالحة الإدارية، كما تشهد الهيئات الدستورية رجات داخلية عنيفة ومحاولات اختراق، مما يجعل المسار الديمقراطي مهددًا خاصة مع ضبابية الرؤية للمدی القريب.
فتونس مقبلة علی محطة انتخابية مصيرية في مارس 2018 وهي الانتخابات البلدية، وتراهن العديد من الأطراف علی عرقلتها، وهو ما يعني إمكانية تعطل الانتخابات التشريعية والرئاسية في أكتوبر 2019، لتكون نهاية التروميدور بوصول” نابليون تونسي” إلی الحكم عبر انقلاب، ولعل تصريح برهان بسيس القيادي في نداء تونس يتقاطع مع ذلك حين قال في تصريح تليفزيوني إن تونس تحتاج إلی حجاج ابن يوسف جديد يعيد الأمور إلی نصابها، وربما يكون في نسخة يمينية مثل كرومويل أو يسارية مثل ستالين، ولكن المؤكد أن الثورة أصبحت بمثابة الفكر المتأصل والعقيدة الراسخة وستفرض كلمتها في النهاية، بعد أن تستوفي كل مراحلها بنجاحاتها وانتكاساتها ولكم في الثورة الفرنسية الأسوة الحسنة.