تطورات الأحداث في محافظات إقليم كردستان العراق – نتيجة الاستعجال غير المبرر في خطوة محاولة الاستقلال عن العراق التي أصر عليها رئيس الإقليم مسعود البرزاني – أدخلت العراق والمنطقة بدوامة جديدة، وانعكست سلبًا حتى على القضية الكردية ووضعتها في منعطف تاريخي خطير جدًا.
في كردستان العراق هنالك العديد من الأحزاب الفاعلة ذات المشارب الفكرية المتنوعة، والموزعة بين العلمانية والإسلامية والقومية، لكنها بالمجمل تتفق على ضرورة قيام دولة للأكراد في العراق والمنطقة.
وبقراءة تاريخ العمل السياسي الكردي نلاحظ أن الحزب الديمقراطي الكردستاني (المعروف باسم البارتي) الذي تأسس على يد الملا مصطفى البرزاني (1903-1979) يُعد من أهم هذه الأحزاب، يليه غريمه التاريخي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني (1933 – 2017) الذي اختير رئيس مؤقت للعراق عام 2005، وجُدد انتخابه من مجلس النواب لرئاسة الجمهورية لـ4 سنوات أخرى في أبريل/ نيسان 2006.
ومن بين أبرز القيادات الكردية مسعود البرزاني مسؤول الحزب الديمقراطي الذي أصبح عضوًا ورئيسًا لمجلس الحكم ببغداد بعد الاحتلال، وشغل منصب رئيس إقليم كردستان الذي توحد في إدارة مشتركة وبرلمان موحد عام 2006، وقدم استقالته من رئاسة الإقليم في العام 2017 بعد أن انقلبت نتائج الاستفتاء (الإيجابية) وصارت نقمة على الإقليم وبشكل متسارع، وأحكمت حكومة بغداد سيطرتها على كركوك، المدينة الغنية بالنفط، وعلى غالبية المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل.
الحزب الديمقراطي الكردستاني ومنذ أن عقد مؤتمره الأول – بمنزل سعيد فهيم بمدينة بغداد بشكل سري في 16 من أغسطس/آب 1946 وبمشاركة 70 ممثلًا بزعامة الملا مصطفى البرزاني، والد مسعود البرزاني – وحتى اليوم يواجه العديد من المشاكل المتجددة مع حكومات بغداد وبقية الأحزاب الكردية، وبالذات المنافس اللدود الاتحاد الوطني الكردستاني.
مستقبل الحزب مرهون بالقدرة على تلافي تداعيات استفتاء الانفصال الذي أجري في 25 من شهر أيلول 2017
الحديث عن مستقبل الحزب الديمقراطي فيه نوع من الصعوبة أو عدم وضوح الرؤية، ذلك لأن الحزب تدهور وضعه نحو الأسوأ بعد الاستفتاء الأخير الذي جرى في محافظات الإقليم الـ4 في العراق: أربيل – السليمانية – دهوك – حلبجة، والمناطق المتنازع عليها وهي مناطق مختلف على عائديتها بين بغداد وأربيل.
وجهت للحزب الديمقراطي العديد من الاتهامات من خصومه في الإقليم وبغداد، ومنها:
– أصبح الحزب حزبًا عائليًا، كونه يعود لعائلة البرزاني والكثير من أفراد العائلة وعناصر الحزب يسيطرون على غالبية المفاصل الحساسة في إدارة الإقليم، مما يعني تهميش بقية الشركاء الكرد في إدارة الإقليم.
– انفراد رئيس الإقليم مسعود البرزاني بالقرارات المختلفة دون الرجوع إلى بقية الشركاء الكرد.
– فشل الحزب في ترتيب البيت السياسي الداخلي الكردي سواء على مستوى العراق أم على مستوى البرلمان وحكومة الإقليم المسيطر عليهما من الحزب الديمقراطي الكردستاني.
– رغم انتهاء ولاية مسعود البرزاني في حكم الإقليم في 19 من أغسطس/آب 2015 فإنه رتب مسألة بقائه بالمنصب بأساليب غير توافقية، قبل استقالته وتوزيع صلاحياته على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية منذ أقل من شهرين.
– انتشار الفساد المالي والإداري في إدارة الإقليم المسيطر عليه من أعضاء الحزب الديمقراطي.
– تجدد معاناة المواطن الكردي المعيشية والخدمية وعدم نجاح رئاسة الإقليم في إيجاد الحلول المناسبة لها.
– إلصاق الأزمة الحاليّة المستمرة في الإقليم برئيس الإقليم والأمين العام للحزب البرزاني، بسبب إصراره على المضي في الاستفتاء على الرغم من المناشدات المحلية والخارجية الداعية للتريث في هذه الخطوة.
إعادة إحياء دور الحزب الديمقراطي تكون بتقاسم السلطة مع شركائه في الإقليم، وإحياء المفاوضات مع الحكومة المركزية بعيدًا عن نظرية استغلال الظروف غير الطبيعية التي يمر بها العراق
هذه الاتهامات وغيرها كانت وما زالت من أهم الصعوبات التي تهدد مستقبل الحزب في داخل الإقليم، لكنه ورغم كل هذه التهديدات فإن الحزب يمكنه أن يعود إلى الساحة الكردية من جديد على اعتبار أنه صاحب أكبر عدد من المقاعد في برلمان الإقليم – لديه 38 مقعدًا من مجموع 111 مقعدًا في البرلمان الكردي – ويمكنه أن يعيد ترتيب أوراقه ثانية.
وفي هذا الإطار وصل صباح الثلاثاء 21 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 وفد رفيع المستوى من حكومة إقليم كردستان برئاسة رئيس الحكومة نيجيرفان البارزاني، إلى المقر الرئيسي لحركة التغيير – ثاني أكبر الكتل الكردية داخل البرلمان – وكان الهدف من الزيارة تحقيق التوافق ووحدة الكلمة بين الأطراف، لمواجهة التحديات التي تواجه الإقليم في هذه المرحلة العصيبة، والسعي لإيجاد حل للمشاكل التي يعاني منها الإقليم.
ورغم أن هذا الحراك جاء بعد إعلان مسعود البرزاني تقسيم صلاحياته على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في الإقليم فإنه جاء في الوقت المناسب وقبل مرحلة بداية المفاوضات الكردية المرتقبة مع حكومة بغداد.
أعتقد أن مستقبل الحزب مرهون بالقدرة على تلافي تداعيات استفتاء الانفصال الذي أجري في 25 من شهر أيلول 2017، حيث إن الاستفتاء قلب موازين المعادلة في المفاوضات الجارية بين بغداد وأربيل، وجعل الكفة تميل لصالح رئيس حكومة بغداد حيدر العبادي، الذي قدمت له أمريكا والعديد من الدول الإقليمية والأوروبية دعمًا سياسيًا وعسكريًا كبيرًا في معارك القوات الحكومية والحشد الشعبي ضد قوات البيشمركة الكردية، ولذلك استطاعت القوات الحكومية – وفي معارك سريعة – أن تبسط سيطرتها على غالبية المناطق المتنازع عليها، ومدينة كركوك الغنية بالنفط، وبهذا فقد الإقليم أهم أوراق المفاوضات مع بغداد بسبب إصرار البرزاني وحزبه على المضي في الاستفتاء.
السبيل الأمثل لإعادة إحياء دور الحزب الديمقراطي يكون بتقاسم السلطة مع شركائه في الإقليم، وإحياء المفاوضات مع الحكومة المركزية بعيدًا عن نظرية استغلال الظروف غير الطبيعية التي يمر بها العراق، وإلا فإن الكفة تميل لصالح الاتحاد الوطني الكردستاني للتربع على رئاسة الإقليم، وبهذا سيخسر الحزب الديمقراطي كثيرًا إذا لم يتدارك الأمر ويعيد ترتيب أوراقه ثانية.
أرى أنه ورغم كل الصعوبات التي تواجه الحزب فإنه يبقى رقمًا صعبًا في المعادلة الكردية، وعليه لا يمكن التعويل على الفرضيات التي تقول إن الحزب الديمقراطي قد انتهى سياسيًا، لأن هذا الكلام بعيد عن الواقع بسبب الثقل الجماهيري والإمكانات المادية والعسكرية التي يمتلكها الحزب.
الحوار بين الأطراف الكردية، ثم السعي لترطيب الأجواء مع حكومة بغداد ودول الجوار وبالذات تركيا يمكن أن يعيد للحزب الديمقراطي الكردستاني الدور الجوهري الذي يمارسه على المستويات المحلية والداخلية والإقليمية، وهذا ما سيكون في الأيام القادمة.