بينما كانت القوى السياسية المعارضة التقليدية تعيد ترتيب صفوفها على شكل هيئات وتنسيقيات ولجان مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، كانت القوى الإسلامية السياسية في الوقت ذاته تعيد ترتيب أوراقها هي الأخرى داخل وخارج البلاد، حيث شهدت بداية الثورة حضورًا لافتًا للقوى والتيارات الإسلامية، التي أصبحت لاعبًا أسياسيًّا ضمن الصراع السياسي والعسكري الدائر.
وتأتي في مقدمة هذه المكونات جماعة الإخوان المسلمين، التي خرجت من سوريا ومن المشهد السياسي السوري كله بعد مواجهتها الدامية مع نظام حافظ الأسد عام 1982، لتحترف الجماعة العمل السياسي في المهجر، وتعود مع بداية الثورة السورية كأحد أبرز المكونات السياسية الإسلامية في سوريا، والأكثر تأثيرًا على الساحة السياسية.
إضافة إلى ذلك، برزت عدة مكونات وتشكيلات سياسية إسلامية أخرى في الداخل السوري، انخرطت مع الحراك الثوري، وكانت جزءًا منه، وشكّلت امتدادًا للمؤسسة الدينية الدمشقية، إضافة إلى المدرسة السلفية التي برزت بشكل واضح مع تحول الثورة إلى العمل المسلح.
وقد تفاعلت هذه المكونات على اختلاف توجهاتها مع ما أصاب الملف السوري من تطورات محلية وإقليمية ودولية، وانخرطت ضمن أجسام المعارضة السورية ومؤسساتها السياسية، لتشكّل رقمًا صعبًا ومهمًّا في أداء المعارضة السياسي، وفي الصراع المسلح ضد النظام.
جماعة الإخوان المسلمين
تأسّست جماعة الإخوان المسلمين في سوريا عام 1942 على يد مصطفى السباعي، الذي اُنتخب مراقبًا عامًّا للجماعة بين عامَي 1945-1946، وتعتبر امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين في مصر التي أسّسها حسن البنا عام 1928، وجزءًا منها.
كانت الجماعة تحظى بحضور اجتماعي وسياسي ملحوظ منذ الفترة الأولى من تأسيسها، وخاضت عدة انتخابات نيابية، حيث فازت بعدة مقاعد نيابية في الانتخابات البرلمانية عام 1947، وشاركت في تشكيل عدد من الحكومات في تلك الحقبة حتى عام 1963، حيث أصدر حزب البعث بعد انقلابه العسكري قرارًا بحظر الجماعة عام 1964.
تبنّت الجماعة مبكرًا موقفًا معارضًا لنظام حافظ الأسد بعد انقلابه العسكري عام 1970، وغابت تمامًا عن الحياة السياسية في سوريا، وهرب قادتها وأعضاؤها خارج البلاد بعد أحداث حماة الشهيرة، عندما دخلت مجموعة “الطليعة المقاتلة” المنشقة عن الجماعة في مواجهة مسلحة مع النظام.
تبعت ذلك موجات من الاعتقالات والمجازر التي طالت أعضاء وأنصار الجماعة، فضلًا عن إصدار حافظ الأسد القانون رقم 49 عام 1980 القاضي بحظر الجماعة والحكم على أعضائها والمنتمين إليها بالإعدام، الأمر الذي انتهى باجتثاث الجماعة عقب مجزرة حماة عام 1982، التي راح ضحيتها أكثر من 40 ألف مدني.
انعكس التاريخ الدموي لجماعة لإخوان المسلمين مع النظام على طبيعة موقفها من المشاركة ودعم الثورة السورية، حيث اتّسم موقفها بالحذر والإحجام عن المشاركة، ولم تصدر بيانها الرسمي الأول الداعم للثورة إلا أواخر أبريل/ نيسان 2011، حين اتهمت الجماعة النظام بشنّ حرب إبادة ممنهَجة ضد الشعب السوري، لتعلن بعدها استئناف نشاطاتها المعارضة ضد النظام بعد إعلان إيقافها مطلع عام 2009.
عمومًا، كانت الجماعة تعاني بالتزامن مع انطلاق الثورة السورية من انقسامات داخلية حادّة، كتلك التي كانت على أُسُس جغرافية (أجنحة حماة وحلب)، ومن ترهُّل سياسي حقيقي، وضعف استقطابها لعنصر الشباب، فضلًا عن الفجوة الكبيرة بينها وبين المجتمع السوري بعد عقود من العمل خارج سوريا.
ومع بداية الثورة، حرصت الجماعة على اتّباع استراتيجيات جديدة لإعادة تنظيم صفوفها والعودة إلى الساحة السورية بعد أن دعمت الحراك الثوري، فوحّدت جناحَي حلب وحماة، وأعادت تشكيل المكتب التنفيذي، وأسّست تيارًا حزبيًّا جديدًا باسم “وعد”، وطوّرت علاقاتها مع المجتمع المدني داخل سوريا، لتعود إلى الساحة السورية بوصفها فاعلًا سياسيًّا مهمًّا ومؤثرًا.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 طالبت الجماعة بتدخل دولي خارجي لإسقاط النظام على طريقة حلف الناتو في ليبيا، وأصدرت لاحقًا خلال مؤتمر صحفي عُقد في إسطنبول عام 2012 وثيقة سمّتها “عهد وميثاق“، حددت فيها تعهُّداتها لمستقبل سوريا في مرحلة ما بعد سقوط الأسد، بالالتزام بدولة مدنية تعددية وديمقراطية، والمساواة بين جميع السوريين، على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، واحترام حقوق الإنسان والحريات.
انخرطت الجماعة مبكرًا في الملف السياسي، وشاركت في تأسيس عدد من الأجسام السياسية، أهمها المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، حيث اُعتبرت الجماعة المكون الإسلامي الأبرز والأقوى بين مختلف الأجسام السياسية الفاعلة، والأكثر تماسكًا وتنظيمًا وانفتاحًا في العمل السياسي الائتلافي، وأكثر مرونة في إدارة التحالفات السياسية والدولية.
ويعود ذلك ربما إلى أسباب تتعلق بعراقة الجماعة في العمل السياسي داخل سوريا قبل البعث، وفي المهجر بعد نفي الجماعة، وإلى كونها تمتلك خبرة تنظيمية حزبية سياسية تتفوق بها على غيرها من التشكيلات السياسية الأخرى.
وفي المقابل، اتهمت قوى سورية ودولية الجماعة بالسعي إلى الهيمنة على الأجسام السياسية الائتلافية، كالمجلس الوطني والائتلاف الوطني، من خلال السيطرة على المفاصل التنظيمية الرئيسية داخل تلك الأجسام، إذ سيطرت الجماعة على المكتب التنفيذي في المجلس الوطني، وعلى المكاتب الإغاثية والهيئة السياسية في الائتلاف، أو عبر تقديم شخصيات وقوى سياسية علمانية تتمتع بعلاقة جيدة معها.
إضافة إلى ذلك، تمتّعت الجماعة بحضور عسكري نشط في الساحة السورية، حيث قدمت الدعم لعدد من فصائل الجيش الحر، كهيئة دروع الثورة وهيئة حماية المدنيين، ولاحقًا فيلق الشام، دون أن يكون لديها فصيل خاص بها.
وفي أغسطس/ آب 2012 كشفت الجماعة عن تشكيلها منذ 3 أشهر كتائب مسلحة تتبع للجيش الحر في الداخل السوري، منتشرة في معظم المناطق والمحافظات السورية، وفي أبريل/ نيسان 2013 نفى المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، محمد رياض الشقفة، وجود جناح مسلح للإخوان في سوريا، مؤكدًا دعم الجماعة عددًا من الكتائب التي توافقها في المنهج الفكري.
الحركة السلفية
شاركت الحركة السلفية في الثورة السورية منذ بداياتها السلمية، وانخرطت بقوة فيها وحققت انتشارًا واسعًا مع تحول الثورة إلى العسكرة، نتيجة للدعم الخارجي السياسي والإعلامي والإغاثي والمالي، حيث بدأت تنتشر الأفكار السلفية في أطراف المدن وهوامش المراكز الحضرية والأرياف، نتيجة لطبيعة الثورة المسلحة التي بدأت في الأطراف وانتقلت منها إلى مراكز المدن، وملأت فراغًا كبيرًا عبر العمل المسلح وتشكيل الفصائل الإسلامية المختلفة.
تنقسم السلفية السورية بشكل رئيسي إلى مدرستَين، سلفية تدعو إلى اللاعنف كنتيجة للقمع الذي مارسه النظام على جماعة الإخوان المسلمين في الثمانينيات، وبقيت محدودة الانتشار، تحت زعامة الشيخ جودت سعيد الذي بدأ بنشر فلسفته الإسلامية عن اللاعنف مطلع الثمانينيات.
وتقوم فلسفة سعيد أساسًا على التغيير السلمي للنظام السياسي، حيث شارك في “إعلان دمشق للتغيير السلمي الديمقراطي” عام 2005، وأيّد الثورة السلمية، وحظيت كلماته وأفكاره باهتمام لدى مجموعات متنوعة من الشباب، لكن ما لبثت أن تراجعت أفكاره بعد أشهر من القمع الشديد للنظام، وتحول الثورة نحو العسكرة.
وتمثلت المدرسة الثانية بالسلفية الجهادية، والتي برزت بشكل رئيسي كردّ فعل على سياسة القمع والتدمير والمجازر الطائفية التي ارتكبها نظام الأسد بعد أشهر من بداية الثورة، وتلقيه دعمًا من قوى وميليشيات شيعية بعد التدخل الإيراني الذي بُني على أساس مذهبي، مع انسداد الأفق للحل السياسي، وانفتاح الحدود الممتدة مع العراق ولبنان وتركيا، ودخول لاعبين إقليميين ودوليين على خط الصراع في سوريا.
كل ذلك ساعد في عملية انتشار الفكر السلفي، وولادة تنظيمات جهادية أخذ بعضها خط الجهاد العالمي، والتي تطمح إلى إقامة خلافة إسلامية، مثل “داعش”، وجبهة النصرة الفرع السوري لتنظيم القاعدة، فضلًا عن ظهور أشكال أخرى من السلفية أخذت طابعًا محليًّا ووطنيًّا كالجبهة الإسلامية وحركة أحرار الشام، إضافة إلى السلفية الجهادية التقليدية المتمثلة بجيش الإسلام.
من جهة أخرى، حصرت الحركة السلفية الجهادية، على اختلاف تصنيفاتها، جهودها بالاستئثار في الميدان السوري والتوسع عسكريًّا في مختلف المناطق السورية، على حساب الانخراط في العمل السياسي والانفتاح على المجتمع.
فعلى سبيل المثال، تميّز خطاب جبهة النصرة في بداية تأسيسها بشعار “إسقاط نظام الأسد ومواجهة الشيعة والعلويين وإيران”، دون أن تشير إلى مرحلة ما بعد الأسد، أو دون الإعلان عن طموحات سياسية أو رؤى سياسية لسوريا المستقبل.
ورغم شكوك المعارضة السياسية والعسكرية المتمثلة بالجيش الحر في ذلك الوقت بعلاقة النصرة بالقاعدة، والجهل بشخصية قائدها أبو محمد الجولاني، إلا أنه لم يكن بوسع قوى الثورة والمعارضة رفض دعم النصرة، حيث دان القائد العسكري للواء التوحيد، عبد القادر صالح، وضع الولايات المتحدة النصرة على قائمة الإرهاب.
كذلك طالب رئيس الائتلاف الوطني السوري حينها، أحمد معاذ الخطيب، الولايات المتحدة مراجعة قرارها باعتبار جماعة جبهة النصرة منظمة إرهابية، وهو الموقف الذي تبدد مع دخول النصرة في صدامات مسلحة مع فصائل الجيش الحر واجتثاث بعضها، ومحاولتها الهيمنة على مكتسبات الثورة.
وعلى خلاف السلفية الجهادية، التي قامت بالأساس على مبدأ الابتعاد عن العمل السياسي والحزبي، والأقل حماسة للديمقراطية، تظهر السلفية الحركية التي يمثلها الشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين، والتي تتميز بطابع انفتاحي عقلاني، إذ تبدي انفتاحها على الحضارة الغربية، وعلى الحياة السياسية والحزبية والديمقراطية، وعلى الفئات المجتمعية، وتؤمن بالعمل السياسي.
في المجمل، تعاني الحركة السلفية في سوريا، باختلاف توجهاتها، من الإرث الثقيل الذي تركته السلفية الجهادية العسكرية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فضلًا عن عدم امتلاكها الخبرة السياسية الكافية في العمل المؤسساتي أو العمل العلني الحركي في سوريا قبل وبعد الثورة السورية.
المدرسة الصوفية
على خلاف الحركة السلفية، فإن المدرسة الصوفية لها حضورها المتجذّر في المجتمع السوري منذ قرون، وتنتشر على شكل جماعات وطرق عديدة، لها حضور واسع على صعيد انتشار الطقوس الدينية والعلماء والشيوخ البارزين والخطباء، كما أن لها حضورًا مهمًّا على المستويَين الديني والاجتماعي.
مع بداية الثورة السورية، اختلفت مواقف هذه الجماعات والشخصيات من الثورة، ما بين منحاز لها كجماعة زيد، ومنسجم مع خطاب النظام مثل مفتي النظام أحمد حسون ومجمع أبو النور ومجمع الفتح، وصامت عمّا يجري بلا موقف واضح كموقف القبيسيات.
ورغم أن هذه الجماعات والمدارس الصوفية استطاعت أن تخلق نهجًا دينيًا عامًّا، إلا أنها فشلت في تحويله إلى نشاط سياسي مباشر، كما أنها غابت بعد الثورة عن الحضور المباشر والواضح في العمل المسلح على صورة تجمع موحّد واضح، رغم انخراط أفراد ينتمون إليها في العمل المسلح بشكل منفرد وغير منظَّم، أو دعم فصائل من الجيش الحر ماليًّا وتوجيهيًّا ومرجعيًّا، كالدعم الذي كان يتلقاه فصيل “الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام” من قبل جماعة زيد.
ختامًا، يمكن القول إن التيارات الإسلامية شكّلت جزءًا أساسيًّا من المشهد السياسي والعسكري خلال الثورة السورية، بدءًا بجماعة الإخوان المسلمين التي استطاعت أن تحظى بتأثير كبير في المجالَين السياسي والعسكري، بما في ذلك تأسيس الهيئات السياسية والمشاركة في التشكيلات السياسية الرسمية، مرورًا بالحركة السلفية التي انحصر عملها في الميدان العسكري، دون الانخراط في العمل السياسي على شكل جماعة موحّدة، وانتهاءً بالحركة الصوفية التي فشلت في تحويل نشاطها المجتمعي والديني إلى نشاط سياسي فاعل ومؤثر.