ساهم الموقع الجغرافي لتركيا بين البلدان الأوروبية من جهة والبلدان الشرق أوسطية من جهة أخرى، بالإضافة إلى حدودها المختلفة مع بحارٍ ثلاث، إلى خلق تنوع كبير وواسع في ثقافات سكانها، فقد اكتسبت على مر العصور الكثير من الثقافات المختلفة جنبًا إلى جنب مع ثقافتها الأصلية، بداعي احتكاكها مع ما يجاورها من بلدان، الأمر الذي انعكس في كثير من نواحي ثقافتها وحضارتها، بما في ذلك الرقص والموسيقى.
تنتشر رقصة “الهورون” بمدن البحر الأسود في تركيا، وتُؤدى في المناسبات المتنوعة مثل مراسم الزواج والحصاد والخطوبة والمهرجانات الشعبية، وتتفاعل معها الأجيال كافة
تُعد الرقصات الشعبية من أهم الرقصات الفنية في تركيا، وتشبه إلى حد ما الرقصات الشعبية في بلاد الشام مثل الدبكة، إذ يصطف الناس معًا ليؤدوا حركات متناسقة ومتشابهة على نغمات فلكلورية معينة، تنتمي كلٌّ منها لمنطقة ما وتشكل جزءًا من هويتها الفنية والثقافية والتاريخية والاجتماعية.
يمكن تقسيم الرقص التركي إلى 3 مدارس أو أنماط مختلفة وذلك بحسب تأثر التقاليد بالثقافات الأخرى المحيطة بها، فهناك النمط التركي الأوروبي ويسمى تراكيا وينتشر في المناطق التركية المحاذية للبلدان الأوروبية التي تأثرت بثقافتها، أما النمط الثاني فهو التركي – المرمري وينتشر في المناطق المطلة على بحر مرمرة، وأخيرًا هناك موسيقى ورقصات البحر الأسود أو ما يُعرف بالتركية بالكارادينيز “karadeniz” وهو أسلوب الرقص المنتشر في وسط شمال تركيا على الخط الموازي للبحر الأسود بالإضافة إلى أغلب مناطق هضبة الأناضول.
رقصة الهورون: تقليد عريق يرتبط بأساطير غابرة
تنتشر رقصة “الهورون” بمدن البحر الأسود في تركيا مثل طرابزون وريزا وأوردو وآرتفين وسامسون وجريسون، وتُؤدى في المناسبات المتنوعة مثل مراسم الزواج والحصاد والخطوبة والمهرجانات الشعبية، وتتفاعل معها الأجيال كافة، وترافقها النغمات الصادحة من الكمنجة المصنوعة من شعر الخيل، والطبل المصنوع من جلد الثيران وشجر البندق.
تتسم رقصة الهورون بالحركات ذات الوتيرة السريعة جدًا للكتف والجزء العلوي للجسم، مع جلسة القرفصاء المفاجئة
هناك العديد من الروايات بشأن أصل الرقصة، فثمة من يقول أن الكلمة أصلًا قادمة من كلمة هوركور”χορός” اللاتينية والتي تعني “الشمس”، والرقصة الحاليّة كانت عبارة عن جزء من الشعائر التي كان شعب الأناضول القديم الذي أقام في بونتوس – التي تقع في المنطقة الشمالية من تركيا اليوم على ساحل البحر الأسود – يؤديها لإله الشمس خاصته.
أما الرواية الأخرى فترجع المعنى إلى “خط من 6 أو 7 سيقان من الذرة ترتبط كلها معًا لتشكل شبكة متماسكة” إشارةً إلى العادة القديمة لسكان المنطقة بزراعة الذرة وحصادها، فما كان منهم إلا أن يستلهموا مما بين يديهم من مزروعات رقصة خاصة لهم، فالرقصة تُؤدى بتشابك الأيدي والأذرع واصطفاف مؤديها بطريقة متماسكة تمامًا كما تتماسك الذرة ببعضها.
تتسم رقصة الهورون بالحركات ذات الوتيرة السريعة جدًا للكتف والجزء العلوي للجسم، مع جلسة القرفصاء المفاجئة، ويُقال إن هذه الحركات ما هي إلا إضافات حديثة للرقصة، أي خلال العهد العثماني، فالرقصة الأصلية مختلفة بعض الشيء وكانت أشبه ما يكون للرقصات اليونانية المنتشرة هذه الأيام.
استمدت جميع حركات رقصة الهورون من اهتزاز أسماك الهمسي الصغيرة التي توجد بوفرة في مياه البحر الأسود وتشكل جزءًا أصيلًا ملازمًا للثقافة الأناضولية هناك بالمدن والقرى المختلفة، فكما يتحرك الخمسي سريعًا مهتزًا في المياه هربًا من شباك الصيادين، يتحرك راقصو الهورون ومؤدو الرقصة سريعًا أيضًا، فهم مثل الخمسي يكافحون بحياتهم ويسعون للنجاة في الظروف الصعبة.
وبشكل عام، فرقصة الهورون نتاج تاريخٍ عريق تداخل مع الطبيعة التي يعيش فيها سكان المنطقة، فكل حركة من حركات الرقصة تحكي كلامًا وحكايات عما يعيشه السكان في حياتهم اليومية وما يواجهونه من مصاعب ومشكلات في سعيهم وكدهم، وما يرونه حولهم في تضاريس الطبيعة المختلفة من أحياء وجمادات، وما ورثوه عن أجدادهم من تاريخ وأساطير وحكايات.
الأغاني الشعبية: لغة مختلفة يرافقها صوت الكمنجة
تختلف اللهجة المحكية في مدن البحر الأسود عن غيرها في المدن الأخرى وعن اللغة التركية القياسية الفصيحة، فتحمل الكلمات فيها طابعًا مميزًا لفظًا وتركيبًا في بعض، الأمر الناتج أساسًا بسبب تأثير اللغات في الدول المجاورة كاليونانية مثلًا، وقد انعكس هذا الاختلاف على الفن والأغاني وأعطاها تميزًا جميلًا يختلف عن باقي الأغاني التركية، خاصة أنه يعرف عنها أنه يصعب على غير سكان المنطقة التحدث أو الغناء بها بإتقان كامل.
وتتميز الأغاني الشعبية في منطقة البحر الأسود بملازمتها لألحان وأنغام الكمنجة التي تعتبر جزءًا أصيلًا من ثقافة وفن تلك المنطقة وتصنع من طبيعتها وما يوجد فيها، وتخرج الألحان من الكمنجة لتعكس الحياة الجبلية لسكان المناطق وعلاقتهم مع الطبيعة الصعبة التي تنعكس أيضًا على شخصياتهم وطباعهم وخصائصهم الاجتماعية.
وبالإضافة للكمنجة، فهناك ما يُعرف بالـtulum وهي آلة موسيقية من آلات النفخ تشتهر بها شعوب البحر الأسود في تركيا واليونان والدول المحيطة بها، مثل شعب اللاز في طرابزون وآرتفين وريزا، وتفرض الآلة أسلوبًا مرحًا راقصًا في معظم الحالات، على النقيض من الكمنجة التي غالبًا ما تكون أداةً للتعبير عن مشاعر الحزن والشوق والحسرة والحنين.
ولعل الفنان كاظم كوينجو يعتبر واحدًا من أشهر فناني ومغنيي البحر الأسود، إذ ولد لعائلة تنتمي لإحدى قرى آرتفين الواقعة في الشمال الشرقي لتركيا على سواحل البحر الأسود، وخلّف قبل وفاته العديد من الأغاني التي شكلت نقطة تحول كبيرة في الفنون الشعبية لثقافة البحر الأسود، وإن كنت ترغب بالتعرف أكثر على هذا النوع من الأغاني، فهناك أسماء لامعة أخرى مثل شوال سام وفؤاد ساكا وفولكان كوناك ورسول دندار وفرقة مرسيس.